المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشرق الأوسط > تقدير موقف > قراءة في المشهد السياسي الفرنسي بعد سحب الثقة من الحكومة
قراءة في المشهد السياسي الفرنسي بعد سحب الثقة من الحكومة
- ديسمبر 7, 2024
- Posted by: Maram Akram
- Category: تقارير وملفات تقدير موقف وحدة الشرق الأوسط
لا توجد تعليقات
إعداد: إسراء عادل
باحث مساعد في وحدة الشؤون الدولية
في تطورٍ غير مسبوقٍ منذ عام 1962، وجدت فرنسا نفسها على شفا أزمةٍ سياسيةٍ كبيرةٍ هددت بانزلاق البلاد نحو أزماتٍ اقتصاديةٍ وماليةٍ كارثية، خاصةً بعدما قام نواب المعارضة الفرنسية بإسقاط الحكومة في الرابع من ديسمبر الجاري، وجاء ذلك في خطوةٍ محوريةٍ لتكشفَ عن مدى الاضطرابات الداخلية الواسعة في باريس، والتي تضعُ البلادَ أمام مفترق طرق حاسم يفتح باباً جديداً من التحولات الجذرية في المشهد السياسي الفرنسي، وبناءً عليه قدّم رئيس الوزراء ميشيل بارنييه استقالته بعد ثلاثة أشهر فقط على توليه مهمة رئاسة الوزراء، وفشلت حكومته في الحصول على الدعم الكافي من البرلمان مع تزايد الضغوط السياسية والشعبية، مما دفعَ ثاني أكبر قوةٍ اقتصاديةٍ في الاتحاد الأوروبي إلى أزمةٍ سياسيةٍ أعمق تقوّضُ من قدرتها على التشريع والسيطرة على العجز الضخم في الميزانية، لتدخلَ البلادُ في دوامةٍ من الاضطرابات الكارثية والتي تُعدُ بمثابة جرسِ انذارٍ حقيقيٍ للمستقبل الفرنسي.
ومع تصاعدِ الأصوات الداعية لاستقالة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، تُثار تساؤلاتٌ جوهريةٌ حول تأثير هذا التطور على الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد، وكيف ستعمق استقالة بارنييه الأزمة السياسية في فرنسا؟ وما هي خيارات ماكرون لإدارة تلك الأزمة؟
أسباب انهيار حكومة بارنييه:
بدأتْ الأزمةُ السياسيةُ في فرنسا عندما قام الرئيس إيمانويل ماكرون بحلِ الجمعية الوطنية في يونيو الماضي في خطوةٍ مفاجئةٍ بعد خسارة أغلبيته البرلمانية في الانتخابات الأخيرة، وجاءت الانتخابات المبكرة لتُفرزَ برلماناً مقسّماً بشكلٍ حاد بين ثلاث كتل رئيسية هي: التحالف اليساري، ومعسكر ماكرون، وأقصى اليمين، دون امتلاك أي طرف للأغلبية المطلقة.
وقد عانتْ حكومة ميشيل بارنييه منذ اللحظة الأولى من وضعها الهشِّ على الرغم من استنادها إلى ائتلاف جمع حزب الرئيس ايمانويل ماكرون واليمين التقليدي، وهو ائتلاف يتمتعُ بأكبر عددٍ من النواب، إلا أنه لا يتمتعُ بالأغلبية المطلقة. ويرجعُ السببُ الرئيسيُ لإسقاط حكومة بارنييه إلى تشبثه بقرار استدعاء المادة 49.3 من الدستور الفرنسي، لتمرير الميزانية التي اقترحها ولم تحظ بالتأييد والتي سعت إلى توفير 60 مليار يورو لتقليص العجز عبر اتخاذ عدة اجراءات لتوفير النفقات العامة ورفع بعض الضرائب، ولكن هذه الخطوة أدتْ إلى تنفيرِ الفصائل اليمينية واليسارية المتطرفة على حد سواء، موحدةً بذلك صفوف المعارضة، ومن هنا أقرت الجمعية الوطنية للمرة الأولى منذ أكثر من 60 عاماً، مذكرةَ حجبِ ثقة عن الحكومة اقترحها اليسار المتشدد، وحصلت على دعم اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبن، وأيدَ المذكرةَ خلال جلسة التصويت 331 نائباً من أصل 574، وهو أكثرُ بكثير من الغالبية المطلوبة. في حين أثارت الميزانية أيضاً اعتراضاتِ حلفاء رئيس الحكومة من حزب الرئيس ماكرون، نظراً لرفضهم أي زيادة في الضرائب، ولكنهم لم يصوتوا لصالحِ حجْبِ الثقة. وتجدرُ الإشارةُ إلى أن حجمَ الدين العام الفرنسي يبلغ ٣٢٢٨ مليار يورو، وتبلغ خدمة الدين السنوية ٦٠ مليار يورو، وهو ما يُعدُ السببَ الرئيسيَ في تراجع الاقتصاد الفرنسي على المستوى الأوروبي والعالمي.[1]
ومن خلال ما سبق، يبدو أن دعمَ التجمع الوطني لحجب الثقة عن الحكومة هو جزءٌ من استراتيجيةٍ كبيرةٍ لتقويض شرعية الرئيس ماكرون، فعلى الرغم من تجنّبِ قادة حزب التجمع الوطني “جوردان بارديلا ومارين لوبان” الدعوة علناً لاستقالة الرئيس إيمانويل ماكرون، إلا أن أعضاءَ الحزب يقومون بنشر هذه الفكرة بصورةٍ غير مباشرة، وبالتالي تُعتبرُ خياراتُ ماكرون محدودةً في ظل الأزمة الحالية، فقد يواجهُ تحدياً كبيراً للحفاظ على شرعيته السياسية وسط مناوراتٍ حزبيةٍ قد تُعيدُ رسْمَ المشهد السياسي الفرنسي، لذلك من المتوقع أن يقومَ ماكرون بإعادة تشكيل الحكومة لتخفيف التوتر، لكنه يستبعد تماماً خطوة الاستقالة في الوقت الحالي.
تداعياتُ انهيارِ الحكومة على المستقبل الفرنسي:
صاحَبَ انهيارُ حكومة ميشيل بارنييه في فرنسا تداعياتٍ هائلةً أثرت على مستقبل البلاد على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية، خاصة مع وقوع احتمال ما يُعرفُ “بالإغلاق الحكومي” أي عدم المصادقة على موازنة 2025، الأمر الذي ينجمُ عنه ارتفاعٌ في قيمة الفائدة ووجود مسائل تختص بتمويل المشروعات الاقتصادية وشركات القطاع العام ودفع أجور الموظفين. وفيما يلي أهم التداعيات الناجمة عن تلك الأزمة:
– على الصعيدِ السياسي: نجدُ أن الأزمةَ السياسيةَ الحاليةَ الناتجة عن انهيار الحكومة قد تهددُ استقرار فرنسا على المدى الطويل، خاصةً في ظل عدم التوافق بين القوى السياسية والذي يعكس بوضوح ضعْفَ النظامِ السياسي في مواجهة تلك التحديات، إلى جانب زعزعة ثقة المواطنين والمؤسسات في قدرة فرنسا على تنفيذ السياسات العامة. وبالتالي فإن عدم استقرار المشهد السياسي الفرنسي قد يُضعفُ من قدرتها التعاونيةِ لمواجهة التحديات العالمية بما فيها السياسات المناخية والتزامات حلف شمال الأطلسي، فضلاً عن تقويضِ نفوذِها في الاتحاد الأوروبي عبر خلْقِ حالةٍ من الفراغ القيادي، الأمرُ الذي يعصفُ بالعلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، خاصةً وأن هذه الأزمة قد تزيد من ضعْفِ الاتحاد الأوروبي الذي يعاني أيضاً من انهيار الائتلاف الحاكم في ألمانيا قبل أسابيع من عودة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.[2]
– على الصعيدِ الاقتصادي: يخيمُ عدمُ الاستقرارِ السياسي على أحد أكبر اقتصادات أوروبا في وقتٍ تتصاعدُ فيه التوتراتُ الجيوسياسيةُ والاقتصادية، فقد شهدت الأسواقُ الماليةُ الفرنسية حالةً من التقلبات مع ارتفاع تكاليف الاقتراض وتعرض اليورو للضغوط، كما أدت الاضطرابات السياسية والاقتصادية أيضاً إلى تعقيدِ استجابة الاتحاد الأوروبي للتعريفات التجارية الجديدة والمتوقعة من إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب. وفي السياق ذاته، فإن انهيارَ حكومةِ بارنييه ترك تبعاتٍ اقتصاديةً كبيرةً، تمثلت في تقليص الاستثمارات المحلية والأجنبية نظراً للبيئة السياسية غير المستقرة، فضلاً عن تعطيل العديد من القرارات الاقتصادية الأساسية، وتعطيل الإنتاجية في القطاعات الصناعية والخدمية مما ينعكسُ بالسلبِ على الناتج المحلي الإجمالي للدولة، حيث تأثرت الشركات الكبرى الفرنسية وتراجعت أسهمها بنسب متفاوتة، خصوصاً الشركات الخاصة بقطاع السياحة والذي يشكلُ 8% من الناتج المحلي الإجمالي، إذ فقدت تلك الشركات ما يقدر بنحو 10% من قيمتها السوقية.[3]
ولذلك يبدو أن هذا الوضعَ المضطربَ قد يُثيرُ قلقَ الشركاء الأوروبيين بشأن استقرار ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، خاصة مع احتمالية عدم تمرير ميزانية 2025 في ظل غيابِ التوافق السياسي. وبالتالي يمكنُ القولُ إن هذه الأزمة تسلطُ الضوءَ على مستويات الهشاشة التي تواجهُ الاقتصادات الكبرى، وتُبرزُ أيضاً الحاجة إلى المزيد من الإصلاحات الاقتصادية التي تُسهمُ في استعادة الثقة في السوق الفرنسية ودعمِ النمو على المدى الطويل.[4]
– على الصعيد الأمني: تفرضُ الأزمةُ السياسيةُ الراهنة تحدياتٍ أمنيةً معقدةً ومتشابكة تهددُ الاستقرارَ الداخلي والخارجي لفرنسا، فالانقسامات السياسية العميقة تُضعفُ قدرةَ الدولة على رسْمِ استراتيجيةٍ أمنيةٍ موحدةٍ وفعالة، مما يخلقُ فجواتٍ خطيرةً في منظومة مواجهة التهديدات، ويتجلى هذا الضعف بوضوح في تراجع القدرات الاستخباراتية وصعوبة تنسيق الجهود الأمنية بين مختلف المؤسسات الحكومية والأمنية. ففي ظل هذا المشهد المضطرب، تزدادُ مخاطرُ الهجماتِ الإرهابية والتهديدات الداخلية، كما أن ضعفَ التماسك السياسي يؤثرُ مباشرةً على قدرات الاستجابة الأمنية، ويخلقُ حالةً من عدم اليقين التي يمكن أن يستغلهَا المتطرفون والجماعاتُ المناهضةُ للدولةِ.
– على الصعيد الاجتماعي: تُمثلُ الأزمةُ السياسية الحالية نقطةَ تحولٍ خطيرةٍ في النسيج الاجتماعي الفرنسي، حيث تتعمق حالات الانقسام بين مختلف شرائح المجتمع. فالاضطراباتُ السياسيةُ تتحول تدريجياً إلى استياء اجتماعي متزايد، يهدد بتفكيك الروابط الاجتماعية التقليدية التي تميزتْ بها الدولةُ الفرنسية، كما يُعمّقُ الوضعُ الحاليُ الشعورَ بالتهميش لدى العديد من الفئات الاجتماعية، خاصة الطبقات المتوسطة والفقيرة التي تشعرُ بأن المؤسسات السياسية لم تعدْ تمثّلُ مصالحها، فهذا الانفصال بين المواطنين والنخبة السياسية يخلقُ بيئةً خصبةً لنمو التيارات الشعبوية والراديكالية، مما يهددُ مستقبلَ التماسك الاجتماعي في فرنسا ويضع البلاد أمام احتمالات التفكك الاجتماعي.
من المتوقعِ أن يكونَ رئيسُ الوزراء الجديد خلفاً لبارنييه؟
تسودُ حالةٌ من الغموض في الشارع الفرنسي وتترقبُ الأوساطُ السياسيةُ والاقتصاديةُ الشخص الذي سيختاره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد إعلانه عن تعيين رئيس وزراء جديد خلال أيام خلفاً لميشيل بارنييه، وسط تكهناتٍ واسعةٍ حول هوية الشخصية التي ستتولى هذا المنصب الحساس في ظل الظروف السياسية المعقّدةِ التي تمر بها باريس، وهناك بعض الشخصيات المرشحة لنيل المنصب الجديد في خطوة هامة قد تٌحدثُ انفراجةً في المشهد السياسي الفرنسي أو تضيفُ المزيدَ من التعقيد. وفيما يلي أبرز الأسماء مرشحة لمنصب رئيس وزراء فرنسا:
-
سيباستيان ليكورنو البالغ من العمر 38 عاماً، وكان وزيرَ القواتِ المسلحة في الحكومة المنتهية ولايته، وانشق ليكورنو عن حزب الجمهوريين من يمين الوسط وحشد الدعم لرئاسة ماكرون خلال العام 2017، ليصبحَ أحدَ أقوى حلفاء الرئيس
-
برنار كازينوف البالغ من العمر 61 عاماً، وكان رئيسَ وزراءٍ سابقٍ ووزيرَ داخلية في عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا هولاند، ويبدو أن اختيارَ كازينوف، اليساري الوحيد في هذه القائمة، يمكنُ أن يساعدَ ماكرون في كسر كتلة الجبهة الشعبية الجديدة اليسارية. وفي حالة اختياره سيكون بهدفِ تشجيعِ نواب الحزب الاشتراكي على الابتعاد عن التحالف مع حزب فرنسا الأبية، والشيوعيين، وحزب الخضر، وذلك لتوسيع المجموعة الحاكمة ذات التوجه الوسطي.
-
فرانسوا بايرو البالغ 73 عاماً: وهو زعيمُ حزبِ الحركة الديمقراطية، وحليفٌ رئيسيٌ لماكرون في البرلمان، ويشغلُ حالياً منصب المفوض الأعلى للتخطيط الحكومي، ويدعم التمثيل النسبي في الانتخابات البرلمانية، والذي دعمه أيضاً التجمع الوطني.
-
برونو ريتيلو البالغ 64 عاماً، وهو زعيمٌ سابقٌ لمجموعة الجمهوريين في مجلس الشيوخ، وانضم إلى حكومة بارنييه كوزير للداخلية.
-
تييري بريتون البالغ 69 عاماً، وكان وزيرَ اقتصادٍ سابقٍ، ومفوضاً أوروبياً يُشرفُ على الصناعات بما في ذلك التكنولوجيا والدفاع والفضاء حتى سبتمبر عندما تخلى عنه ماكرون بناءً على طلب رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين.
-
فرانسوا باروان البالغ 59 عاماً، وهو سياسيٌ محترفٌ من يمين الوسط، وشغلَ منصبَ وزيرِ المالية بعد فترةٍ قضاها وزيراً للميزانية، في ذروة أزمة الديون السيادية الأوروبية خلال العامين 2011 و2012، وتم تعيينه رئيساً لبنك Barclays في فرنسا خلال العام 2022.[5]