المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الدراسات الأفريقية > قراءة في المشهد السياسي والأمني في مالي عقب قرار حل الأحزاب السياسية
قراءة في المشهد السياسي والأمني في مالي عقب قرار حل الأحزاب السياسية
- يوليو 12, 2025
- Posted by: ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الدراسات الأفريقية
لا توجد تعليقات

إعداد: أسماء حسن محمد
باحث مساعد في وحدة الشئون الأفريقية
تمر مالي بمرحلة مفصلية تتقاطع فيها التحولات السياسية مع التدهور الأمني، وسط تصاعد التحديات المرتبطة بإدارة المرحلة الانتقالية فبعد الانقلاب العسكري في أغسطس 2021، دخلت البلاد في حالة من إعادة تشكيل التحالفات الجيوسياسية وتحول في موازين القوة الإقليمية، وقد شهدت مؤشرات خطيرة على هشاشة الوضع، أبرزها اندلاع اشتباكات مسلحة بين الجيش المالي وتحالف الجماعات الموقعة على اتفاق الجزائر في مدن الشمال، وتزايد نشاط الجماعات الجهادية في الوسط، مما يعكس فشل المقاربات الأمنية المعتمدة، وغياب أفق حقيقي لعملية السلام، يتزامن ذلك مع تصاعد الاستقطاب السياسي الداخلي، واستمرار الحكم العسكري دون توافق وطني أو خارطة طريق واضحة للانتقال الديمقراطي، مما يثير قلقًا إقليميًا ودوليًا بشأن مآلات الحكم المدني واستقرار الساحل الإفريقي ككل، وبهذا تقف مالي أمام معادلة شائكة تتطلب مراجعة شاملة للخيارات الأمنية والسياسية، وإعادة بناء الشرعية السياسية على أسس تشاركية تتجاوز الحلول العسكرية قصيرة الأمد.
قرار المجلس العسكري بحل الأحزاب السياسية
جاء قرار المجلس العسكري في مالي بتعليق نشاط الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني ذات الطابع السياسي في ١٣ مايو ٢٠٢٥م، ليُجسّد أحد أبرز مظاهر الانغلاق السياسي والارتداد عن المسار الديمقراطي في البلاد، وقد مثّل هذا القرار إلغاء فعليًا للتعددية السياسية، وقطعًا مع أي أفق لحوار وطني جامع، في وقت تشهد فيه البلاد تحديات أمنية حادة كان يفترض أن تستدعي تعبئة وطنية شاملة، لا تهميشًا للقوى المدنية.
وقد برّر المجلس العسكري قراره بالحفاظ على “الوحدة الوطنية” و”السلم الأهلي”، إلا أن القراءة السياسية الأوسع ترى في ذلك محاولة واضحة لإعادة هيكلة الحقل السياسي بما يتماشى مع مصالح السلطة الانتقالية، عبر تفريغ المجال العام من المعارضة وتعطيل أدوات الرقابة الشعبية، يتزامن هذا الإجراء مع فشل السلطة في الالتزام بالجدول الزمني للانتقال، ومع تآكل مشروعيتها في الداخل وتزايد العزلة الخارجية؛ لذلك يُنظر إلى القرار باعتباره أداة لإطالة أمد الحكم العسكري، وتكريس الحكم السلطوي المقنع تحت ستار الشرعية الانتقالية، مما يضع البلاد على مسار مقلق من السلطوية العسكرية، ويقوض أي فرص جدّية لبناء نظام سياسي تعددي ومستقر.[1]
الطعن القضائي في حل الأحزاب السياسية
مع صدور قرار المجلس العسكري الحاكم في مالي بتعليق نشاط الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني ذات الطابع السياسي، سارعت مجموعة من الأحزاب الكبرى، إلى تقديم طعون قضائية أمام المحكمة العليا، في تحرّك سياسي هدفه الأساسي كسر منطق الإقصاء وتأكيد التمسك بالمشاركة السياسية كمكوّن أساسي في المرحلة الانتقالية، وقد بدأ تقديم الطعون وسط دعم رمزي من شخصيات أكاديمية ونقابية، اعتبرت القرار خطوة غير دستورية تهدف إلى احتكار السلطة وتفريغ المشهد السياسي من معارضيه.
ولكن السلطة الانتقالية قد تعاملت مع الطعون بصمت سياسي متعمد دون تعليق رسمي، بينما رُصدت تسريبات تفيد بوجود ضغوط غير معلنة على المؤسسة القضائية لعرقلة النظر في الطعون أو تأجيل البت فيها، في مشهد يعكس هشاشة مبدأ استقلال القضاء تحت الحكم العسكري، بل على العكس واصلت السلطات فرض مناخ التضييق السياسي والإعلامي، من خلال ملاحقة عدد من الناشطين الحزبيين، مما فُهم على أنه رد فعل غير مباشر على محاولة الطعن، وسعي لإجهاض أي حراك مؤسسي مضاد.[2]
انسحاب قوات فاغنر الروسية
في خضم التوترات المتصاعدة، حدث تحولا مفصليا زاد من تعقيد المشهد السياسي والأمني المالي، في السادس من يونيو ٢٠٢٥م وهو انسحاب قوات فاغنر الروسية بعدما كانت هذه القوات تمثل الدعامة الأساسية للمجلس العسكري منذ انسحاب القوات الفرنسية وبعثة “مينوسما”، جاء الانسحاب في سياق إعادة هيكلة الوجود الروسي في إفريقيا، حيث جرى استبدال فاغنر بـ”فيلق إفريقيا” التابع لوزارة الدفاع الروسية، ما يعكس تحولًا استراتيجيًا في أدوات النفوذ الروسي من التعاقدات غير الرسمية إلى التدخل المؤسسي المنظم، إلا أن هذه الخطوة فُهمت داخليًا كإشارة على تراجع الالتزام الروسي المباشر بالملف الأمني في مالي، وأثارت مخاوف من فراغ أمني في مناطق الشمال التي تشهد تصاعدًا في هجمات الجماعات الجهادية والانفصالية.
وعليه فنجد أن هذا الانسحاب مثل إحراجًا للسلطة الانتقالية التي استندت لسنوات إلى الحضور الروسي كمصدر شرعية وأداة ردع، وهو ما قد يضعف موقعها التفاوضي أمام خصومها المحليين، ويُعمّق عزلتها الإقليمية في ظل تدهور علاقاتها مع إيكواس والدول الغربية، كما أعاد هذا التطور إحياء النقاش حول خيار التدويل الأمني ومدى فاعليته، في غياب استراتيجية وطنية شاملة لإعادة بناء مؤسسات الدولة، وبدلاً من أن يؤدي التحالف مع موسكو إلى تحقيق الاستقرار، بدا أن مالي أصبحت أكثر ارتهانًا لتقلبات السياسة الدولية.[3]
التداعيات المحتملة لقرار الانسحاب
من المؤكد أن هناك تبعات لهذا القرار سواء على الصعيد المحلي أو الإقليمي منها:
أ- اتساع الفجوة الأمنية في بؤر التوتر
كان الوجود الميداني لفاغنر يُشكّل ركيزة أساسية في المعادلة الأمنية، خاصة في شمال ووسط مالي، حيث تنتشر الجماعات الجهادية والانفصالية، إذ لعبت المجموعة دورًا هجوميًا يتجاوز قدرات الجيش المالي المحدودة، ومع انسحابها الكامل، بات ميزان القوى يميل مجددًا لصالح تنظيمات كـ”جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” و”داعش في الصحراء الكبرى”، ما ينذر بعودة موجة جديدة من الانفلات الأمني وتصاعد الهجمات على القوات الحكومية والمدن الرئيسية.
ب- محدودية الجاهزية العسكرية للقوات المالية
تعاني المؤسسة العسكرية المالية من ضعف بنيوي حاد على مستوى التدريب والجاهزية، وهي أزمة تفاقمت بعد تعليق الدعم الغربي، وفي هذا السياق تبدو قدرة الدولة على سد الفراغ الذي خلّفه انسحاب فاغنر محدودة، لا سيما أن البديل الروسي “فيلق إفريقيا”، لا يزال في مرحلة التشكل ولم يثبت فعالية ميدانية بعد.
ج-عودة النفوذ الغربي إلى المشهد المالي
قد يمثّل غياب فاغنر فرصة لبعض القوى الغربية لإعادة التموضع في الساحل، وعلى رأسها فرنسا التي رغم توتر علاقتها بباماكو، قد تسعى إلى إعادة بناء قنوات تعاون أمنية محدودة، كما أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة قد يستغلان الوضع لتعزيز أدوارهما الاستخباراتية واللوجستية، ضمن إطار أوسع لمكافحة الإرهاب واستعادة زمام المبادرة في المنطقة.
د- ارتباك التحالفات الإقليمية في الساحل
تمتد تداعيات الانسحاب خارج حدود مالي، لتطال بنية تحالف “دول الساحل الثلاث” (مالي، بوركينا فاسو، النيجر)، الذي كان يُعوّل على فاغنر كقوة داعمة مشتركة في مواجهة الجماعات المسلحة والضغوط الدولية، ومع تراجع هذا الدور قد تجد هذه الدول نفسها أمام ضرورة إعادة تقييم علاقتها بموسكو، وربما الانفتاح على خيارات أمنية جديدة، بما في ذلك تحالفات بديلة أو العودة إلى ترتيبات إقليمية تقليدية.[4]
تجدد الهجمات الإرهابية في ظل الانكشاف الأمني
شهدت مالي تصعيدًا ملحوظًا في وتيرة الهجمات التي نفذتها الجماعات الجهادية المسلحة، وعلى رأسها “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” التابعة لتنظيم القاعدة، و”داعش” في الصحراء الكبرى، وذلك إثر الفجوة الأمنية والتخلص السياسي الذي حدث في الفترة الأخيرة، خاصة بعد انسحاب قوات فاغنر الروسية؛ وهو ما استغلته تلك التنظيمات لإعادة تموضعها وتوسيع نطاق هجماتها؛ ففي خلال أسابيع قليلة استهدفت الجماعات قواعد عسكرية استراتيجية في مناطق مثل بولكيسي، وتمبكتو، وتيسيت، وأسفرت العمليات عن خسائر بشرية كبيرة في صفوف الجيش المالي وتدمير معدات حيوية، بما يعكس قدرة هذه التنظيمات على التخطيط والتنفيذ المتزامن.
ويشير هذا التصاعد في النشاط الإرهابي إلى اختلال ميزان الردع الميداني، حيث لم تعد القوات المالية قادرة على صد الهجمات أو احتوائها بفاعلية، في ظل ضعف الإمكانيات اللوجستية وتراجع الدعم الخارجي، كما يعكس تآكل السيطرة الحكومية على الأطراف، ما يمنح تلك الجماعات مساحات نفوذ متزايدة لتحريك عناصرها وتوسيع قنوات التمويل والتجنيد، والأخطر من ذلك أن هذه الهجمات لم تعد تقتصر على المواقع العسكرية، بل باتت تشمل طرق النقل والمراكز الحيوية، ما يعمّق حالة الانفلات الأمني ويهدد بتقويض الثقة الشعبية في قدرة الدولة على حماية المواطنين.[5]
ختامًا تعكس التطورات الأخيرة في مالي من انسحاب القوات الروسية وتكثيف الهجمات الإرهابية، مرورًا بحل الأحزاب السياسية، وصولًا إلى ارتباك التحالفات الإقليمية، مأزقًا مركبًا للدولة الانتقالية التي تواجه تحديًا مزدوجًا: إعادة بناء الشرعية الداخلية، وإعادة ضبط التموضع الاستراتيجي خارجيًا، فالمشهد الحالي يشير إلى، تآكل الثقة المجتمعية، وارتهان القرار السيادي لمعادلات الدعم الخارجي، وبينما تسعى النخبة الحاكمة إلى فرض هيمنة فوقية على المجال السياسي من خلال تقييد التعددية، تتسع الفجوة بينها وبين الواقع الميداني الذي تُعيد فيه الجماعات المسلحة إنتاج نفسها كفاعل ميداني فعّال.
المصادر:
[1] مالي: عشرات الأحزاب السياسية تطعن في قرار السلطات الانتقالية تعليق نشاطها.” فرانس 24, 14 مايو 2025, https://f24.my/BAR5 .
[2] “القضاء المالي يرفض الطعون ضد قرار حل الأحزاب,” قراءات إفريقية, 2 يونيو 2025، https://qiraatafrican.com/29587/ .
[3] “قوات ‘فاغنر’ تنهي مهمتها رسميًا في مالي وروسيا تؤسس فيلقًا بديلاً,” الدفاع العربي, 8 يونيو 2025 https://www.defense-arabic.com.
[4] ساجدة السيد، تداعيات انسحاب ‘فاجنر’ الروسية من مالي، القاهرة الإخبارية, 12 يونيو 2025، https://alqaheranews.net/news/130947/.
[5] سلمى عبد الكريم، هجمات إرهابية في مالي، العين الإخبارية، ٢ يوليو 2025. https://al-ain.com/article/mali-terrorist-attacks.