أعلن الكرملين، في الثالث والعشرين من ديسمبر الجاري، أن المملكة العربية السعودية، قرَّرت تجميد عملية انضمامها إلى مجموعة بريكس، ويأتي هذا الإعلان بعد فترةٍ طويلة من التردُّد امتدَّت لأكثر من عامٍ، مُنْذُ تلقِّي المملكة الدعوة، في أغسطس من العام الماضي، وتنظر المملكة إلى قرار الانضمام من عدمه من ناحية عدة اعتبارات داخلية وخارجية، وهي ما أدَّت إلى عدم حسْم مسألة الانضمام إلى بريكس، وصولًا إلى قرارها بتجميد الانضمام، ويأتي هذا التطوُّر في سياقٍ عالميٍّ متغيِّرٍ، يشهدُ قُرْب تولِّي الإدارة الجمهورية الجديدة السلطة، في العشرين من يناير القادم.
انضمام لم يكتمل
في أعقاب القمة الخامسة عشر، التي عُقِدَت في جوهانسبرج بجنوب أفريقيا، في أغسطس من العام الماضي، نُوقِشَتْ إمكانية زيادة عدد الدول الأعضاء في بريكس؛ ليشمل ست دولٍ جديدةٍ، وهم مصر والسعودية والإمارات وإيران وإثيوبيا والأرجنتين؛ حيث كانت من ضِمْن مُخْرَجات هذه القِمَّة تقديم الدعوة إلى هذه الدول للانضمام إلى المجموعة، ونتيجةً لذلك، وافقت أربع دولٍ، وانضمت بالفعل إلى بريكس، في حين رفض البعض الآخر الانضمام كالأرجنتين، فضلًا عن تَأَنِّي المملكة قبْل حسْم قرار انضمامها، فعلى الرغم من إعلان السعودية في بداية الأمر، أنها ستباشر عضويتها الكاملة بطريقة فُهِمَ منها أنها قَبِلَتْ رسميًّا الانضمام إلى بريكس[1]، إلَّا أن التطوُّرات اللاحقة، أكَّدت عدم صحة هذا الزَّعْم؛ نتيجةً لعددٍ من المؤشرات، يمكن الإشارة إليها في السياق الآتي:-
١-تبايُن المواقف
على النقيض من سلوك الدول المدعوّة إلى الانضمام، والتي سارعت في اتخاذ الإجراءات التي تجعل منهم أعضاء فاعلين داخل المجموعة -باستثناء الأرجنتين- اتسم موقف الرياض بالتمهُّل والتأنِّي، ولم يُحْسم القرار تِجَاه مسألة الانضمام من عدمها، وبحسب التصريحات الرسمية، فإن حالة عدم الحسْم بُرِّرَت بأن المملكة لاتزال بحاجةٍ إلى الوقت اللازم لدراسة هذه المسألة. ونتيجة لذلك، كان الوجود السعودي داخل بريكس رمزيًّا إلى حدٍّ كبيرٍ، كما أنه لم يكن هناك تواجُدٌ دائمٌ وفعَّالٌ في أنشطة وأعمال المجموعة.
٢-تعزيز العلاقات الثنائية
في المقابل، بدلًا من أن تسعى الجهود السعودية إلى تعميق التعاون مع مجموعة بريكس بشكلٍ عامٍ، باعتبارها كيانًا بديلًا عن الهيْمنة الغربية، ركَّزت الجهود على تعزيز أوْجُه التعاون مع دول المجموعة عبْر شراكات ثنائية؛ ما أعطى الأولوية لهذه الشراكات على حساب تعظيم التعاون تحت مِظَّلة بريكس.
٣-تمثيلٌ محدودٌ في الفعاليات
كان التمثيل السعودي في قمة بريكس الأخيرة، التي عُقِدَت في قازان الرُّوسية، في أكتوبر الماضي، ليس على النَّحْو المأمول، ومؤشرًا واضحًا على استمرار حالة عدم الحسْم تِجَاه مسألة الانضمام وعدم تحديد الدور المستقبلي داخل التكتُّل كعضوٍ كاملٍ أو بصفة مراقبٍ، فعلى الرغم من توجيه دعوةٍ رسميةٍ – وفقًا للكرملين – إلى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لحضور القمة؛ حيث سبق وأن شارك في القمة “الأوروبية – الخليجية” في بروكسل قبْل أيامٍ من قمة بريكس، اقتصر التمثيل الرَّسْمي على وزير الخارجية فيصل بن فرحان؛ ما يدُلُّ على عدم إعطاء فكرة الانضمام إلى المجموعة قدْرًا كبيرًا من الأهمية في الوقت الحالي.
اعتبارات مهمة
ترجع حالة عدم الحسْم التي تشُوب الموقف السعودي تِجَاه مسألة الانضمام إلى بريكس إلى عددٍ من الاعتبارات المهمة، والتي تُحدِّدُ بشكلٍ كبيرٍ إمكانية انضمام السعودية إلى التكتُّل، كما تُفسِّرُ أيضًا سبب عدم الانضمام إلى بريكس، مُنْذُ أن تمَّ تقديم الدعوة في أغسطس من عام ٢٠٢٣، ويمكن الإشارة إلى هذه الاعتبارات في السياق الآتي:-
١-رُؤْية المملكة ٢٠٣٠
ترتبط مسألة انضمام السعودية إلى بريكس ارتباطًا وثيقًا برُؤْيتها التنموية لعام ٢٠٣٠؛ حيث تسعى من خلالها إلى تنويع اقتصادها ليعتمد على قطاعات اقتصادية أُخرى بدلًا من الاعتماد الأساسي على قطاع النفط؛ ليشمل بذلك قطاعات، كالطاقة المتجددة والسياحة والتكنولوجيا، بالإضافة إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية مع مختلف دول العالم، لا سيما القُوَى الاقتصادية الكُبْرى، ونتيجةً لذلك، فإن انضمام المملكة إلى بريكس قد يتناقض مع رُؤْيتها التنموية؛ نتيجةً لما قد يترتب عليه من تصعيدٍ للخلافات مع القُوَى الغربية، لا سيما أن نجاح هذه الرُّؤْية يتطلب ضرورة إبقاء علاقتها مع الغرب قويةً ومستقرةً؛ لأن الولايات المتحدة وأوروبا تُمثِّلَان شريكيْن رئيسيِّيْن في تحقيق أهداف هذه الرُّؤْية، كل ذلك يؤدى بدوره إلى عدم حسْم مسألة الانضمام طوال الفترة الماضية. وبالتالي في حالة أن قرَّرت الرياض الانضمام إلى بريكس، فإنها بحاجةٍ أوَّلًا إلى ضمان ألَّا تؤثر هذه المسألة على علاقاتها مع شركائها الغربيِّين.
٢-عودة مرتقبة لإدارة ترامب
عاد الحديث عن “عملة بريكس” إلى الواجهة في أعقاب قمة بريكس الماضية كبديلٍ عن هيْمنة الدولار، وعلى الرغم أن هذه العُمْلة لم تُطْرح بعْدُ، كما يبدو أنها لاتزال أمامها أشواطًا كثيرةً حتى تتحوَّلَ إلى عُمْلةٍ فِعْلِيَّةٍ، إلَّا أن الإدارة الجمهورية الجديدة لم تنتظر حتى موعد عودتها المرتقب، في العشرين من يناير القادم؛ لتُحدِّدَ كيف ستتعامل مع هذه التطوُّرات؛ حيث هدَّد الرئيس الأمريكي المنتخب الدول الأعضاء في بريكس، بفرْض رسومٍ جمركيةٍ وقيودٍ تجاريةٍ؛ في حالة ما إذا استمروا في خططهم للتخلِّي عن الدولار[2]، ولعل في ذلك دلالةً واضحةً على النَّهْج الذي ستتبعه الإدارة الجديدة، ليس فقط مع التكتُّلات التي تضُمُّ أبرز منافسيها كتكتُّل بريكس، بل مع التكتُّلات الحليفة أيضًا كالاتحاد الأوروبي؛ لذا فإن تمهُّلَ السعودية الذي أفْضَى إلى تجميد انضمامها إلى بريكس، ليس بمَعْزِلٍ عن علاقتها بالولايات المتحدة بشكلٍ عامٍ، وبالإدارة الجمهورية بشكلٍ أكثر تحديدًا، وأنه يمكن تفسير قرار التجميد في سياق رغبة السعودية في الحفاظ على توازُنٍ دقيقٍ في علاقاتها مع القُوَى الكبُرْى، وخاصَّةً الولايات المتحدة؛ حيث تدرك المملكة أن أيَّ خُطْوةٍ قد تؤثر على علاقتها مع واشنطن، ستكون لها تداعيات كُبْرى على مسار التعاون الثنائي بينهما، لا سيما في القضايا الأمنية والاقتصادية.
٣-شراكة غربية وثيقة
تجمع السعودية مع الاتحاد الأوروبي[3] والولايات المتحدة[4] علاقات اقتصادية وإستراتيجية قوية؛ إذ تُعدُّ أوروبا وأمريكا من أكبر الشركاء التجاريِّين والاستثماريِّين للمملكة، ويشمل ذلك استثماراتٍ ضخمةً في قطاعاتٍ متعددةٍ، مثل الطاقة والبِنْيَة التحتِيَّة، بالإضافة إلى تعاوُنٍ في مجالات التكنولوجيا والدفاع، في هذا السياق، يمكن تفسير تجميد عضوية السعودية في بريكس كجزءٍ من إستراتيجية تهدف إلى الحفاظ على هذا التوازُن في علاقاتها الدولية؛ فالانضمام الكامل إلى بريكس، بما يحْمِلُه من توجُّهٍ نحْو تقليل هيْمنة الدولار وتوسيع التعاون مع قُوَى، مثل الصين وروسيا، قد يُثِيرُ مخاوف الشركاء الغربيِّين، ويدفعهم إلى اتخاذ إجراءات قد تضُرُّ بمصالح المملكة الاقتصادية؛ لذلك، فضَّلت السعودية التريُّث لضمان عدم الإضرار بعلاقاتها مع هذه القُوَى الكُبْرى، خاصَّةً في ظلِّ الأهمية الاقتصادية والسياسية لهذه العلاقات في دعْم استقرارها الداخلي، وتعزيز مكانتها على السَّاحة الدولية.
انعكاسات محتملة
يُمثِّلُ قرار السعودية بتجميد عضويتها خسارةً كبيرةً للتكتُّل؛ نظرًا لما تتمتع به المملكة من أهميةٍ إستراتيجية وثقلٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ على المستوييْن الإقليمي والدولي؛ فالسعودية باعتبارها أكبر منتجٍ للنفط عالميًّا، تمتلك نُفُوذًا قويًّا في أسواق الطاقة، بالإضافة إلى دورها المحوري في تحقيق التوازُن الجيوسياسي في المنطقة؛ لذا يمكن القول: إن غياب السعودية عن بريكس سيُقلِّلُ من قُدْرة التكتُّل على توسيع تأثيره العالمي؛ ما يجعل انضمام المملكة مستقبلًا إضافةً حيويةً لأهدافه الإستراتيجية.
من ناحيةٍ أُخرى، فإن الخُطْوة التي أقدمت عليها السعودية تفتح المجال للتساؤُل، حول مواقف بعض الدول الأعضاء في بريكس، مثل الهند، ومدى قدرتها على الإسهام في تعزيز تماسُك التكتُّل وتحقيق أهدافه الإستراتيجية، فعلى الرغم من كوْن الهند أحدَ الأعضاء المُؤَسِّسين لـ”بريكس”، إلَّا أن علاقاتها المتنامِية مع الغرب، وبخاصَّةٍ الولايات المتحدة، قد تُثيِرُ الشُّكُوك حول مدى التزامها بتعزيز استقلالية التكتُّل عن الهيْمنة الغربية.
حيث تسعى الهند إلى لعب دورٍ مزدوجٍ يجمع بين تعزيز مكانتها كعضوٍ فاعلٍ في بريكس وبين الحفاظ على علاقاتها القوية مع واشنطن؛ ما قد يؤثر على ديناميكية التكتُّل؛ فبدلًا من اتخاذ موقفٍ واضحٍ يدعم أهداف بريكس، في بناء نظامٍ عالميٍّ متعدِّد الأقطاب، تبدو الهند حريصةً على تحقيق مكاسب ثنائية مع القُوَى الكُبْرى الأُخرى؛ ما قد يُضعف من فعالية التكتُّل في تحقيق استقلاليةٍ حقيقيةٍ، بعيدًا عن النُّفُوذ الغربي.
ختامًا:
فإن قرار المملكة بتجميد انضمامها إلى مجموعة “بريكس” لا يُعبِّرُ عن انسحابٍ نهائيٍّ أو رفْضٍ لمبادئ التكتُّل، بل هو خطوةٌ مدروسةٌ تعكس طبيعة التعاطِي مع المتغيِّرات الإقليمية والدولية، كما ينْبُعُ من إدراك المملكة العميق لتأثير الديناميكيات الدولية على مواقفها الإستراتيجية، ورغبتها في الحفاظ على مساحةٍ أكبر من المرونة، تُمكِّنُها من تحديد الخطوات الأنسب لتحقيق مصالحها الوطنية، بعيدًا عن أيِّ ضغوطٍ أو التزاماتٍ قد لا تكون ملائمةً في الوقت الراهن، كما أن موقف المملكة لا يُغْلِقُ الباب أمام إمكانية الانضمام الكامل إلى التكتُّل، بل يترك مجالًا لإعادة النظر في هذا القرار مع تطوُّر الظروف؛ بما يتيح لها الانخراط في بريكس، في توقيتٍ يكون أكثر توافُقًا مع احتياجاتها الوطنية وتوجُّهاتها الإقليمية والدولية.
المصادر:
[1] السعودية تنضم رسميا وبشكل كامل إلى مجموعة بريكس، فرنسا٢٤، ٢/١/٢٠٢٤،
