في أعقاب إعلان الرئيس الكوري الجنوبي المعزول “يون سوك يول” الأحكام العرفية، في ٣ ديسمبر ٢٠٢٤، شهدت كوريا الجنوبية تصاعُدًا كبيرًا في أزمتها السياسية الداخليةو، تأتي هذه التطورات في ظلِّ حالة انقسامٍ سياسيٍّ عميقٍ تشهده البلاد؛ حيث يتسم المشهد بوجود توازن مُعقَّد بين الرئيس وحزبه الحاكم حزب سلطة الشعب من جهة، والمعارضة الممثلة في الحزب الديمقراطي الذي يمتلك الأغلبية البرلمانية من جهةٍ أُخرى.
وعلى الرغم أن الرئيس المعزول تراجع عن الأحكام العُرْفية بعد ساعاتٍ قليلةٍ من إعلانها تحت ضغطٍ سياسيٍّ وشعبيٍّ هائلٍ، إلا أن هذا لم يكن كافيًا لاحتواء الأزمة، ففي ١٤ ديسمبر ٢٠٢٤، بادر البرلمان الكوري بعزْل الرئيس في خطوةٍ تعكس حجم التوتر السياسي المتصاعد، ومنذ ذلك الحين، أصبحت المحكمة الدستورية العليا هي الجهة المُخوَّلة بالبتِّ في قرار العزْل بشكلٍ نهائيٍّ.
إلى جانب ذلك، صدرت مذكرات اعتقال بحق الرئيس المعزول على خلفية اتهامات بإساءة استخدام السلطة وإعلان الأحكام العرفية. ومع ذلك، فشلت محاولات تنفيذها على أرض الواقع؛ بسبب المقاومة الشرسة من قِبَلِ قوات الأمن الرئاسي؛ ما ساهم في تعقيد المشهد وزيادة حالة الغموض حول مستقبل الأزمة.
خلفيات الأزمة
جاءت قرارات الرئيس الكوري الجنوبي لتكون بمثابة ختامٍ لفترة من الاضطرابات الداخلية التي بدأت منذ انتخابه، في مارس ٢٠٢٢، يمكن الإشارة إلى هذه الاضطرابات في السياق التالي:-
١–انقسام سياسي
فاز الرئيس “يون سوك يول” في انتخابات ٢٠٢٢، بفارقٍ ضئيلٍ جدًّا عن منافسه “لي جاي ميونج”؛ ما جعل فترة رئاسته مليئةً بالتحديات في ظل غياب إجماعٍ شعبيٍّ، كما حققت المعارضة بقيادة الحزب الديمقراطي فوزًا كبيرًا في الانتخابات البرلمانية، العام الماضي؛ ما جعلها شريكًا أساسيًا في صنع القرار بالإضافة إلى عرقلتها سياسات الرئيس.
٢–انخفاض شعبية الرئيس
وسط الأزمة السياسية، شهدت شعبية الرئيس الكوري تراجُعًا كبيرًا؛ حيث حصل على أدنى نسبة تأييد منذ تولِّيه السلطة، في مايو ٢٠٢٢؛ إذ بلغ ١٩% في آخر استطلاع للرأي، ويرجع ذلك إلى عدم الرضا الشعبي عن السياسات الاقتصادية التي أدَّت إلى غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار دون اتخاذ تدابير فعَّالة لتخفيف العِبْء عن المواطنين.
٣–فضائح سياسية متعلقة بدوائر الحكم
تصدر اسم زوجة الرئيس “كيم كيون هي” المشهد، في أواخر ٢٠٢٣، بعد تلقيها رشوةً من قسٍّ أمريكي على شكْل هدايا فاخرة، كما يواجه عددٌ من المسؤولين في حزب سلطة الشعب الحاكم اتهامات بالفساد واستغلال النفوذ.
٤–أجندة سياسية معطلة
كانت مسألة إقرار الميزانية كل عام تثير جدلاً واسعًا في كوريا الجنوبية؛ حيث سعت الحكومة إلى زيادة الميزانية في ظلِّ الأزمة الاقتصادية والإضرابات المستمرة، بينما عارضت قوى المعارضة هذه الزيادة؛ حيث كانت تخضع البلاد لعدة مراحل من التعديلات والتفاوضات حتى يتم إقرار الميزانية؛ ما يعكس التوتر والتباين السياسي الذي حال دون تنفيذ خطط الحكومة وأدَّى إلى زيادة القيود المفروضة عليها.
مواجهات محتدمة
على مدار الأيام القليلة الماضية، أصبحت المواجهات بين الشرطة وقوات الأمن الرئاسي في كوريا الجنوبية أكثر حِدَّة؛ حيث تحوَّلت إلى مواجهة غير مسبوقة بين مؤسستيْن حكوميتيْن رئيسيتيْن، ففي الوقت الذي رفض فيه الرئيس المعزول من قِبَلِ البرلمان وتنظر المحكمة الدستورية في قرار عزْله “يون سوك يول” الامتثال لمذكرات التوقيف والتفتيش، اندلعت اشتباكات متواصلة عندما حاول العشرات من المحققين من وكالة مكافحة الفساد والشرطة دخول المجمع الرئاسي. ومع تقدُّم المحققين في محاولة للوصول إلى مقر إقامة الرئيس، كانت قوات الأمن الرئاسي مدعومة بعددٍ ضخمٍ من الجنود يقفون في طريقهم، بالإضافة إلى تمركز الحواجز والمركبات العسكرية على طول الطريق؛ ما حال دون الوصول إلى الرئيس، وهو ما حوَّل المجمع الرئاسي إلى حصن وملاذ شخصي للرئيس الكوري يواجه فيه المحققون صعوبةً في اختراقه[1].
وأمام هذا المشهد المحتدم، تجمَّع عددٌ من أنصار الرئيس بالقرب من المجمع؛ في محاولة منهم لإظهار الدعم والتأييد الشعبي له، وهو ما يمنح أبعادًا أخرى للمسألة أكثر من كوْنها مواجهة بين قوات إنفاذ القانون والرئيس. ومن ناحيةٍ أُخرى، وصفت بعض التقديرات ما يجري على الأرض من دفاع محموم عن الرئيس من قِبَلِ جهاز الأمن الرئاسي بأنه قد تحوَّل لما يشبه “الجيش الخاص”؛ نظرًا لقيامه بدور دفاعي مفرط لحماية “يون” من محاولات اعتقاله، وتُعدُّ هذه المواجهات بمثابة حالة من الانقسام المؤسساتي العميق؛ حيث بدت الشرطة وكأنها تجري عملية قانونية تهدف إلى تنفيذ العدالة، بينما كان جهاز الأمن الرئاسي يحمي شخصًا مُعطَّل الصلاحيات؛ ما يثير تساؤلات حول التسييس والتأثيرات المحتملة على استقلالية المؤسسات الحكومية، وفي الوقت الذي كانت فيه هذه المواجهات تعكس عُمْق الصراع السياسي في كوريا الجنوبية، فهي أيضًا تُمثِّلُ تحدِّيًا كبيرًا لمستقبل الدولة في التعامل مع النظام القانوني.
استقالات متتالية واضطرابات سياسية
في الرابع عشر من ديسمبر من العام الماضي، اتخذ البرلمان الكوري الجنوبي قرارًا تاريخيًّا بعزْل رئيس الجمهورية “يون سوك يول”، إثر ضغوطٍ سياسيةٍ شديدةٍ وتوترات داخلية؛ بسبب قراراته المثيرة للجدل التي تم اتخاذها في وقت مبكر من الشهر نفسه. وعقب قرار العزل، تم تعيين رئيس الوزراء “هان داك سو” ليشغل منصب الرئيس المؤقت، ويقود البلاد خلال هذه الفترة الصعبة، ورغم محاولاته للإبقاء على استقرار الوضع السياسي، لم تدُمْ فترة “هان داك سو” طويلًا؛ حيث وُجهِّت إليه اتهامات برلمانية، بأنه كان أحد المسؤولين عن إصدار قرار الأحكام العرفية في البلاد، إضافةً إلى رفضه تعيين قضاة للمقاعد الثلاثة الشاغرة في المحكمة الدستورية العليا، معتبرًا أن ذلك يتجاوز صلاحياته كرئيسٍ مؤقتٍ.
وفي ٢٧ ديسمبر، ونتيجة لتصاعُد الانتقادات ضده، تم اتخاذ قرار بعزْل “هان داك سو” بعد تصويت ١٩٢ نائبًا من أصل ٣٠٠ لصالح عزْله؛ ما جعل هذه الحادثة هي الأولى من نوعها في تاريخ كوريا الجنوبية التي يتم فيها التصويت على عزل رئيس مؤقت[2]، وفي أعقاب ذلك، تم تعيين وزير المالية “شوي سانج موك” كرئيسٍ مؤقتٍ جديدٍ للبلاد[3]. وقد عمل على تصحيح أخطاء سلفه؛ حيث نجح في تعيين قاضييْن من أصل ثلاثة مقاعد شاغرة في المحكمة الدستورية العليا، وهو أمر بالغ الأهمية، في ظل الأوضاع الراهنة؛ نظرًا لأن قضاة هذه المحكمة هم المعنيُّون بالنظر في قرار عزْل الرئيس الكوري.
وتُجسِّدُ هذه التغييرات في القيادة أزمة سياسية عميقة تعيشها كوريا الجنوبية في وقت حسَّاس، وبالتوازي مع هذه التغيُّرات، كانت المحكمة الدستورية العليا بصدد بدْء جلساتها للنظر في قضية عزْل الرئيس “يون سوك يول” بالإضافة إلى إصدار مذكرة اعتقالٍ بحق الرئيس؛ ما جعل المشهد السياسي أكثر تعقيدًا، فضلًا عن المضيِّ قُدُما في مسارين: إحداهما قانوني، ويتعلق بالمحكمة الدستورية، والثاني جنائي، ويتعلق بمذكرات الاعتقال، وذلك لطيِّ صفحة الرئيس المعزول من قِبَلِ البرلمان.
مسارات الخروج من الأزمة
في ظل الأزمة السياسية الحالية التي يواجهها الرئيس الكوري الجنوبي المعزول “يون سوك يول” والدولة الكورية على حدٍّ سواء، هناك مساران رئيسيَّان للخروج من الأزمة، ولكن من الواضح أن كلا المساريْن سيستغرقان وقتًا طويلاً ويتطلبان جهودًا مُكثَّفة، و تجدر الإشارة، أن هذين المسارين لا يقتصران على كونهما طريقيْن مستقليْن بل كلٌّ منهما يُكملُ الآخر؛ حيث يسعيان في النهاية إلى إغلاق صفحة الرئيس المعزول، سواء عن طريق المسار الجنائي أو عبر المحكمة الدستورية أو كلاهما، ويمكن الإشارة إليهما في السياق التالي:-
المسار الأول – الطريق الجنائي:
يتمثل في التحقيقات الجنائية التي تهدف إلى محاسبة الرئيس المعزول على عدة قرارات مثيرة للجدل، من أبرزها قرار إعلان الأحكام العرفية وما يرتبط به من تعليق الحريات العامة، وسوء استخدام السلطة والتمرُّد على المؤسسات الشرعية في الدولة.
ومع ذلك، فإن هذا الطريق يعترضه العديد من العقبات على الأرض؛ ففي الوقت الذي تسعى فيه أجهزة الأمن إلى القبض على الرئيس المعزول للتحقيق معه، فإن جهاز الأمن الرئاسي، الذي يتولَّى حماية الرئيس، يتبنَّى موقفًا رافضًا ومقاومًا لهذه التحقيقات؛ إذ يعتبر هذا الجهاز أن مذكرات الاعتقال التي صدرت بحق الرئيس غير قانونية، مما يخلق حالة من التعارُض والتصادُم بين مؤسسات الدولة، وعلى الرغم من إصدار مذكرة اعتقال، في ٣١ ديسمبر الماضي، والتي انتهت صلاحيتها بعد أسبوع من إصدارها، إلا أنه تم تجديدها مرة أخرى يوم ٧ يناير من العام الجاري[4]،؛ ما يعكس حالةً من عدم اليقين والضبابية حول المسار الجنائي الذي ستسلكه هذه الأزمة؛ فمن ناحيةٍ، يتم تجديد مذكرات الاعتقال كلما انتهت فترة صلاحيتها ونفاذها، ومن ناحيةٍ أُخرى، يستمر الأمن الرئاسي في مقاومة تنفيذ هذه المذكرة وتعطيل تطبيقها.
المسار الثاني – المحكمة الدستورية:
أما الطريق الثاني، فهو مسار قانوني طويل المدى، يتمثَّلُ في تقديم القضية إلى المحكمة الدستورية -وهو ما حدث بالفعل عقب تصويت البرلمان بعزْل الرئيس- التي ستكون المسؤولة عن البتِّ في مستقبل الرئيس المعزول.
وبحسب القانون الكوري الجنوبي، يتعين على المحكمة الدستورية اتخاذ قرارها النهائي بشأن عزْل الرئيس من منصبه أو إعادته إليه خلال مدة أقصاها ١٨٠ يومًا، وفي حالة أن قررت المحكمة عزْل الرئيس يون أو إذا استقال من منصبه، فإن ذلك سيؤدي إلى إجراء انتخابات رئاسية خلال ٦٠ يومًا من صدور القرار[5].
ورغم أن هذا المسار قد يبدو أكثر توافقًا من الناحية القانونية، إلَّا أنه يظل مُعقَّدًا ويتطلب وقتًا طويلاً ؛ حتى تتمكن المحكمة من الوصول إلى قرار نهائي، إضافةً إلى ذلك، سيظل التوتر السياسي قائمًا طوال هذه الفترة؛ بسبب الصراع المستمر بين الحكومة المؤقتة والمؤسسات الدستورية الأُخرى.
تحفُّظ الموقف الأمريكي
في ظل الأزمة السياسية المتصاعدة، والتي تتمثل في عزْل الرئيس “يون سوك يول” ورفضه الامتثال لمذكرات التوقيف من قِبَلِ الأجهزة الأمنية، تبرز زيارة وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” إلى سيول كخطوة مهمة في تعزيز العلاقة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية؛ حيث أكد بلينكن على ثقة واشنطن في مرونة الديمقراطية الكورية الجنوبية وقوة النظام القانوني هناك، مشيرًا إلى دعْم بلاده الثابت لشعب كوريا الجنوبية، في الوقت الذي يواجه فيه تحديات داخلية كبيرة، من خلال تأكيده على استمرار التحالف” الأمريكي – الكوري الجنوبي” كحجر الزاوية للسلام والاستقرار في شبه الجزيرة الكورية، كما عكس بلينكن التفاؤل بشأن قدرة كوريا الجنوبية على التقدُّم بقدرة كاملة على أساس دستورها وسيادة القانون[6].
وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن التغاضِي عن التحفُّظات التي قد تكون موجودة ضمن موقف الولايات المتحدة؛ حيث لا يمكن تجاهل حقيقة أن الرئيس المعزول “يون سوك يول” كان حليفًا إستراتيجيًّا للولايات المتحدة، خصوصًا في ظل تعزيز التحالفات في المنطقة، وكان على علاقة وثيقة مع واشنطن.
وفي ظل هذا الواقع، لم تُشِرْ التصريحات الأمريكية إلى أيِّ انتقاد مباشر للمقاومة الشديدة التي أبدتها أجهزة الأمن الرئاسي تجاه الإجراءات الأمنية التي كانت تهدف إلى اعتقال “يون سوك يول”؛ ما يثير تساؤلات حول دور واشنطن في دعْم أو مناهضة السياسات الداخلية لكوريا الجنوبية، لا سيما في سياق مقاومة الرئيس المعزول للأوامر القانونية.
كما غاب عن تصريحات بلينكن أيّ إشارة إلى احتمالية تدخُّل الولايات المتحدة لحل الأزمة السياسية أو حتى إقناع الرئيس المعزول بتخفيف مقاومته للسلطات؛ ما قد يبرز بعض التحفُّظ في السياسة الأمريكية تجاه التطورات السياسية الداخلية في كوريا الجنوبية؛ لذا يمكن القول: إن واشنطن حريصة على الحفاظ على استقرار التحالف مع سيول، لكنها تُبْدِي أيضًا اهتمامًا وأولويةً أكبر متعلقة بتوسيع التعاون بين الدول الثلاث (كوريا الجنوبية، الولايات المتحدة، اليابان)؛ ما يشير إلى رؤية أمريكية شاملة تركز على إستراتيجيات بعيدة المدى تتجاوز الصراعات الداخلية في كوريا الجنوبية.
ختامًا:
يبدو أن الأزمة السياسية في كوريا الجنوبية مرشحة للاستمرار لفترة طويلة، خاصَّةً في ظل استمرار حالة الترقُّب والتوتُّر المرتبطة بتطورات المسار الجنائي والتحقيقات الجارية، إلى جانب الإجراءات القانونية التي تنظر فيها المحكمة الدستورية، والتي لم تصل بعْدُ إلى نهايتها. وبغض النظر عن المسار الذي ستتبعه الدولة لحل هذه الأزمة، فإن المشهد السياسي في كوريا الجنوبية سيظلُّ يعاني من حالة عدم الاستقرار والغموض، كما أن هذا الوضع سيفرض تحدِّياتٍ وضغوطًا كبيرةً على المؤسسات الحكومية، ويضع الشعب الكوري أمام اختبارات صعبة على الصعيديْن “السياسي والاقتصادي“.
المصادر:
[1] تعليق محاولة اعتقال الرئيس الكوري الجنوبي المعزول، بي بي سي، ٣ يناير ٢٠٢٥
