اجتمع رئيس كوريا الجنوبية “يون سوك يول” مع رئيس مجلس الدولة الصينى “لى تشيانغ” ورئيس الوزراء اليابانى “فوميو كيشيدا” فى سيول، يومى الأحد والاثنين الماضيين، لإجراء أول محادثات ثلاثية منذ أكثر من أربع سنوات، فى إطار جهود إحياء المفاوضات فى شأن اتفاق ثلاثى للتجارة الحرة ولإحياء الحوار الأمنى وهو ما عرقلهما قضايا إقليمية ودولية أخرى، وفى مستهل القمة قال “لى”، إن المحادثات هى بمثابة “استئناف وبداية جديدة” للعلاقات، ودعا إلى استئناف شامل للتعاون بين الدول الثلاث، لكنه رأى أن الأمر يتطلب فصل السياسة عن الملفات الاقتصادية والتجارية، “مطالبًا بإنهاء إجراءات الحماية وفك الارتباط بين سلاسل الإمداد”.
وتواجه الاقتصادات الثلاثة الكبرى فى المنطقة تحديات مختلفة حاليًا. وعليه، أصبحت عودة العلاقات لمسارها الصحيح أمرًا ضروريًا، لضمان التعافى المستقر للاقتصاد وتعزيز النمو المستقبلى من خلال تعزيز التكامل الاقتصادى الإقليمى.
وتأتى القمة بعد أن التقى وزراء خارجية الصين واليابان وكوريا الجنوبية فى نوفمبر الماضى، واتفقوا على العمل للارتقاء بالعلاقات بعد توقف أربع سنوات عن التعاون الثلاثى، وتقرر حينها عقد قمة ثلاثية لإضفاء الثقة على العلاقات بعد محادثات “كامب ديفيد” التى جمعت الولايات المتحدة مع كوريا الجنوبية واليابان.
وقد تم تأجيل عقد القمة لمدة نصف عام، من ديسمبر 2023 إلى نهاية مايو 2024، بالتالى فإن عقد القمة وعدم تأجيلها يحمل دلالة مهمة، فهى تقطع الطريق على النهج غير المنتظم فى العلاقات، الذى قد يؤدى لمزيد من الاضطرابات والانقسامات، خاصة بعد الحديث عن تشكل تحالف ضمنى بين الصين وروسيا وكوريا الشمالية فى مواجهة الولايات المتحدة بعد اجتماع “كامب ديفيد” الذى اعتبرته الصين موجهًا ضدها.
وتكمن أهمية تلك القمة فى الحاجة لتهدئة التوترات فى المنطقة أخذًا فى الاعتبار السياقات الأوسع وهى التنافس الأمريكى الصينى ورغبة الصين فى عقد تعاون مع الدولتين الجارتين بدلًا من أن يميلا كل الميل للولايات المتحدة، خاصة أن الصين الشريك التجارى الأول للدولتين الجارتين، وتنظر للحوار الثلاثى على أنه منصة إقليمية مهمة لمعالجة التحديات الإقليمية التى تواجهها، كما أن الدول الثلاث تجمعهم مصلحة مشتركة هى تحييد سلوك كوريا الشمالية وبرنامجها النووى، والحوار الثلاثى أحد السبل القليلة لمعالجة ملف النووى الكورى.
من ناحية أخرى، بعد فرض الولايات المتحدة تعريفات جمركية على صادرات صينية مؤخرًا، أشارت الصين إلى استعدادها لفرض رسوم تصل إلى 25% على السيارات الأمريكية والأوروبية المستوردة، كرد انتقامى[1]، ولا شك أن الحرب التجارية تسبب ضررًا أكبر لدول مثل الصين أو كوريا الجنوبية أو اليابان، التى تعتمد اقتصاداتها بشكل أكبر على التجارة الدولية مقارنة بالولايات المتحدة أو العديد من دول الاتحاد الأوروبى، وهذا يساعد فى تفسير محاولة بكين بناء سلسلة من الصفقات التجارية مع جيرانها.
وعليه، لا يتوقع المراقبون من اجتماع القمة الثلاثى أن يحل جميع المشاكل، لكن القمة مهمة لإيجاد طريقة لمنع المشكلات من تقويض التعاون الاقتصادى، ومع الأخذ فى الاعتبار أن المحادثات المرتقبة بين اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة فى يوليو المقبل على هامش قمة حلف شمال الأطلسى فى واشنطن، ومن المرجح أن تشمل الصين على جدول الأعمال[2]، وهو ما يفتح باب التحليل على اعتبارات أن حلفاء الولايات المتحدة لديهم مصالحهم الخاصة التى يتعين عليهم إدارتها، لذا يقول محللون أمريكيون بإنه لا يوجد سبب يدعو واشنطن إلى القلق بشأن استئناف الاجتماعات بين الدول الآسيوية الثلاث.
وبجانب ذلك، فالأجواء السياسية مازالت تحمل عدم ارتياح صينى تجاه جارتيها وهو ما عبر عنه “لى” فى تصريحات فى بداية الاجتماع مع “يون وكيشيدا”: “بأنه يجب أن نتمسك بروح الاستقلال الإستراتيجى وأننا بحاجة إلى تعزيز التعددية القطبية فى العالم ومعارضة تشكيل الكتل أو المعسكرات”[3]، حيث تشعر الصين بالقلق من توسيع التدريبات العسكرية بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة واليابان وخطة اليابان لتحديث جيشها وصيانة السفن الحربية الأمريكية فى اليابان لدعم عملياتها فى غرب المحيط الهادئ، كذلك فى الأسبوع الماضى، استدعت بكين دبلوماسيى كوريا الجنوبية واليابان لتقديم احتجاج رسمى على حضور مشرعين من البلدين حفل تنصيب رئيس تايوان الجديد “لاى تشينغ تى”، ومع ذلك خلال الاجتماع صرح “يون” بأن كوريا الجنوبية تلتزم بمبدأ صين واحدة وهذا الموقف لم يتغير.
وتبرز إحدى التحديات الحقيقية لإنضاج العلاقات، فالقيود الأمريكية المتنامية على مبيعات الرقائق للشركات الصينية والرسوم الجمركية المتزايدة التى فرضها “جو بايدن” على صادرات التكنولوجيا الصينية والتى تراهن خلالها إدارة بايدن على دور يابانى كورى لإحكام العقوبات لمنع وصول الصين إلى أشباه الموصلات المتطورة والتكنولوجيات ذات الصلة، وعلى ضوء تلك الخلفيات فإن الأحاديث خلال الاجتماعات كانت إيجابية حيث أشار “يون” إلى أنهم اتفقوا على تهيئة بيئة عمل للتجارة وسلاسل الإمداد تتسم بالشفافية وقابلة للتنبؤ بها، واتفق “لى” و”يون” على إجراء حوار دبلوماسى وأمنى واستئناف محادثات التجارة الحرة، فيما ناقش “كيشيدا” ورئيس الحكومة الصينية موضوع تايوان واتفقا على عقد جولة جديدة من الحوار الاقتصادى الثنائى رفيع المستوى[4].
وبينما لم تكن كوريا الشمالية مدرجة رسميًا على جدول الأعمال، أعلنت “بيونغ يانغ” أنها ستضع قمرًا صناعيًا آخر للتجسس فى مداره وهى خطوة تنتهك عقوبات الأمم المتحدة، وأعلنت كوريا الشمالية، أن المناقشات التى جرت خلال قمة بين بكين وطوكيو وسيول فى شأن نزع الأسلحة النووية فى شبه الجزيرة الكورية تشكل “استفزازًا سياسيًا خطرًا” وتنتهك وضعها الدستورى كدولة تملك السلاح النووى، ففى بيان مشترك صدر بعد المحادثات، أكدت الدول الثلاث التزامها بـ “إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية”، مضيفة أن السلام “يخدم مصلحتنا المشتركة وهو مسؤوليتنا المشتركة”.
ومع ذلك ظهر تباين فى التفاعلات حول ملف كوريا الشمالية، فقد دعا “يون” إلى اتخاذ إجراء دولى صارم إذا مضت كوريا الشمالية قدما فى عملية الإطلاق، وحث “كيشيدا” كوريا الشمالية على سحب إطلاق قمرها الصناعي، لكن “لى” لم يذكر خطة الإطلاق، وقدم تعليقات عامة حول تعزيز السلام والاستقرار فى شبه الجزيرة الكورية من خلال حل سياسى[5].
إذن، فإن استئناف الاجتماعات على مستوى القادة يعد علامة إيجابية على التعاون بين الجيران الثلاثة فى شمال شرق آسيا، ولكن من غير المعروف إلى أى مدى سيتم تعزيز تعاونهم بشكل كبير.
