انعقدتْ قمة روسيا وآسيا الوسطى في دوشنبه وسط حالةٍ من الاضطراب الجيوسياسي المتصاعد الذي تشهده المنطقة، في وقتٍ تسعى فيه موسكو بوضوحٍ إلى استعادة حضورها وتأثيرها التقليدي الذي تراجع في السنوات الأخيرةـ، مع تزايد الضغوط الداخلية الناجمة عن قضايا الهجرة والتهديدات الأمنية المتنامية على حدودها الجنوبية.
تتعامل موسكو مع آسيا الوسطى باعتبارها امتدادًا طبيعيًا لمجالها الحيوي التاريخي، وتسعى جاهدةً إلى الحدِّ من النفوذ الاقتصادي الصيني المتنامي عبر مشروع “الحزام والطريق”، وكذلك إلى مواجهة الانخراط المتزايد للشراكات الغربية، مثل صيغة C5+1 التي تقودها الولايات المتحدة والمبادرات الأوروبية الموازية.
إلى جانب البُعد السياسي، أولتْ روسيا خلال القمة اهتمامًا خاصًا بـ الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي وسلاسل الإمداد، إذ تمثّل دول آسيا الوسطى ركيزةً رئيسيةً في منظومة الالتفاف الاقتصادي التي تعتمد عليها موسكو لتخفيف تأثير العقوبات، وتلعب هذه الدول دورًا محوريًا كـ ممراتٍ لنقل السلع والمواد ذات الاستخدام المزدوج، ما يجعلها عنصرًا استراتيجيًا في توازن موسكو الاقتصادي خلال المرحلة الحالية.[1]
في حين تنتهجُ دول آسيا الوسطى سياسةً خارجيةً متوازنةً وحَذرةً، تسعى من خلالها إلى الحفاظ على علاقاتها التقليدية مع روسيا دون الإخلال بانفتاحها المتزايد على قوى دولية وإقليمية أخرى، تقوم هذه المقاربة على مبدأ تنويع الشراكات دون القطيعة مع الماضي، بما يضمنُ لكل دولةٍ هامشًا من الاستقلال في اتخاذ القرار، وتبرز ملامح هذا النهْجُ في مواقفها من الحرب في أوكرانيا؛ إذ تجنّبت جميعُ دول المنطقة دعم الموقف الروسي علنًا.
قمة دوشنبه ومحاولات روسيا لإعادة تأكيد النفوذ التقليدي
عقدَ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اجتماعًا في دوشنبه 9 أكتوبر 2025 مع قادة دول آسيا الوسطى الخمس (طاجيكستان- كازاخستان- قرغيزستان- تركمانستان- أوزبكستان) في إطار مساعٍ روسيةٍ لتعزيز مستويات التعاون السياسي والاقتصادي والأمني مع شركائها الإقليميين.
تأمين الجبهة الجنوبية لروسيا
أولت روسيا اهتماماً متزايداً بالملف الأمني خلال القمة، مدفوعةً بتنامي المخاوف المرتبطة بالأوضاع في أفغانستان ومنطقة الشرق الأوسط، وقد انصبّ التركيز على تعزيز التعاون في مجالات مكافحة الإرهاب وضبْطِ الحدود، بما يكرّس مكانة موسكو كضامنٍ رئيسيٍ للأمن الإقليمي من خلال الإطار المؤسسي لرابطة الدول المستقلة (CIS)
وفي هذا السياق، تضمنّت المسودات التحضيرية لاجتماع رابطة الدول المستقلة الموسّع المنعقد في اليوم التالي للقمة (10 أكتوبر) مشروعاً لاعتماد مفهومٍ جديدٍ للتعاون العسكري حتى عام 2030، مع مناقشة صيغةٍ جديدةٍ لرايطة الدول المستقلة مما يمثّل خطوةً نحو ترسيخ النفوذ الروسي في المنطقة، ويعكس هذا التوجّهُ حِرصَ موسكو على الحدِّ من أي محاولاتٍ خارجيةٍ للتأثير في السياسات الداخلية للدول الأعضاء، استمراراً لنهجها التقليدي في بناء منظومةٍ أمنيةٍ إقليميةٍ متماسكة تحت مظلتها.[2]
الأجندة الاقتصادية وسياسة الهجرة
حرص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على إبراز الجوانب الاقتصادية الإيجابية للعلاقات مع دول آسيا الوسطى، مشيراً إلى ارتفاع حجم التجارة الثنائية مع طاجيكستان بنسبةٍ تفوق 17% خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2025. كما أشار إلى أن إجمالي التبادل التجاري مع دول المنطقة الخمس تجاوز 45 مليار دولار[3].
على صعيد الهجرة، فقد برز توظيف موسكو لملف العمالة الوافدة كأداةِ نفوذٍ اقتصاديٍ وسياسيٍ مستمرٍ، إذ مثّل حديثها عن “تعميق الشراكة الاستراتيجية” مع طاجيكستان تأكيداً لاستخدام الهجرة كوسيلة ضغط ضمن منظومة العلاقات الثنائية، حيث تُعد قضية أوضاع نحو 1.2 مليون عامل طاجيكي في روسيا من أكثر الملفات حساسية وتعقيداً سياسياً على جدول الأعمال، إذ تمثّل محوراً بالغ الأهمية في العلاقات بين موسكو ودوشنبه لما تحمله من أبعادٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ وأمنيةٍ متشابكة.ٍ
أجندة دول آسيا الوسطى المستقلة (الدفع الذاتي)
كشفت قمة دوشنبه عن تنامي نزعة الاستقلال النسبي لدى دول آسيا الوسطى وتوزيع علاقاتها لخلق حالة من توازن النفوذ في علاقاتها، ولا سيَّما كازاخستان وأوزبكستان، اللتين سعتا إلى دفع أجنداتٍ تنمويةٍ خاصةً تعكس إرادتهما في المشاركة بصياغة مسار التعاون بدلاً من الاكتفاء بتلقي التوجهات الروسية.
تُظهر هذه المواقف أن دول آسيا الوسطى باتت تمتلكُ قدراً متزايداً من الثقة الاستراتيجية في إدارة علاقاتها الخارجية، فلم تعدْ تخشى الموازنةَ بين مراكز القوة الكبرى — روسيا والغرب والصين وتركيا — بل أصبحت توظّفُ هذا التعددَ في الشراكات لتحقيق مصالحها الوطنية وتنويع خياراتها التنموية، ويعكس هذا التحوّل إدراكاً متنامياً لدى عواصم المنطقة بأن الاعتماد الأحادي لم يعدْ مُجدياً في بيئةٍ دوليةٍ تتسم بالتقلب والتنافس الحاد، وأن الانفتاح المتوازن هو السبيلُ للحفاظ على الاستقرار الداخلي وتعزيز المكانة الإقليمية.
ومن ثمَّ، فإن آسيا الوسطى لم تعد مجرد مجال نفوذ متنازع عليه، بل فضاءً جيوسياسياً فاعلاً يجب النظر إليه من منظورٍ جديدٍ يقوم على فهْمِ ديناميكياته الداخلية واستيعاب طموحاته التنموية المتزايدة، باعتباره محوراً رئيسياً في معادلة الأمن والاقتصاد الأوراسي.
طاجيكستان: الارتكاز الأمني والتبعية الاقتصادية
تمثّل طاجيكستان نموذجاً مميزاً في علاقاتها مع روسيا، إذ فضلت الحفاظ على التعاون السياسي والاقتصادي رغم عضويتها في المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت مذكرة توقيفٍ بحق الرئيس الروسي، ويعكس هذا الموقف إدراك دوشنبيه لثقل ارتباطها الاقتصادي بروسيا، حيث تشكّل تحويلاتُ المهاجرين العاملين هناك ما يقارب نصف الناتج المحلي الإجمالي، ما يجعلها في موقعٍ هشّ يعتمد على هذا المصدر الحيوي.
كما يرتكز أمن طاجيكستان بشكلٍ مباشرٍ على الوجود العسكري الروسي على أراضيها، حيث تستضيف أكبر قواعد روسيا العسكرية منذ فترةٍ طويلةٍ، وهو ما يمنح العلاقة بُعداً استراتيجياً مزدوجاً يجمع بين الحماية الأمنية والدعم الاقتصادي. ويظهر هذا التداخل في توقيع الجانبين على بيان مشترك يؤكد “تعميق الشراكة والتحالف الاستراتيجي”، بما يعكس استمرارية نمط العلاقة القائم على الاعتماد المتبادل غير المتكافئ[4].
التعددية الأوراسية: توازنات النفوذ بين موسكو وأنقرة في آسيا الوسطى
تشير قمّتا قابالا ودوشنبه إلى مرحلةٍ جديدةٍ من إعادة تشكيل موازين النفوذ في آسيا الوسطى بين محورين متنافسين: الروسي والتركي، ففي حين حاولت موسكو عبر قمة دوشنبه استعادة زمام المبادرة وترسيخ مكانتها كضامنٍ أمنيٍ تقليديٍ من خلال الأُطر القديمة مثل رابطة الدول المستقلة (CIS)، كانت قمة قابالا تؤكد صعود النفوذ التركي في صيغةٍ أكثر ديناميكيةً ومؤسسيةً عبر منظمة الدول التركية [5](OTS) التي تتحول تدريجياً من كيانٍ ثقافيٍ إلى منصّةٍ جيوسياسيةٍ واقتصاديةٍ فاعلة، ويمثّل هذا التوازي في التوقيت والمضمون اختباراً فعلياً لقدرة كل محورٍ على تحديد مستقبل الإقليم.
فروسيا تراهن على أدوات “الأمن الصلب” ومصالح الهجرة للحفاظ على التبعية، بينما تعتمد تركيا على القوة الناعمة الجيواقتصادية من خلال مبادرات الاتصال الإقليمي مثل الممر الأوسط وممر زنجزور التي تمنح دول آسيا الوسطى بديلاً عملياً عن الممرات الروسية المعرضة للعقوبات، تُظهر المقارنة أن المنطقة لم تعدْ ساحةَ نفوذٍ أحادية، بل باتت دول آسيا الوسطى تمارس سياسةَ الموازنة الاستراتيجية بين موسكو وأنقرة، مستغلةً التنافس بينهما لتحقيق أكبر قدرٍ من الاستقلالية والفُرص التنموية. وبهذا المعنى، أصبحت القمتان معاً تجسيداً لتحوّلٍ أعمق: انتقال مركز الثِقَل الإقليمي من النفوذ الروسي التقليدي نحو تعدديةٍ قطبيةٍ ناشئةٍ تقودها تركيا كقوةٍ بديلةٍ في الفضاء الأوراسي.
ختامًا:
تكشف المُعطيات الراهنة عن مرحلةٍ انتقاليةٍ في بنية التفاعلات الأوراسية، تتّسم بتقاطع المسارات الروسية والتركية وتزايد مبادرات دول آسيا الوسطى نحو صياغةِ أجنداتٍ أكثر استقلاليةً. وفي هذا السياق، يُوصى بما يلي:
1- رصْد تطور صيغة “منظمة الدول التركية+” (OTS+):تمثّل هذه الصيغة المؤسسية أداةً جديدةً لاستقطاب الشراكات والاستثمارات الخارجية، وينبغي متابعتها بوصفها إطارًا قد يُسهم في إعادة تشكيل موازين النفوذ الإقليمي والمؤسسي في آسيا الوسطى ومحيطها.
2- تقييمُ استدامة الممرات الإقليمية الجديدة: تبرز الحاجة إلى إجراء تقييمٍ دوريٍ لكفاءة واستقرار الاستثمارات في الممر الأوسط (Trans-Caspian International Transport Route)، ومقارنتها بمسارات النقل التقليدية عبر الأراضي الروسية، خاصة في ظل استمرار التوترات الجيوسياسية والعقوبات المفروضة على موسكو.
3- متابعةُ مسار التنسيق العسكري الروسي: يُستحسن مراقبة الجهود الروسية الرامية إلى توحيد أُطر التعاون العسكري ضمن رابطة الدول المستقلة (CIS)، لا سيَّما في ضوء المسودة المقترحة لاعتماد مفهوم التعاون العسكري حتى عام 2030، الذي يعكس مسعى موسكو لتثبيت موقعها كضامنٍ أمنيٍ رئيسيٍ على الجبهة الجنوبية.
