مع صعودِ قيادةٍ جديدةٍ، تواجه “طوكيو” تحدياتٍ وتطوراتٍ مهمةً على الصعيدين الإقليمي والدولي، حيث تتصاعد التوترات الجيوسياسية والنزاعات الإقليمية، خاصةً مع تنامي النفوذ الصيني وزيادةِ التحركات العسكرية في بحرِ الصين الشرقي والتحالف الروسي مع كوريا الشمالية، وعودةِ ترامب للبيت الأبيض وما قد يعنيه ذلك لليابان، إذ إن اليابان كغيرها مازالت تحسبُ جدوى وتحديات تلك العودة، ومن ناحيةٍ أخرى، تجدُ القيادةُ اليابانيةُ الجديدةُ نفسها أمام اختبارٍ صعب يتمثّل في ضرورة تعزيز الأمن القومي، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي وسط ضغوطٍ داخلية، وإعادة بناء الثقة الشعبية بعد سلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية.
صعود “إيشيبا”:
بعد أربعِ محاولاتٍ للترشح لرئاسة الحزب الديمقراطي الليبرالي الياباني في أعوام 2008، و2012، و2018، و2021، تمكن “إيشيبا” أخيرًا في عام 2024 من تحقيق هدفه في محاولته الخامسة، بعد أن أمضى سنواتٍ داخل أروقةِ الحزب والحكومة، حيث شَغِلَ مناصبَ رئيسيةً بما في ذلك وزير الدفاع، ويركز على تعزيز القدرة الوطنية على الصمود في مواجهة الكوارث الطبيعية والتهديدات الجيوسياسية.
واستهدف “إيشيبا” تعزيزَ قاعدة الحزب وتحقيقَ الاستقرار لحكومته، لذا دعا لانتخاباتٍ مبكرةٍ، والتي جرت في 27 أكتوبر الماضي، لكن الائتلاف الحاكمَ المكونَ من “الحزب الديمقراطي الليبرالي وحزب كوميتو الجديد” خَسِرَ الأغلبيةَ الساحقةَ التي كان يتمتع بها منذ الانتخابات العامة في عام 2012، وبات يمتلك 215 مقعداً، مما يجعله أقل بـ 18 مقعدا من الأغلبية، وهى ٢٣٣ مقعدًا، من أصل ٤٦٥ مقعدًا هى مجموع مقاعد البرلمان. [1]
نظرةٌ على الداخل الياباني:
كان قد تراجع تأييدُ الحزب الليبرالي الديمقراطي – منذ العام الماضي- بعد الكشف عن تورط بعضِ أعضائه في شبهاتِ فساد عبر تحقيق مكاسبَ شخصيةٍ من خلال إخفاء دخلهم من فعاليات جمع التبرعات، ورغم فرْضِ الحزب عقوبات على عشرات السياسيين وحلِّ العديد من الفصائل القوية داخله، إلا أن الناخبين اعتبروا تلك الإجراءات غير كافية، على صعيدٍ آخر، تسببَ ارتفاعُ التضخم إلى أعلى مستوياته منذ عقود في زيادة الضغط على الإنفاق الأسري، وأظهرتْ الاستطلاعاتُ أن الناخبين لم يشعروا بأن الحزب يبذلُ جهودًا كافيةً لمعالجة هذه المشكلة.[2]
ويُعتبر نظام حكم الأقلية الذي نشأ بعد الانتخابات حالةً نادرةً في التاريخ السياسي لليابان، ومن المتوقع أن يُؤديَ إلى زيادة الاضطرابات في سياساتها خلال السنوات القادمة، وجاء ذلك على إثر تخلى “إيشيبا” عن موقفه المعارض للحكومة في السابق وأعطى الأولويةَ لمواصلةِ سياسات الائتلاف الحاكم، بعد أن كان يتوقعُ منه ناخبو الحزب الليبرالي الديمقراطي، إصلاحَ هيكلِ الحزب وتوجيهَ سياساتِ الحكومة، بالإضافة إلى تقليل الشكوك المحيطة بتمويل الحزب وزيادة الشفافية بشأن كيفية استخدام النواب للأموال العامة لدعم أنشطة الحزب، مما جعل أنصاره يشعرون بالخيبة.
ويواجهُ “إيشيبا” تحدياتٍ كبيرةً داخل الحزب – فعلى عكس سلفهِ “آبي وكيشيدا”- فهو لا يقودُ فصيلاً قوياً في الحزب، ولتعزيز موقفه وتخفيفِ التوترات المحتملة، قام “إيشيبا” بتعيين رئيس الوزراء السابق “يوشيهيدي سوجا” نائبًا لرئيسِ الحزب الليبرالي الديمقراطي، وشخصيات رئيسية تتمتع بخبرة كبيرة في مجال الدبلوماسية والدفاع، بما في ذلك وزيرُالخارجيةِ الجديد ووزير الدفاع والمستشار الخاص للأمن القومي، وقد طمأنت هذه التعيينات الاستراتيجية الحلفاء الدوليين بشأن استقرار واستمرارية القيادة اليابانية.
وقد وضعَ ضمنَ أولوياته معالجةً البيئة الأمنية غير الآمنة في آسيا، حيث تطلق كوريا الشمالية صواريخَ باليستيةً عابرةً للقارات، واعتبر أن القدرة الدفاعية اليابانية كقوة ردعٍ يجبُ تعزيزها بشكلٍ كبير، كما سيتم استثمار 65 مليار دولار في مجال الذكاء الاصطناعي وإنتاج الرقائق، وفيما يتعلق بقضية المختطفين مع كوريا الشمالية، أشار إلى عزمْهِ العمل على إعادة المختطفين إلى الوطنِ بكلِ السبلِ المُمكنةِ، وهى القضيةُ التى قدمَ بشأنها “كيشيدا” مبادرة للحوار لكن كوريا الشمالية لم تُجبْ بالقبول.
ربما تكون كوريا الجنوبية الدولة الأكثر ارتياحاً لانتصار “إيشيبا”، الذي يتبنّى مقاربةً معتدلةً بشأن القضايا التاريخية، الأمرُ الذي يقللُ من احتمالات الاحتكاك، وبالتالي هناك فرصةٌ للمُضي في تحسين العلاقات الثنائية وتعزيز التعاون بشأن المخاوف الأمنية المشتركة، مثل كوريا الشمالية.
عودةً ترامب للبيت الأبيض:
إن اليابان أحدُ الحلفاءِ الرئيسيين للولايات المتحدة في منطقة الهند وباسيفيك، بجانب الفلبين، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، ولا يمثلُ قدوم ترمب مجدداً بعد بايدن نقطةَ انعطافٍ للسياسةِ الخارجية الأمريكية، فمن المرجّح أن تظلَ السياسةُ الخارجية للولايات المتحدة في هذه المنطقة مستقرةً، فخلال فترة ولاية ترامب الأولى في منصبه، في عام 2019، نشرَ هو وفريقهُ استراتيجيةَ المحيطين الهندي والهادئ، التي سعتْ إلى الحفاظ على منطقة “حرة ومفتوحة” في المقام الأول من خلال تعزيز التحالفات والشراكات لمواجهة الصين، وعندما تولى بايدن منصبه في عام 2021، ضاعفَ من نهج سلفه.[3]
لكن التحالفَ الذي أنشأه بايدن مع اليابان وكوريا الجنوبية، ليس من الواضحِ إن كان سيظلُ الأداةَ الرئيسيةَ لإدارة ترامب للتعامل مع التطورات في الإقليم، أم أنه سيقدمُ تصوراً آخر، وفى هذا الشأن، قال بايدن خلالَ لقائهِ نظرائهِ في اليابان وكوريا الجنوبية في بيرو حيث اجتماع أبيك: “من المرجّحِ أن يكونَ هذا آخرُ اجتماعٍ ثلاثيٍ لي مع هذه المجموعة المهمة، لكنني فخورٌ بأنني ساعدت في أن أكونَ أحدَ أجزاء بناء هذه الشراكة، وأعتقد أنها بُنيتْ لتدومَ، هذا هو أملي وتوقعاتي”[4].
ومع ذلك، من المرجح أن تتوافقَ توجهات إيشيبا مع رغبة ترامب، في مشاركةِ حلفاء الولايات المتحدة العبء الأمني معها عبر زيادة الميزانيات العسكرية والمسؤوليات، حيث عبر “إيشيبا” عن حاجته لتحالفٍ أقوى بين اليابان والولايات المتحدة، على أن يقومَ ذلك على المزيد من المعاملةِ بالمثل بين الدولتين عبر إجراء تعديلات على اتفاقية وضع القوات والمعاهدة الأمنية بينهما، حيث كان قد تحدث قبل تَولّيهِ السلطة عن أن مهمتَه متمثلةٌ في رفْعِ التحالف الياباني الأمريكي إلى مستوى التحالف الأمريكي البريطاني، وتقليل “العبء على القوات الأمريكية في اليابان”، باعتبار أن المعاهدةَ الأمنيةَ بين اليابان والولايات المتحدة “معاهدةٌ ثنائيةٌ غير متكافئة”، وصرح بأن اليابان “يجب أن يكونَ لديها استراتيجيتُها العسكريةُ الخاصة وأن تُصبحَ مستقلةً من حيث الأمن”، فهو يدافع عن تمركز قوات الدفاع اليابانية على الأراضي الأمريكية، والاستخدام المشترك للقواعد العسكرية الأمريكية في “أوكيناوا” من قِبلِ القوات الأمريكية واليابانية[5].
إن أفكارَ “إيشيبا” القومية تتجهُ للوفاء بالوعد الذي قطعه أسلافهُ بزيادة الإنفاق الدفاعي، وهو ما سيرحبُ به ترامب، لكن مطلبه بالمساواة والمعاملة بالمثل مع الولايات المتحدة فعلى الأرجح سيظلُ معلقاً، في ضوء سياسة “أمريكا أولا” التي يقودها ترامب.
الدعوةُ لإنشاء ناتو آسيوي:
كان قد أعلن “إيشيبا” قبل وصولهِ السلطة دعمه فكرة “الناتو الآسيوي”، لكن تبدو فرصةُ هذه الآلية الدفاعية ضئيلةٌ، وهي الحقيقة التي يعترفُ بها إيشيبا، لأنها سوف تستهدفُ مواجهةَ الصين، وهو الموقفُ الذي ترفض أغلب الدول الآسيوية اتخاذه، كما أن تنوع المصالح الاستراتيجية والأولويات الأمنية بين الدول الآسيوية يجعلُ إنشاءَ نظام دفاع جماعي أشبه بالناتو أمراً بالغ الصعوبة[6]، كما أن إنشاء ذلك الحلْفِ سيدفعُ مثلث الصين روسيا كوريا الشمالية لتسريع إنشاء حلف مضاد، وهو ما يعني إغراق المنطقة في مزيد من التوتر والتصعيد.
كما قد تنتفي الحاجة إليه، فخلال نهاية يوليو الماضي، أعلن مسؤولون أميريكيون ويابانيون، أن الولاياتِ المتحدةَ ستنشئ قيادةً عسكريةً جديدةً في اليابان لتعزيز العلاقات الأمنية بين البلدين، في إطار تحركات واشنطن الرامية لدعم حلفائها في آسيا، لمواجهة التوسع العسكري الصيني، على أن تتولى القيادةُ الأمريكيةُ الجديدة تنسيقَ العمليات العسكرية مع اليابانيين، وتخطيط المناورات المشتركة، والمشاركة في الدفاع عن البلاد في حال اندلاع أي عدوان.
وبذلك، ستُدار القدراتُ القتاليةُ الأمريكية من قيادة على الأراضي اليابانية لأول مرة، ما سيُغني عن الحاجة لانتظارِ تعليمات من قيادة المحيطيَنِ الهندي والهادئ الأميركية التي تقع في هاواي على بعد 3500 ميل، ووصف وزير الدفاع الأمريكي هذا التطور أنه “سيكون التغيير الأكبر في القوات الأمريكية في اليابان منذ إنشائها، وأحد أقوى التحسينات في العلاقات العسكرية مع اليابان في 70 عاماً”.[7]
وتتراجعُ أولويةُ ذلك الأمر حاليا، فإذا كانت مقاربة بايدن اعتمدت في جزءٍ كبيرٍ منها على بناء تحالفات سياسية وعسكرية في المنطقة موجهة ضد الصين، فإن مقاربةَ ترامب اقتصادية بالأساس وتقوم على المواجهة المباشرة ضد الصين، بدءًا من الحرب التجارية وفرْضِ تعريفاتٍ جمركيةٍ كبيرة على المنتجات الصينية، وصولاً إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد الشركات الصينية مثل هواوي، ويبدو أن ذلك هو ما عاد ترامب من أجلِ استكماله، حيث كان قد وعد خلال حملته الانتخابية بفرْضِ تعريفاتٍ جمركيةٍ عقابية على الصين، وتدل اختياراته الوزارية بعد النجاح في الانتخابات على أنه سيتخذ نهجاً أكثر تشدداً في العلاقات ضد الصين، فقد رشح السيناتور “ماركو روبيو”، وهو منتقد شرس لبكين، ليكون وزيرا للخارجية، كما اختار النائب مايك والتز كـ”مستشار للأمن القومي”، والنائب السابق “جون راتكليف” لقيادة وكالة المخابرات المركزية، وكلاهما ينتقدان الصين أيضًا.[8]
لكن ذلك لا يعني أن ترامب سيغفلُ الحفاظَ على علاقاتٍ قويةٍ مع الحلفاء في شرق آسيا، فقد تعهد ببناء جيش قوي، ولتحقيق ذلك يحتاجُ لإصلاح البحرية الأمريكية بعد أن تفوقت الصين في بناءِ قاعدةٍ صناعيةٍ بحريةٍ هي الأكبر في العالم، بالتالي سيحتاج ترامب استكمالَ جهود بايدن في تأهيل وتطوير البحرية الأمريكية عبر التعاون مع اليابان وكوريا الجنوبية الرائدين في هذا المجال.
وكان قد تبنى ترامب نهجًا مختلفا في التعامل مع كوريا الشمالية خلال رئاسته الأولى، حيث التقى بالزعيم كيم جونغ أون ثلاث مرات، في محاولاتٍ لاحتواء البرنامج النووي الكوري الشمالي، لكنه لم يحقق نتائج ملموسة في نزْعِ السلاح النووي، فمن المرجح أنه سيقدمُ تصوراً آخر بخصوص ملف النووي الكوري بشكلٍ خاص والتطورات في شرق آسيا بشكل عام.
علاقاتُ “إيشيبا” مع الصين:
خلال لقائهما على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي (أبيك) في بيرو وهو أولُ اجتماعٍ لهما، أبلغَ الرئيسُ الصيني “إيشيبا” أن الصين تأمل أن تتعامل اليابان “بشكل مناسب” مع قضايا رئيسية مثل التاريخ وتايوان، وشدد “شي جين بينج” على ضرورة أن تعمل الجارتان الآسيويتان على حماية النظام العالمي للتجارة الحرة واستقرار سلاسل الإنتاج والإمداد دون عوائق، وأشارَ شي إلى تعهّدٍ إيشيبا عقب توليه منصبه، بتعزيز العلاقات الاستراتيجية الصينية-اليابانية ذات المنفعة المتبادلة بشكل شامل.
من جانبه، قال رئيس الوزراء الياباني للرئيس الصيني إنه يرغبُ في بناء علاقة “بناءة ومستقرة”، لكنه طلبَ إطلاق سراح المواطنين اليابانيين المحتجزين في الصين، وأبدى قلقه إزاء الأنشطة البحرية الصينية، حيث تُواصلُ الصين القيام بأنشطة بحرية وجوية بالقرب من جزيرةٍ تسيطر عليها اليابان، وكذلك حول تايوان وفي بحر الصين الجنوبي، لتأكيد مزاعم بأحقيتها في السيادة الإقليمية، وتوغلت طائرة عسكرية صينية في المجال الجوي الياباني لأول مرة في أغسطس[9]، وكان إيشيبا يقوم بزيارات متكررة لتايوان قبل أن يصبحَ رئيسًا للوزراء، لذا فإن تحسينَ العلاقات بين اليابان والصين سيستمر في أخذ شكل لقاء الزعماء واستمرار الحوار على مستوى المسئولين، لكن التحسن الفعلي يبقى موضع شك.
ختامًا:
قد يمثّلُ التأييدُ المحلي غير القوي تحديا لـ”إيشيبا”، بعد أن نجحَ رئيسا الوزراء السابقان “شينزو آبي وفوميو كيشيدا” في تعزيز مكانة اليابان كلاعبٍ أساسيٍ في البنية الجيوسياسية والجيو اقتصادية الإقليمية، في ظل التوترات المتزايدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، واستعراضِ الصين لقوتها ضد تايوان وتعزيز التعاون الأمني مع روسيا، واستكمال كوريا الشمالية تطوير صاروخٍ باليستي عابرٍ للقارات جنبا الى جنب مع عَقْدِ اتفاقية دفاعٍ مشتركٍ مع روسيا، لكنه في المقابل يملك “إرث جيد” من العلاقات الدولية الرفيعة مع الحلفاء، وعلى رأسهم الولايات المتحدة ما يمنحه فرصةً حقيقيةً للمُضي قدماً، وربما تمثّلُ عودة ترمب متنفس لتوجهاته الأمنية الاستقلالية.
