فور انتهاء الاجتماع السادس لمجموعةِ العمل الدولية، المعروفة ب “صيغة موسكو”، للتشاور بشأن التحديات والملفات المتعلقة بالشأن الأفغاني، أعلنَ الممثلُ الرئاسيُ الروسي فى أفغانستان (زامير كابولوف) بدْءَ بلادهِ العمل على إزالة “طالبان” من قائمة المنظمات الإرهابية التى سبقَ وضْعها عام 2003، بعد اتخاذ القرار على “أعلى مستوى” بالإِشارة إلى وزارة الخارجية الروسية وجهاز الأمن الفيدرالى الروسى، وأردف كابولوف تصريحه بأن “القرار النهائي سيتم الإعلان عنه في المستقبل القريب جداً” نظراً لمجموعةِ الإجراءات القانونية المتعلقة بهذا القرار[1]، ناهيك عن دعوة الخارجية الروسية الغرب بعد هذا الإعلان برفعِ العقوبات المفروضة على أفغانستان فى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وإعادة أصول كابول التى سبقَ وتم تجميدها والعمل على إعادة إعمار البلاد.
وفى حقيقة الأمر تدرسُ روسيا هذا القرار منذ استيلاء طالبان على السلطة فى أغسطس لعام 2021، وفى خُطوةٍ أولية لانفراج العلاقات وبناء قنوات تواصل مع الحكومة الجديدة فى كابول أعلنت حينها تعيينَ أول قائمٍ بأعمال السفارة الأفغانية فى موسكو، ودعوتها للمشاركة فى المنتديات والمحافل الدولية مثل منتدى “سان بطرسبرج الاقتصادى” فى ظل أزمةِ الاعتراف الدولى التى تمرُّ بها حكومة طالبان، فى إشارةٍ ترمى إلى المصالح المشتركة بين الجانبين وتحمل فى طياتها العديدَ من الأبعاد الأمنية والسياسية وكذلك الاقتصادية، التى من شأنها أن تعززَ التعاون بين الكرملين وطالبان.
دوافعُ وأبعادُ القرار الروسى:
البُعدُ الأمنى “محاربة تنظيم داعش خرسان”:
نظراً لارتباط أمن جمهوريات آسيا الوسطى بالأمن القومى الروسى تأتى التهديداتُ الأمنيةُ بشكلٍ عام وتهديد داعش خراسان بشكلٍ خاص فى مقدمة المحفّزات نحو رفع الحركة من القوائم الإرهابية، باعتبارها حليفا فى مكافحة الإرهاب كما وصفها الرئيس الروسى (فيلاديمير بوتين) خلال إحدى تصريحاته فى شهر يوليو المنصرم، ناهيك عن إعلان(الكسندر بورتنيكوف) مدير الاستخبارات الروسية أن “المعطيات تُشيرُ إلى استعداد طالبان لمواجهة التهديدات الإرهابية القادمة من تنظيم ولاية خراسان، الجناح الأفغاني لتنظيم داعش، الذى تتهمه روسيا بالمسؤولية عن هجماتٍ داميةٍ استهدفت الأراضى الروسية”[2]. ويعتبر”تنظيم داعش ولاية خراسان”، المرتكز فى شرق أفغانستان وأجزاءً من شمالها وجنوبها، الجماعة الأكثر قلقاً من الناحية الأمنية بالنسبة لطالبان، وعلى الرغم من نجاح طالبان النسبى فى التعامل مع تهديد تنظيم داعش حيث تراجعتْ عملياتُه واتخذَ نَمطَ العمليات الطفيفة، ناهيك عن تراجع أعداد عناصر التنظيم، إلا أنه تمت السيطرة على المستوى العملياتي فقط، وما زال تهديد التنظيم قائماً ليس فقط لحكومة طالبان، وإنما امتد تهديدُه إلى الدول الآسيوية المجاورة والجمهوريات ذات الأغلبية المسلمة وكذلك أجزاء من أوروبا هذا العام الجارى، لاسيما روسيا بعد الهجوم الدموى الذى تعرضت له الأخيرة فى شهر مارس الماضى، بجانب استمرارية التهديد من خلال الأنشطة التجنيدية والدعائية وبعث التهديد للأمن الدولى عبر وسائله المتنوعة.
لذلك تسعى روسيا بالتعاون الوثيق مع طالبان حرصاً على الاستقرار الداخلى لموسكو وكابول على حدٍ سواء محاربة ولاية خراسان مثلما ساعدت النظام السوري بعد عام 2014 فى القضاء على خلايا إرهابية عديدة فى سوريا، فى سبيل بناء قدراتٍ أمنيةٍ قوية بأفغانستان وتزويدها بما يلزمُ فى حربها على الإرهاب تعويضاً عن تراجع مستوى الدعم المحلي والإقليمي من خلال التعاون الاستخباراتى والعسكرى بجانب توريد الأسلحة الصغيرة لحماية المنطقة من التهديدات الإرهابية وضمان استقرار الحدود .[3]
التعاونُ الاقتصادى واللوجيستى عبر البوابة الأفغانية:
بجانب الدوافع الأمنية تُوجدُ عدة دوافع اقتصادية تقفُ وراء سعي موسكو لتطبيع العلاقاتِ مع أفغانستان تبدأ برفع العراقيل السياسية والقانونية وذلك من أجل توثيق العلاقات الاقتصادية وأواصر التنمية بين الجانبين وتعزيز التبادل التجارى وكذلك التعاون فى مشروعات البنية التحتية التي تشملُ مشاريعَ السكك الحديدية وخطوطَ أنابيب الغاز، فضلاً عن فتْح الأسواق أمام الصادرات الروسية وتأمين المشاريع الاستثمارية فى قطاعى الطاقة والتعدين خاصة مع تمتّع كابول باحتياجات كبيرة من النفط والغاز والأحجارِ الكريمة فى الشمال ناهيك عن احتياطات الليثيوم فى الوسط .[4] وحقيقة الأمر تأملُ روسيا فى سلسلةٍ من المشاريع الطموحة فى آسيا الوسطى تنطلق من أفغانستان ويساعدُ قرار رفْع الحظر على السماح للشركات الروسية بممارسة الأنشطة الاقتصادية دون عرقلةٍ أو تحدياتٍ قانونية، وفى المقابل تسعى طالبان إلى نجاح تلك التوجهات فى سبيل تحسين الوضع الاقتصادى ورفع العقوبات الاقتصادية خاصة مع زيادة حجم التجارة بين البلدين والتى تجاوزت المليار دولار طبقا لبعض البيانات الروسية [5].
وقد عبَّرَ عدد من المحافل عن هذا التعاون ويُستدلُ عليه فى مشاركة وفد من الحكومة الأفغانية فى المنتدى الاقتصادي في سان بطرسبرغ، بجانب الاجتماع السادس المشار إليه مسبقا لصيغة موسكو والذى أجرى على هامشه (سيرجي لافروف) وزير الخارجية الروسي محادثاتٍ مع نظيره (أمير خان متقي) والتى ركزت على التعاون التجارى والعمل المشترك فى مشروعات استراتيجية، لاسيما فى مجالى الطاقة والزراعة والاستفادة من المواد الخام فى الأراضى الأفغانية مستقبلا[6].
أمنُ الحدود الروسية:
تشعرُ موسكو بتهديدات أمنية من ناحية حدودها الجنوبية فى آسيا الوسطى أو التى تُعرفُ بالحدود الأجنبية القريبة من روسيا وبالتالى تُعتبرُ منطقة نفوذ استراتيجية لها، ومن ثمَّ تسعى روسيا إلى تغير موقفها تجاه حكومة طالبان لضمان أمن حدودها وكذلك تحقيق الاستقرار الأمنى للحدود الروسية الجنوبية من أى إرهابٍ قادم. وفى الواقع روسيا ليست الدولة الأولى التى تتزعزع فى رفضها لطالبان فقد سبقتْها جارة روسيا “كازاخستان” وأعلنتْ أنها سترفع الحركة من قائمة المنظمات الإرهابية الخاصة بها فى 3 يونيو الماضى، ناهيك عن تغير موقفِ “اوزبكستان” و”طاجيكستان” تجاه الحركة بسبب وجود ما يفوق 4 مليون شخص من العِرق الأوزبكى والطاجيكى يقطنون في أفغانستان. الأمر الذى ساعد على تطور الاتصالات بين موسكو وطالبان ناهيك عن زيارات وفودٍ من الحركة إلى روسيا ودعوة الأخيرة لمحادثات بين الحركة والدول المجاروة[7].
تقليصُ النفوذ الغربى فى المنطقة:
تأمل موسكو بتعزيز دورِها كقوةٍ مهيمنة فى آسيا الوسطى لاسيما بعد تراجع العلاقة بين روسيا والغرب وزيادة العقوبات المفروضة عليها على خلفية الأزمة الروسية الأوكرانية، وبعد الانسحاب الأمريكى من كابول حاولت روسيا إعادةَ ملءِ الفراغ وتحقيق نوع من التقارب مع حكومة طالبان الجديدة لحماية أمنها القومى والقضاء على الإرهاب من ناحية وتحقيق المصالح الروسية التوسعية فى مقابل الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية من ناحيةٍ أخرى، وفى هذا الإطار يؤكدُ الكرملين رفضَه لإقامة قواعد عسكرية أجنبية فى الأراضى الأفغانية بعد خروج القوات الأمريكية فى عام 2021 أو نشر منشآت عسكرية جديدة في الدول المجاورة تحت أي ذريعة كما صرح لافروف[8] .[9]
إجراءاتٌ مُسبقة:
وعلى صعيدٍ آخر يتطلب نفاذ القرار عدة إجراءات من الجانب الأفغانى يأتى فى مقدمتها الملف الحقوقى وضرورة العمل على تخفيفِ القيود التى تفرضها الحركة في مجالات حقوق الإنسان وحقوق المرأة واتخاذ إجراءات أكثر اعتدالاً تجاه هذا الملف، وحقيقة الأمر تطبق الحركة منذ عودتها للسلطة مجموعة من السياسات المتشددة تجاه المرأة والأقليات الدينية والعرقية تتسبب فى أزمةٍ إنسانيةٍ وحقوقية تواجه المجتمع الأفغانى حتى اليوم، الأمر الذى يقف عائقاً رئيسياً أمام الاعتراف الدولى بها وحصولها على الشرعية الدولية كممثلة عن الشعب الأفغانى. ناهيك عن ضرورة التعامل فى إدراة الملف الأمنى لمنْع التهديد الناتج عن العمليات الإرهابية من جانب الجماعات المسلحة والإرهابية التى شجّعت عودةَ طالبان للسلطة من تناميها حيث اعتبرتها نموذجاً يُحتذى به ومصدراً للإلهام ليس فقط داخل أفغانستان ولكن خارجها أيضاً [10]. وفى هذا الإطار ومن أجل الدفع بالإجراءات الأفغانية أكد (زامير كابولوف) بعد اجتماع صيغة موسكو “أن روسيا سترسل دفعةً من المساعدات الإنسانية إلى أفغانستان فى شهر نوفمبر”، وذلك فى سبيل تحسين الوضع الإنسانى فى كابول وكذلك تطوير البنية التحتية، كما تمَّ التأكيد على استعداد الدول الأخرى المجاورة فى تقديم المساعدة الإنسانية لأفغانستان لاسيما بعد توقف المساعدات الإنسانية وتراجع التمويل الغربى لبعض البرامج الإنمائية وارتفعت مستويات انعدام الأمن المعيشى [11].
انعكساتٌ مضطربة:
يثيرُ اتجاه إعطاء الشرعية لطالبان والسعى لحذفها من قائمة المنظمات الإرهابية حالةً من القلق والتساؤل حول مدى جدية مساعدة تلك الخطوة فى تحقيق الاستقرار الأمنى فى أفغانستان، نظراً لغموض علاقة طالبان مع الجماعات المسلحة الأخرى التى تخلقُ تساؤلاً يتعلق بماهيّة وسببية السياسات التى تتبعها طالبان من أجل خلْقِ بيئة مواتية للجماعات الإرهابية والمسلحة على النطاق الإقليمى، خاصة وأن الحركة لديها علاقاتٍ خفيةً وطيدة مع كلٍ من تنظيم القاعدة وحركة “طالبان باكستان”، الأمر الذى يفرضُ الحذر الروسى فى التعاون مع طالبان والضغوط عليها من أجل اتخاذ موقف أكثر حزماً فى التعامل مع ولاية خراسـان [12].
مما سبق؛ يبدو التحولُ نحو اتخاد العلاقات نهجاً أكثرَ رسمية فى التعامل مع حكومة طالبان، وإن كانت خطوات صغيرة نحو الاعتراف بحكومة كابول، يحكمها عددٌ من المصالح المتبادلة لاسيما لموسكو التى ترى فى طالبان شريكاً استراتيجياً يستطيعُ تحقيقَ عدة مكاسب فى المنطقة لاسيما فى ظل التحولات الجيوسياسية الراهنة، يقع فى مقدمتها التعاون الأمنى وكبْح جماح التهديد الإرهابى المتمثل فى ولاية خراسان، ناهيك عن إمكانية توقيع عددٍ من الاتفاقيات الاقتصادية ومشروعات التنمية دون التعثّر فى أزمات قانونية تستطيع من خلالها كلا من موسكو وطالبان كَسْر حلقات الضغط الناتجة عن العقوبات الغربية وإن كانت كلا منهما لها الإطار الخاص، كما يفرضُ على حكومة الأمر الواقع فى أفغانستان مجموعة من الإجراءات بشأن الملفات الداخلية وكذلك الخارجية مع جيرانها من أجل تحقيق القرار الروسى لعدم تورط الكرملين فى أفغانستان.
المصادر:
[1] “القرار اتخذ”.. هل سترفع روسيا طالبان من قائمة المنظمات الإرهابية؟”، موقع العربى، 4 أكتوبر 2024، متاح على الرابط أدناه:
[3] “كيف يستغل داعش خراسان الصراعات في الشرق الأوسط لإحياء “الخلافة”؟”، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، 17 أكتوبر 2024، متاح على الرابط أدناه:
