كان الدورُ الصينيُ في الطيران التجاري يقتصرُ في السابقِ على امتلاكِ واحدةٍ من أكبر أسواق النقل الجوي في العالم، إلى جانب استثمارات في المطارات، غير أن دخولَ الصينِ مجال تصنيع الطائرات عبر شركة “كوماك” غيّر طبيعة هذا الدور، حيث أصبح الطيران التجاري أداة استراتيجية لتقليل الاعتماد على الغرب وتعزيز نفوذها الجيوسياسي.
وبينما لا تزالُ الشركةُ بعيدةً عن منافسة “بوينغ” و”إيرباص” على المستوى الدولي، إلا أنها تحققُ تقدمًا ملحوظًا في الأسواق المحلية، كخطوةٍ أولى نحو كسْرِ الاحتكارِ الغربيِ، ومع استمرار الأزمات التي تواجهها “بوينغ” و”إيرباص”، قد تكون هذه فرصة للصين لتعزيز مكانتها، لا سيما إذا تمكنت من تجاوز العقبات التقنية واللوجستية، وتحقيق الاعتمادات الدولية اللازمة لدخول الأسواق الغربية.
تصنيعُ الطائراتِ “أداة دبلوماسية”
تمتلكُ الدولُ المصنعةُ للطائراتِ، مثل الولايات المتحدة (بوينغ) وأوروبا (إيرباص)، القدرة على فرضِ عقوباتٍ اقتصاديةٍ من خلال تقييد صادرات الطيران، فقد منعت واشنطن وبروكسل بيْعَ الطائراتِ وقطعَ الغيارِ لإيران وروسيا، مما حدّ من قدرتهما على تحديث أساطيل الطيران.
ويتمُ استخدامُ صفقاتِ الطائراتِ في العلاقات الدبلوماسية، حيث عقدت الصين صفقة شراء 300 طائرة بوينغ بقيمة 37 مليار دولار في 2017 خلال زيارة ترامب أثناء فترة رئاسته الأولى، لتعزيز العلاقات التجارية. في المقابل، تحولت الصين إلى إيرباص عام 2023 بعد توتر علاقاتها مع الولايات المتحدة، حيث طلبت 292 طائرة من أوروبا.
محاولاتُ “كوماك” لكسْرِ الاحتكارِ الغربي
تعد “كوماك” الذراعَ التجاريةَ الرئيسيةَ لصناعةِ الطيرانِ المدنيِ في الصين، وتحظى بدعم مباشر من الحكومة الصينية، سواء على مستوى التمويل أو البنية التحتية الصناعية، وفي بداية العام الحالي، سجلت طائرة “كوماك طراز C919” أولَ رحلةٍ مجدولةٍ لها، حيث نقلت ركاباً بين شنغهاي وهونغ كونغ، في خطوةٍ اعتُبرت مؤشراً على أن “كوماك” تستعدُ لمنافسةِ “إيرباص” و”بوينغ” عالمياً، انطلاقاً من سوقها المحلية المتنامية. وقد نجحت في تحقيق قفزة هائلة في سنة 2024. إذ سجلت هذه الشركة الحكومية 300 طلبية لطائراتها مقابل 615 طلبية لطائرات إيرباص 320 الأوروبية و415 طلبية لطائرات بوينغ 737 ماك خلال العام. [1]
واستفادتْ الشركةُ الصينيةُ بالأساسِ من الطلب المحلي، ويمثلُ هذا الاختراقُ الكبيرُ لسوقِ تصنيعِ الطائراتِ خسارةً فعليةً لبوينغ وإيرباص تصل إلى ما بين 20 و25 بالمئة على المدى المتوسط في السوق الصينية، كما تسعى كوماك إلى حصول طائرة سي 919 على الترخيص الأوروبي للطيران هذا العام. ومع المشاكل التي تواجهها شركة بوينغ وتأخرها في تسليم الطلبات، فإن كوماك تسعى لاستغلالِ هذا العامل لتوسيعِ حصتها في سوقِ تصنيعِ الطائراتِ خلال الأعوام المقبلة، خصوصا وأن سوق الطيران الأوروبي يشهد طلبا تصاعديا. [2]
وتبلغُ تكلفةُ طائرة “C919” رسمياً نحو 90 مليون دولار، وهو سعرٌ أقلُ من منافساتها. إذ تبلغُ كُلفةُ بناءِ طائرة “إيرباص A320” نحو 111 مليون دولار، في مقابل 106 ملايين دولار لطائرة “بوينغ 737 ماكس”.[3]
ومع ذلك، تحتاجُ شركة تصنيع الطائرات الصينية “كوماك” لعشرِ سنواتٍ لدخولِ طائرتها التجارية “كوماك” طراز C919″، التي أطلقتها حديثاً، إلى سوق الطيران العالمي، وذلك للحصول على موافقات الجهات المنظمة للطيران في العالم، بحسب أنيتا مينديراتا، المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة للسياحة والطيران.
عقباتٌ تواجهُ “كوماك”:
1- الاعتمادُ على التكنولوجيا الغربية: لا تزال بعض مكونات “C919″، مثل المحركات وأنظمةِ الطيران، تعتمد على شركات غربية مثل “GE Aerospace” الأمريكية و”Safran” الفرنسية، مما يجعلها عرضةً للقيودِ التجاريةِ، خاصةً أنه سبق أن درست إدارةُ الرئيسِ الأميركي دونالد ترامب خلاف فترة ولايته الأولى عام 2020 فرض قيود على تصدير محركات الطائرات إلى الصين، وفي 7 يناير 2025، أدرجت وزارة الدفاع الأميركية “كوماك” على قائمة الشركات المرتبطة بالصناعات العسكرية الصينية[4]، مما يعيقُ قدرتَها على الحصولِ على محركاتِ الطائراتِ، وأنظمةِ الملاحة، والإلكترونيات المتقدمة ما قد يؤثر ذلك سلبًا على خطط إنتاج ” كوماكC919 “.
2- الحصولُ على التراخيصِ الدوليةِ:لم تحصل “C919” بعد على موافقات الجهات التنظيمية الرئيسية مثل إدارة الطيران الفيدرالية الأميركية (FAA) ووكالة سلامة الطيران الأوروبية (EASA)، وهما الهيئتان الأساسيتان اللتان تتحكمان في منْحِ تراخيصِ الطيرانِ عالميًا، مما يعيقُ دخولهَا الأسواقَ الغربية، حيث لا يمكن لأي طائرة تجارية دخول السوق دون اجتياز هذه المتطلبات الصارمة، ورغم أن “كوماك” صممتْ نظامَ الشهاداتِ الخاص بها ليشابهَ نظامَ إدارةٓ الطيران الفيدرالية الأمريكية، إلا أن ذلك لا يضمن الاعتراف الدولي به، حيث ما زالت وكالات الطيران الغربية غير واثقة تمامًا في المعايير الصينية.
3- غيابُ شبكةِ الصيانةِ والإصلاح: حتى الآن، لا تملكُ “كوماك” البنيةَ التحتيةَ العالميةَ لدعمٓ طائراتها، مما يجعل شركات الطيران تتردد في شرائها.
4- خبراءُ في مجالِ الطيران يرون أن الطائرةَ الصينيةَ تواجهُ تحديَ التأخرِ التكنولوجي:إذ أنها لم تقدمْ أي جديد تكنولوجي، وهي أثقل بكثير وتستهلك كمية أكبر من الوقود، وهو ما يصعب عليها اقتحام أسواق أخرى.
المواجهةُ الجيوسياسيةُ المحتملة
تعتبرُ الصينُ أكبرَ سوق طيران في العالم، وهي شريك تجاري رئيسي لـ”بوينغ”. وفي حال فرض عقوبات على “كوماك”، قد ترد الصين بإجراءات انتقامية ضد “بوينغ”، مما يقلل مبيعاتها لصالح “إيرباص” أو الطائرات المحلية.
العديد من الشركات الأميركية، موردون رئيسيون لمكونات “كوماكC919″، وسيؤدي وقفُ التعاملِ معها إلى خسائرَ ماليةٍ كبيرةٍ لهذه الشركات. كما أن أي حظرٍ أميركيٍ قد يسرّع من استقلالية الصين في قطاع الطيران، مما قد يؤدي إلى خسارة الغرب لنفوذه في هذا القطاع. وقد تؤدي القيود الأميركية على “كوماك” إلى خلافاتٍ مع أوروبا، حيث إن فرنسا عبر “Safran” تزوّد الصين بمحركات ومكونات رئيسية. في ظل المنافسة بين “بوينغ” و”إيرباص”، قد تستغلُ الأخيرةُ الفرصةَ لتعزيزِ علاقاتها مع الصين، مما يقوّضُ صناعةَ الطيران الأميركية.[5]
تأخرُ اهتمامِ الصين بدبلوماسية النقل الجوي رغم سعيها للنفوذ العالمي
ويرجعُ ذلك إلى السياساتِ الاقتصاديةِ، والأولويات الاستراتيجية، حيث سعت الصين إلى الصعود الاقتصادي من خلال مشاريع مثل الحزام والطريق، وبناء مصانع التكنولوجيا والرقائق الإلكترونية، وتطوير صناعات السيارات والطاقة.
كما لا يتوفرِ لدى الصين نموذجُ عملٍ يعتمدِ على المسافرين العابرين (الترانزيت)، فالمطارات الصينية لا تُستخدمُ كمحطاتِ عبورٍ دوليةٍ، كذلك تفضّلُ الصينُ الاستثمار في الموانئ والشحن البحري أكثر من الطيران التجاري، فرغم أن الصين تمتلكُ واحدةً من أكبرِ شبكاتِ الطيران في العالم، إلا أنها تركزُ بشكلٍ أكبر على الموانئ والشحن البحري كأداةٍ لتعزيزِ نفوذِها الاقتصاديِ والدبلوماسي، ويرجعُ هذا التفضيلُ إلى أن الاقتصادَ الصينيَ يعتمدُ بشكلٍ أساسيٍ على تصدير السلع الثقيلة مثل السيارات، الإلكترونيات، الآلات الثقيلة، والمواد الخام، وهي منتجات يصعب شحنها جوًا بسبب التكلفة العالية. وبالتالي تُعد التجارةِ البحريةُ الخيارَ الأفضلَ للصين، ومع تجاوز صادرات الصين 3.38 تريليون دولار في 2023[6]، فإن الموانئ تُعد العمود الفقري لحركة البضائع الصينية عالميًا.
كما تمتلكُ الصين 7 من أكبر 10 موانئ في العالم، مثل ميناء شنغهاي (أكبر ميناء عالميًا)، وميناء نينغبو، وميناء شنتشن. بالإضافة لذلك، تدير 40% من حركة الشحن البحري العالمية عبر شركات مثل “”COSCO Shipping، مما يمنحها سيطرةً قويةً على حركةِ التجارة الدولية.[7] بالتالي فالموانئ تمنحُ الصينَ نفوذًا جيوسياسيًا أكثر من الطيران، لأنها تعني السيطرةَ على التجارة العالمية، ولهذا تستثمرُ الصينُ في الموانئ الخارجية ضمنَ مبادرةِ الحزامِ والطريق، على سبيل المثال، تمتلك الصين حصصًا أو تدير موانئ رئيسية مثل: ميناء بيرايوس في اليونان (أكبر ميناء في البحر المتوسط). وميناء جيبوتي (موقع استراتيجي في القرن الإفريقي).
تأخّر الصين في دبلوماسية الخطوط الجوية:
رغمَ امتلاكِ الصين بعضا من أكثر المطارات ازدحامًا عالميًا واستثماراتها الكبيرة في البنيةِ التحتيةِ للطيران، إلا أن تأثيرهَا الدبلوماسي لا يزال محدودًا. ويرجع ذلك إلى عدة عوامل رئيسية:
1- الصين تمتلكُ مطاراتٍ ضخمةً لكنها ليست مركزًا عالميًا للنقلِ الجوي
لأن80% من المسافرين في هذه المطارات يستخدمون الرحلاتِ الداخليةَ، مما يجعلها سوقًا ضخمةً لكنها غيرُ مؤثرةٍ دوليًا، كما أن متطلبات التأشيرات وقيود السفر تجعل الصين أقل جاذبية للترانزيت مقارنة بدول مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية، كذلك شركات الطيران الصينية ليست بنفس مستوى الجودة والخدمة مقارنة بالخطوط السنغافورية أو الكورية أو اليابانية، مما يجعلُ المسافرين يفضلون محاورَ الترانزيت الأخرى. وحتى مع توسّعِ الشركاتِ الصينيةِ إلى أوروبا مع اندلاع الحرب الأوكرانية بسبب غلق المجال الجوي الروسي أمام الطيران الأوروبي وهو ما وفر ميزة للصين، لا تزال شركات الطيران الخليجية والتركية تهيمن على مسارات الترانزيت بين آسيا وأوروبا وأمريكا.
2- الاستثمارُ في المطاراتِ لا يعني نفوذًا دبلوماسيًا مباشرًا
تستثمرُ الصين في بناءِ وتشغيلِ مطاراتٍ في إفريقيا وآسيا ضمن مبادرة الحزام والطريق، مثل مطار أديس أبابا في إثيوبيا، لكن هذه الاستثمارات تركز على البنية التحتية أكثر من النفوذ الجوي، حيث لا تستخدم الصين هذه المطارات كمراكز تشغيل رئيسية لشركاتها الجوية.
3- غيابُ شركاتِ طيرانٍ صينيةٍ عالميةٍ قوية
رغم أن الصين تمتلكُ أكبرَ ثلاث شركات طيران في العالم من حيث حجم الأسطول والمسافرين (الخطوط الجوية الصينية، الخطوط الجوية الشرقية، والخطوط الجوية الجنوبية)، إلا أن تركيزها لا يزال محليًا.
تصنيعُ الطائراتِ لدعم دبلوماسيةِ الطيران
إن تعزيزَ دورِ الصين كمركزٍ عالميٍ للترانزيت يتطلبُ استثماراتٍ ضخمةً في تطوير المطارات وتحسين تجربة السفر، فضلًا عن توقيع اتفاقيات طيران مع عشرات الدول، وهي عمليةٌ معقدةٌ وغير مضمونةٍ النجاح، نظرًا للمنافسة القوية من مراكز الترانزيت الراسخة مثل دبي، الدوحة، وإسطنبول، التي بنتْ سمعتهَا على مدى عقود، مما يجعلُ تحويلَ المطاراتِ الصينيةِ إلى مراكز ترانزيت عالمية عملية معقدة ومكلفة، سواء من حيث البنية التحتية أو المنافسة الدولية.
كما كان يمكن للصين محاولةُ الاستحواذِ على شركات طيران دولية أو إطلاق علامةٍ تجاريةٍ عالميةٍ تنافسُ شركات الطيران الكبرى، مثل: شراء حصص في شركات الطيران الأوروبية أو الآسيوية لتعزيز نفوذها، أو دمجِ شركاتِ الطيران الصينية الكبرى (مثل إير تشاينا وتشاينا إيسترن وتشاينا ساوثرن) في كيان عالمي واحد قادر على المنافسة، لكن هذا الخيار كان سيجعل الصين أكثر عرضة للضغوط السياسية من الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي.
فالاتحادُ الأوروبيُ والولايات المتحدة لديهما قوانين تحد من الملكية الأجنبية لشركات الطيران، فمثلًا: في الاتحاد الأوروبي، لا يُسمح لأي مستثمر غير أوروبي بامتلاك أكثر من 49% من شركة طيران أوروبية. وفي الولايات المتحدة، يُحظر على الأجانب امتلاك أكثر من 25% من شركات الطيران الأمريكية. وهذه القوانين تجعل من المستحيل تقريبًا للصين أن تسيطر بالكامل على شركة طيران غربية، حتى لو تمكنتْ من شراء بعض الحصص. كما قد تستخدمان أدواتٍ تشريعيةً لمنعِ اندماج الشركات الصينية الكبرى، بحجة أن ذلك قد يضر بـ”المنافسة العادلة”.
لكن في المقابل، يتميزُ قطاعُ تصنيعِ الطائرات بقدرتهِ على خلْقِ علاقاتٍ استراتيجيةٍ طويلةِ الأجل بين الدولة المصنعةِ والدول المستوردة. فبيع الطائرات لا يقتصر على كونهِ صفقةً تجاريةً، بل يتطلب توفير الصيانة، قطع الغيار، التحديثات، والتدريب المستمر، مما يجعل الدولَ التي تعتمد على الطائرات الصينية مرتبطة ببكين لعدة عقود. وبالتالي، يمنح هذا النهجُ الصين نفوذًا دبلوماسيًا أعمق مقارنةً بتشغيلِ شركات الطيران التجارية، التي قد تكونُ أكثرَ عرضةً للتغيرات الاقتصادية والمنافسة.
ختامًا:
فإن صعودَ “كوماك” يمثلُ تحولًا كبيرًا في سوقِ الطيرانِ العالمي. فالصين، التي كانت تعتمدُ لعقودٰ على الطائرات الغربية، باتت تمتلكُ الآن منتجًا محليًا. وفي حين أن “بوينغ” و”إيرباص” لا تزالان بعيدتين عن فقدان هيمنتهما، فإن “كوماك” في المستقبل القريب، قد لا تصبحُ “كوماك” منافسًا عالميًا مباشرًا، لكنها ستلعبُ دورًا حاسمًا في تغييرِ التوازناتِ داخل قطاع الطيران، خاصةً مع استمرار التوتر بين بكين وواشنطن، مما قد يدفعُ المزيدَ من الدول إلى البحث عن بدائل خارج الهيمنة الغربية التقليدية.
