فى بقعة أخرى من بقاع العالم يتصدر المشهد الدموى والعنيف لتنظيم داعش الإرهابى الآخذ فى التمدد إلى الواجهة مرة أخرى فى جمهورية الكونغو الديمقراطية، فى سلسلة هجمات شنها موالين لتنظيم داعش الذى يحمل اسم “ولاية إفريقيا الوسطى”، صنفت تلك الهجمات أنها الأعنف والأسوأ منذ فترة وقعت فى قرى شمال إقليم “كيفو” حيث بدأت يوم الثلاثاء الموافق 4 من الشهر الجارى واستمر صداها لعدة أيام وأسفرت عن سقوط أكثر من 80 شخصًا وإصابة العشرات وفقًا لتصريحات المتحدث باسم الجيش الكونغولى، حتى الهجوم الذى استهدف منطقة “لوبيرو” يوم الأربعاء الموافق 12 من نفس الشهر.[1] وعليه ينذر ذلك التنامى اللافت للعنف والإرهاب من قبل تنظيم داعش إلى مجموعة من الدلالات والتوقعات التى يمكن الإشارة إليها وتمثل فى مجملها مزيدًا من التدهور الأمنى اللاحق بالبلاد.
عمليات إرهابية متتالية
طالت إستراتيجية “التمدد والبقاء” التى تبناها داعش بعد هزيمته العسكرية فى الشرق الأوسط -إفريقيا الوسطى- لاسيما فى الكونغو الديمقراطية، الغنية بالموارد الطبيعية النادرة، التى سعى داعش إلى التمدد بها من خلال تكثيف هجماته الأكثر عنفًا وفتكًا مستهدفة الأعيان المدنية والسكان المدنيين خاصة الكنائس والمسيحيين، أكثر من القوات الكونغولية والأوغندية، ففى يناير العام المنصرم تعرضت كنيسة فى بلدة “كاسيندى” شمال شرق كيفو إلى عمل إرهابى نتيجة انفجار قنبلة وضعها مسلحون تابعون للتنظيم، أدى إلى سقوط 10 ضحايا وإصابة 39 آخرين، وسبقها مصرع 60 مدنية نتيجة هجوم بعبوة ناسفة فى إحدى القرى التابعة لإقليم “إيتورى” فى شمال البلاد أيضًا [2].
ويواصل هذا التوسع من خلال تمويل التنظيم للفرع المحلى فى الكونغو الديمقراطية المعروف بولاية وسط إفريقيا الذى تكون بعد مبايعة “القوات الديمقراطية المتحالفة” لداعش عام 2019، ويتم ذلك عبر شبكة الآليات التى تمر من خلال الصومال وكينيا وأوغندا، متخذًا منطقتى ” شمال كيفو، وإيتورى” على طول حدود “الكونغو” مع “رواندا وأوغندا” قاعدة له، مما يزيد بطبيعة الحال من زعزعة استقرار البلاد والدول المجاورة لها[3].
أما عن الهجمات الأخيرة التى بدأت منذ الهجوم على قرية “ماساو” وأدت إلى مقتل حوالى 15 مدنيًا، وتلاها الهجوم على ثلاث قرى بمنطقة “بينى” شمال شرق كيفو تسببت فى وفاة 39 شخصًا، فضلًا عن الهجمات التى طالت قرى “ماسالا” و”ماباسانا” و”ماهينى” ليصل حوالى إجمالى الضحايا إلى أكثر من 80 ضحية، فضلًا عن عدد من الإصابات من بينهم عناصر من الجيش الكونغولى [4]، فضلًا عن أسر عدد من المدنيين وعناصر الجيش كما طالت الهجمات حرق منازل ومحال تجارية مملوكة لمدنيين مسيحيين[5]، ولم يتوقف العنف إلى هذا الحد بل وقع هجوم فى إحدى قرى منطقة “لوبيرو” التى استعادتها القوات المسلحة الكونغولية السيطرة عليها بعد مواجهات شاحنة مع حركة “23 مارس” المتمردة، وأسفر هذا الهجوم عن مصرع أكثر من 20 شخصًا وفقًا لتقارير صرح بها رئيس الإدارة المحلية بمنطقة لوبيرو.[6]
دلالات تصاعد الهجمات العنيفة
موطئ قدم مهم لتنظيم داعش:
يسعى تنظيم داعش إلى توظيف الأزمات والاضطرابات فى المناطق غير المستقرة لصالح تمدده وتحقيق مصالحه وإستراتيجيته القائمة على الاستمرارية والتكيف من أجل كسب مساحات أكبر وإضفاء شكل من أشكال التوسع الراديكالى والانتشار عبر الحدود من خلال عملياته الوحشية، ساعيًا فى ظاهره إلى القتال دفاعًا عن العقيدة دون أى مصالح سياسية مستخدمًا آليات العصر الحديث، ولكنه فى الحقيقة يحاول إدارة المناطق التى يتخذها معقلًا له بعقلية الدولة، وربما يحاول التنظيم إلى توسيع عملياته فى الكونغو الديمقراطية خارج مناطق عملياته الرئيسية مثلما هو الحال فى أكثر من دولة إفريقية، لاسيما مع تمتع الكونغو بفرص هائلة لاستفادة التنظيم منها من ناحية الموارد الطبيعية حيث المعادن والماس التى توفر بطبيعتها مصدرًا مهمًا لتمويل التنظيم فى الداخل وخارج ولاياته الإفريقية الأخرى، ليضيف فى مجمله التنبيه إلى تطور جيواستراتيجيى خطير.
التعويل على تنفيذ عمليات ذى دعائية هائلة:
تعكس الهجمات العنيفة والضارية التى يعلن تنظيم داعش مسؤوليته عنها عبر منابره الإعلامية إلى إعلان السيطرة والتأثير حتى وإن كانت وهمية، وذلك من أجل إيصال رسالته والترسيخ لصورة نمطية خاصة به والتحول من مجرد تنظيم قوى فى الشرق الأوسط إلى مظلة فكرية بديلة فى جميع أنحاء العالم تحظى بكسب التعاطف والتأييد لاسيما من جانب الميليشيات المسلحة التى وجدت فى التنظيم الملاذ لتحقيق مصالحهم وكانت القوات المتحالفة الديمقراطية واحدة من هؤلاء الميليشيات التى بايعت التنظيم لتحقيق أهدافها فى الكونغو الديمقراطية بعدما فشلت فى تنفيذها بعد دحرها من أوغندا، ويظهر الأمر فى عدة حملات يطلقها التنظيم عبر ولاياته المختلقة خاصة فى إفريقيا مثل الحملة التى شنها فى شهر يناير الماضى تحت اسم “اقتلوهم حيث وجدتموهم” وتمكن تنظيم داعش من شن العديد من العمليات الدموية التى أدت إلى سقوط العديد من القتلى، فضلًا عن الإصابات التى طالت السكان والقوات الأمنية وفى الكونغو استهدفت حينها السكان المسيحيين دون غيرهم.
التغذى على الانشغالات السياسية:
تعرضت جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى حالة من اهتزاز الشرعية المرتبطة بالصراعات السياسية التى مثلت بيئة مثالية للتصاعد الداعشى، حيث شهدت الشهر المنصرم انقلابًا فى العاصمة ” كينشاسا ” ضد الرئيس (فيليكس تشيسيكيدى) عندما حاول مسلحون كونغوليون وأجانب السيطرة على مكتب رئيس الجمهورية، وعلى الرغم من أن الانقلاب باء بالفشل وتم اعتقال عدد من المتورطين فيه، وكذلك تم إعلان تشكيلة حكومية جديدة إلا أن التهديد فى البلاد والصراع السياسى لم ينته، نتيجة لاشتباكات الجيش مع حركة “23 مارس” المتمردة المعروفة باسم “إم 23” لاستعادة باقى الأراضى والقرى التى تسيطر عليها من ناحية، ومن ناحية أخرى الاضطراب السياسى الذى يتعلق بتحديات الفترة الرئاسية الثانية التى تواجه الرئيس الحالى، الذى تولى السلطة منذ يناير عام 2019 وأُعيد انتخابه فى ديسمبر الماضى، وتتمثل أبرز تلك التحديات فى تفاقم أزمة داخلية للحزب الحاكم لاسيما بعد الانتخابات المتنازع عليها، وكذلك تأجيل الانتخابات البرلمانية التى كان مقرر إجراؤها فى نفس يوم الانقلاب المزعوم[7].
مآلات الوضع الراهن
فرار المزيد من السكان:
تتسبب الهجمات الإرهابية التى ينفذها ذراع داعش فى جمهورية الكونغو الديمقراطية وكذلك التحديات الأمنية التى تشهدها البلاد فرار العديد من السكان وتفاقم أزمة النزوح الداخلى إلى مناطق أكثر آمنًا مما يشير إلى أزمة كارثية على الصعيد الإنسانى وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، والتى أشارت فى إحصائيتها لعام 2023 إن حوالى 7 ملايين شخص نزحوا في الكونغو الديمقراطية من بينهم 2.5 مليون نزحوا من إقليم شمال كيفو، وبين شهر ديسمبر 2023 وحتى مارس 2024 زاد عدد النازحين بمقدار 700 ألف شخص.
وفى هذا الإطار عبرت نائبة منسق الإغاثة في حالات الطوارئ أمام مجلس الأمن الدولى فى جلسة لشهر أبريل الماضى عن صدمتها بحجم وعمق الأزمة الهائلة فى الكونغو الديمقراطية لاسيما مع تنامى أعداد النازحين بشكل مثير للقلق حيث قالت “إن الأسر تُجبر على اتخاذ إجراءات الملاذ الأخير”، فضلًا عن إشارتها إلى تصاعد الخطر الذى يواجه الأطفال والنساء نتيجة الانفلات الأمنى ويتنوع بين التجنيد من قبل جماعات العنف والاختطاف والقتل والعنف الجنسى والإجبار على الزواج المبكر، مبينة أن حوالى 37% من الفتيات في جمهورية الكونغو الديمقراطية يتم تزويجهن قسرًا قبل الـ 18 عامًا [8].
ضرورة معالجة التراجع الأمنى:
يحتم الوضع الأمنى المتفاقم على الحكومة الكونغولية الديقراطية إلى إعادة النظر فى سبل معالجة الانفلات الأمنى لاسيما فى شرق البلاد حيث إقليم كيفو وإيتورى، خاصة مع إشارة التقديرات إلى الآثار غير الملموسة لجهود الحكومة على الصعيد الأمنى والإنسانى للتصدى إلى العمليات العنيفة والمتسببة فى سقوط أعداد هائلة من الضحايا، والتى عبرت عنها اللجنة الدولية للصليب الأحمر مسبقًا أنها “أزمة هائلة لم تحظَ بما تستحقه من اهتمام عالمى”[9]. حيث سبق وأن أعلن الرئيس الكونغولى فى مايو عام 2021 عن حالة حصار فى الأقاليم الأكثر تعرضًا للإرهاب من أجل وقف أعمال العنف والإرهاب ولكن هذا التحرك لم ينجح فى وقف الهجمات فى تلك المناطق.
هذا إلى جانب إعلان وزير الخارجية الكونغولى خلال شهر يناير الماضى عن بدء عملية انسحاب بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام فى جمهورية الكونغو الديمقراطية “مونوسكو” ليتم إنهاء مهامها بحلول نهاية العام الحالى، وذلك بعد طلب الحكومة الكونغولية منذ أشهر بانسحاب تلك القوات المسؤولة عن حفظ الأمن ومكافحة الإرهاب فى البلاد.
وعليه يستوجب الأمر تكثيفًا لمزيد من جهود مكافحة الإرهاب واتباع إستراتيجيات جديدة وحشد القوات ضد التنظيم والجماعات المسلحة الأخرى لسد الفجوات الأمنية خاصة على الحدود مع أوغندا وروندا وبروندى من أجل تفادى التسبب فى عمليات دموية راح ضحيتها العديد من المواطنين الأبرياء .
تأهب أمنى فى أوغندا:
انعكس الوضع الأمنى فى الكونغو الديقمراطية على دول جوارها أبرزهم أوغندا التى تحاول أن تعيش حالة من التأهب الأمنى للاستعداد لأى عدوى إرهابية يحملها التنظيم فى الداخل الأوغندى، لاسيما مع عودة عناصر من ولاية إفريقيا الوسطى إلى البلاد مرة أخرى فى شهر مارس الماضى عبر الحدود الهشة أمنيًا، ويذكر أن العناصر المكونة لولاية داعش فى الكونغو “تحالف القوى الديمقراطية” كان موطن نشأتها فى أوغندا فى التسعينات من القرن الماضى لمواجهة الحكومة الأوغندية ولكن ما لبثت الحكومة فى مجابهتهم إلى أن فروا إلى الكونغو الديمقراطية، وتسعى أوغندا للتعاون الأمنى مع الكونغو لمواجهة التحديات الأمنية، حيث سبق وأن شن البلدان هجومًا مشتركًا عام 2021 من أجل طرد “تحالف القوى الديمقراطية” من البؤر التى ينتشر فيها فى الكونغو، ولكن حاول التحالف بعد خسارته لبعض الأراضى التى كان يسيطر عليها فى الكونغو إلى استهداف غرب أوغندا فى ديسمبر عام 2022.
تأسيسًا على ما سبق؛ يأتى تنامى الموجة الإرهابية لتنظيم داعش “ولاية إفريقيا الوسطى” واحتدام الصراع المسلح فى الكونغو الديمقراطية بالتزامن مع تصاعد الأزمات والتحديات الداخلية وتعرض البلاد لأزمة فى الشرعية السياسية، مما يوفر بيئة خصبة ومثالية للتنظيم من أجل انتهاج سياسة استغلال الأزمات من أجل التمدد والبقاء وتصدير عملياته تحت مسمى الجهاد العالمى المشروع مستخدمًا كافة الأساليب والوسائل الدموية والعنيفة لإثبات السيطرة والاستمرارية، مما ينذر بخطر على الحكومة الكونغولية يجب احتواؤه لإنقاذ وحماية المواطنين الأبرياء من على المستوى الإنسانى والأمنى.
المصادر:
[1] “الكونغو تواصل نزيف الدماء بفعل هجمات داعش الإرهابي”، مرصد الأزهر لمكافحة التطرف، 8 يونيو 2024، متاح على الرابط أدناه:
