تصاعدت في الأوساط البريطانية، خلال الأشهر الأخيرة، حالةٌ من الجدل السياسي والأمني والدبلوماسي المتجدد؛ على خلفية المشروع الصيني لبناء ما يعرف بـ”السوبر سفارة” في قلْب العاصمة لندن في موقع “رويال منت كورت” التاريخي القريب من برج لندن؛ حيث تعود فكرة المشروع إلى عام 2018، حين اشترت الحكومة الصينية الموقع بقيمة بلغت نحو 255 مليون جنيه إسترليني؛ بهدف إنشاء أكبر بعثة دبلوماسية في أوروبا.
ومع بدْء طرْح الخطط التفصيلية للبناء، سُرعان ما أثارت حجم المنشأة وموقعها الحسَّاس مخاوف متزايدة لدى الأجهزة الأمنية البريطانية وسكان المنطقة، الذين حذَّروا من احتمالات التجسُّس أو استغلال الموقع في أنشطة تتجاوز الطابع الدبلوماسي.
في المقابل، تؤكد بكين أن المشروع يهدف إلى تعزيز العلاقات الثنائية وتطوير التعاون الثقافي بين الشعبين.
وبين الاتهامات والتحفُّظات البريطانية من جهة، والدفاعات الصينية من جهة أخرى، تحوَّلَ المشروع إلى قضية رأي عام واختبار سياسي للحكومة البريطانية برئاسة حزب العمال، التي تجد نفسها أمام معادلة دقيقة بين ضرورات الأمن القومي ومصالحها الاقتصادية مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
خلفية المشروع
تعود جذور مشروع السفارة الصينية العملاقة في لندن، حينما اشترت حكومة جمهورية الصين الشعبية مجمع “رويال منت كورت” التاريخي، الواقع في قلب العاصمة البريطانية، مقابل نحو 255 مليون جنيه إسترليني؛ حيث يمتدُّ الموقع على مساحة تقدر بـ 5.5 فدان، ويضم مباني عريقة كانت فيما مضى مقرًّا لدار سكِّ العُمْلة الملكية البريطانية منذ عام 1810 وحتى عام 1967، وهذا الموقع لا يتمتع فقط بقيمة رمزية وتاريخية، بل يحتلُّ أيضًا موقعًا استراتيجيًّا على مقربة من برج لندن والحي المالي؛ ما يجعله نقطة التقاء بين رمزيات تاريخية وسيايسة واقتصادية.
وتجدر الإشارة، أنه منذ البداية كان الطموح الصيني واضحًا في تحويل هذا الموقع إلى أكبر بعثة دبلوماسية في أوروبا، وهو ما يتماشى مع سياسة بكين الخارجية التي تسعى لتوسيع حضورها الدبلوماسي عالميًّا؛ بما يعكس صعودها كقوة كبرى، وقد أُعد المخطط الرئيسي للمجمع الجديد ليتضمن مزيجًا من المكاتب والمرافق الإدارية والوحدات السكنية وقاعات الاجتماعات، إلى جانب إنشاء مبنى مخصص للتبادل الثقافي وساحة عامة تتيح الوصول إلى بقايا ديرٍ من العصور الوسطى يقع ضمن حدود الموقع[1].
وتشير الخطط الصينية إلى نية بكين إعادة تهيئة المكان بالكامل، مع الحفاظ على الطابع المعماري الكلاسيكي للمباني المصنفة في قائمة التراث البريطاني، وهو ما يعني أن أيَّ تعديل فيها يجب أن يتمَّ بحذر شديد ووفق معايير صارمة، وتؤكد السفارة الصينية في تصريحاتها الرسمية، أن المشروع لا يهدف فقط إلى تعزيز العمل الدبلوماسي، بل إلى تحسين المشهد العمراني في المنطقة، عبر تطوير الممرَّات الخضراء ومسارات المشاة والمرافق العامة، وتحديث البنية التحتية المحيطة بالموقع.
لكن خلْف هذا الطموح المعماري، تكمن أهداف أعمق تتصل برغبة الصين في ترسيخ وجود رمزي ودبلوماسي دائم في قلب أوروبا الغربية، وبالأخصِّ في عاصمة ما تزال تُعَدُّ أحد أهم مراكز القرار المالي والسياسي في العالم؛ حيث إن اختيار الموقع بجوار برج لندن -أحد أبرز رموز السيادة البريطانية- لا يمكن اعتباره مجرد مصادفة معمارية، بل يحمل دلالات سياسية واضحة عن حضور الصين في المجال الدولي الجديد؛ حيث تحاول أن تقدم نفسها ليس فقط كقوة اقتصادية، بل كفاعل سياسي متكامل يسعى لترسيخ نفوذه في المراكز الكبرى للقرار العالمي.
حالة جدلية متصاعدة حول المشروع
منذ اللحظة الأولى للإعلان عن المشروع، أثار المخطط الصيني موْجة واسعة من الجدل داخل الأوساط البريطانية، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، ويمكن القول: إن الاعتراضات على إقامة هذا المجمع الدبلوماسي الضخم في قلْب لندن لم تكن محصورة في مسألة التخطيط العمراني أو الجوانب الهندسية، بل تجاوزت ذلك إلى اعتبارات أمنية وسياسية وسيادية عميقة، وهو ما يمكن تناوله في السياق الآتي[2]:-
1- من الناحية الأمنية، يرى عددٌ من الخبراء ومسؤولي الاستخبارات، أن موقع السفارة المقترح على مقربة من الحي المالي للندن، وهو ما يثير مخاوف حقيقية تتعلق بالتجسُّس الإلكتروني وجمْع المعلومات؛ إذ تقع المنطقة فوق شبكة من الألياف والكابلات التي تنقل بيانات بالغة الحساسية تخُصُّ المؤسسات المالية والبنوك الكبرى، وهو ما جعل البعض يُحذِّرُ من أن إقامة منشأة صينية بهذا الحجم قد تتيح لبكين فرصة الوصول إلى هذه البنية التحتية الحيوية بوسائل غير مباشرة، وقد عزَّزت هذه المخاوف التقارير التي تحدثت عن وجود مناطق “محجوبة” أو “محذوفة” في المخططات الرسمية الصينية للمشروع، خصوصًا تلك المتعلقة بالطوابق السفلية التي لم تكشف بكين عن تفاصيلها بعْدُ؛ بدعوى أسباب أمنية.
2- من الناحية السياسية، فإن المشروع جاء في سياقٍ من التوتُّر المتصاعد بين بريطانيا والصين خلال السنوات الأخيرة، لا سيما بعد قضايا متعلقة بحقوق الإنسان، والتضييق على الحريات في هونج كونج، ومخاوف التجسُّس المرتبطة بشركات التكنولوجيا الصينية، وقد اعتبر كثيرون، أن إنشاء مجمع بهذا الحجم وفي هذا الموقع الحسَّاس يُمثِّلُ رسالة سياسية من بكين أكثر مما هو مشروع دبلوماسي عادي، حتى إن البعض وصف المشروع، بأنه “عش جواسيس” محتمل في قلب العاصمة البريطانية.
3- على المستوى المحلي،عبَّر سكان المنطقة عن قلقهم من تأثير وجود السفارة الجديدة على حياتهم اليومية، سواء بسبب احتمالات زيادة الاحتجاجات السياسية أمامها، أو بسبب المخاطر الأمنية التي قد تصاحب وجود بعثة بهذا الحجم، كما حذَّرَ بعضهم من أن هذا المشروع سيُحوِّلُ الحي إلى منطقة مغلقة تحت رقابة مشددة؛ مما يحُدُّ من حرية الحركة ويُغيِّرُ الطابع الاجتماعي للمكان.
إلى جانب هذه الأبعاد، يحمل الرفض أيضًا طابعًا رمزيًّا لا يقِلُّ أهمية؛ إذ يرى بعض السياسيين البريطانيين، أن رفْع العَلَمِ الصيني بجوار برج لندن، أحد أقدم رموز السيادة البريطانية، يُعَدُّ إهانةً غير مباشرة للكرامة الوطنية، ورسالة تعكس تمدُّد النفوذ الصيني في قلب العواصم الغربية، وقد شبَّهَ أحد أعضاء المجلس المحلي المشهد الافتراضي القادم بالقول: “حين يزور السائح برج لندن، سيلتفت يسارًا ليرى علم الحزب الشيوعي الصيني مرفوعًا في سماء العاصمة البريطانية”.
وهكذا تداخلت المخاوف الأمنية مع الحساسيات السياسية والرمزية؛ لتجعل من مشروع السفارة الصينية في لندن قضية شائكة تتجاوز التخطيط العمراني إلى اختبارٍ جديدٍ لمعادلة التوازن بين السيادة والأمن والانفتاح في السياسة الخارجية البريطانية في الوقت الراهن.
الموقف الرسمي للحكومة البريطانية
تبدل الموقف الرسمي البريطاني من مشروع السفارة الصينية في لندن على نحْوٍ يعكس حجم الارتباك في العلاقة مع الصين خلال السنوات الأخيرة.
ففي البداية، بدا أن حكومة حزب المحافظين بقيادة ريشي سوناك تميل إلى ترْك الملف بيد السلطات المحلية، لا سيما مجلس “تاور هامليتس[3]” الذي رفض المشروع مرتين متتاليتين، مشيرًا إلى مخاوف تتعلق بالسلامة العامَّة وبالتأثيرات الحضرية والأمنية للمجمع الجديد، وقد أتاح هذا الموقف للحكومة أن تُظهر نوْعًا من الاستقلال المحلي في القرار، دون أن تدخل في مواجهة مباشرة مع الصين، لكن سرعان ما تغيرت المعادلة مع تولِّي حزب العمال الحكم بقيادة كير ستارمر؛ إذ تبنَّتْ الحكومة الجديدة توجُّهًا أكثر براجماتية تجاه بكين، تحت شعار “إعادة ضبْط العلاقات”؛ من أجل دعم النمو الاقتصادي واستقطاب الاستثمارات الأجنبية.
وفي هذا الإطار، أُعيد فتْح ملف السفارة من جديد؛ حيث قرَّرت وزيرة الإسكان آنذاك أنجيلا راينر، استدعاء المخطط للمراجعة المركزية، وهو ما يعني عمليًّا نقْل القرار النهائي من السلطة المحلية إلى الحكومة المركزية، وأكَّدَتْ “راينر” في تصريحاتها، أن عملية اتخاذ القرار ستتم في إطار “إجراءات شبه قضائية” تضمن النزاهة والشفافية، لكنها في الوقت ذاته، لم تُخْفِ ميْلها إلى تمرير المشروع بعد إدخال تعديلات تتعلق بالأمان والسلامة العامة[4].
ورغم ذلك، لم يخْلُ المشهد من توتُّرٍ سياسيٍّ داخليٍّ؛ حيث طالب نواب من حزب المحافظين بفتْح تحقيق في مزاعم تشير إلى أن رئيس الوزراء ربما توصل إلى تفاهم غير معلن مع الحكومة الصينية لتسهيل الموافقة على المشروع، ووجهوا رسالة إلى مستشار الأخلاقيات الحكومية للتحقيق في مدى التزام الوزراء بمدونة السلوك الوزاري، وقد نفت الحكومة بشكلٍ قاطعٍ وجود أيِّ اتفاقات أو التزامات من هذا النوع، مؤكدةً أن المشروع يخضع لإجراءات تخطيط مستقلة تمامًا عن أيِّ ضغوط سياسية[5].
وفي ضوء هذه التطوُّرات، اختارت الحكومة البريطانية إرجاء القرار النهائي إلى العاشر من ديسمبر؛ أيْ بعد ثلاثة أشهر من الموعد الأصلي المحدد، في سبتمبر الماضي، وبينما تصف لندن هذا التأجيل بأنه إجراء إداري طبيعي لإتاحة مزيدٍ من الوقت للدراسة، يرى مراقبون، أنه انعكاس مباشر لحالة التردُّد التي تعيشها الحكومة بين ضرورات الأمن القومي وضغوط المصالح الاقتصادية.
ولعل اللافت في هذا السياق، هو أن المؤسسات الأمنية والاستخباراتية كانت قد رفعت توصيات واضحة، تُحذِّرُ من المخاطرالمحتملة للموقع المقترح، لا سيما لجهةٍ قريبه من البنية التحتية الرقمية الحسَّاسة، إلا أن الحكومة فضلت، حتى اللحظة، التعامل مع هذه التحذيرات باعتبارها ملاحظات استشارية لا ترقى إلى مستوى الحظر الكامل؛ في محاولةٍ منها لتجنُّب تصعيد سياسي أو دبلوماسي قد يضُرُّ بمصالحها الاقتصادية مع الصين[6].
وعليه؛ بات مشروع السفارة الصينية في لندن ساحة تجاذُب بين المؤسسات البريطانية ذاتها.
فمن جهة، ترى الأجهزة الأمنية في المشروع تهديدًا مباشرًا لسيادة الدولة وأمْنها السيبراني، ومن جهة أخرى، تحاول دوائر الحكومة الموازنة بين حماية الأمن الوطني والحفاظ على مسار انفتاح اقتصادي، ترى أنه ضروريٌّ في ظلِّ تباطؤ النمو وتراجع الاستثمارات الأجنبية.
ردود الفعل الصينية
أبْدَتْ الصين استياءها العلني من تأجيل البتِّ في المشروع، مُلَوِّحَةً بوجود عواقب إن لم تلتزم بريطانيا بما وصفته “تعهُّداتها السابقة”، واعتبرت بكين أن تأخير الموافقة يُمثِّلُ تجاهُلًا لروح التعاقد.
ففي بيانٍ رسميٍّ، أعربت السفارة الصينية في المملكة المتحدة عن استيائها الشديد من القرار، معتبرةً أن ما حدث يُمثِّلُ “تمييزًا سياسيًّا واضحًا ضد الصين”، وذهبت السفارة في تصريحاتها إلى أبعد من ذلك، متهمةً ما وصفته بـ “القوى المعادية للصين” داخل بريطانيا بمحاولة عرقلة المشروع بدوافع أيديولوجية وعدائية، مشيرةً إلى أن هذه الأطراف “تسعى إلى تسييس أيِّ نشاط صيني في الخارج، حتى وإن كان ذا طابع دبلوماسي بحت”، وأكدت بكين أن مِثْل هذه المواقف لا تضُرُّ فقط بمصالحها، بل “تبعث برسائل سلبية حول انفتاح المملكة المتحدة واستقلال قرارها السياسي”، في إشارةٍ غير مباشرةٍ إلى تأثُّر القرار بضغوط أمريكية وغربية[7].
وفي خطوةٍ بَدَتْ وكأنها ردُّ فِعْلٍ دبلوماسيٍّ متبادلٍ، امتنعت الصين عن منْح الجانب البريطاني التصاريح اللازمة لإعادة بناء سفارته في بكين[8]، وهو ما اعتبره مراقبون تصعيدًا محسوبًا من بكين، يهدف إلى إظهار قدرتها على الرَّدِّ بالمِثْل في مواجهة أيِّ تضييقٍ على أنشطتها الخارجية، وهذا السلوك يعكس بوضوح رغبة الصين في إعادة رسم حدود التعامل مع الدول الغربية وفْق مبدأ “المعاملة بالمِثْل”، وهو نهْجٌ أصبح يُميِّزُ السياسة الخارجية الصينية في السنوات الأخيرة.
ورغم اللهجة الحادَّة، حافظت بكين على مساحة للتفاهم؛ إذ شدَّدَتْ على أن العلاقات بين الشعبين “أعمق من أيِّ خلاف عابر”، لكنها في الوقت نفسه، أكَدَتْ أنها لن تقبل المساس بحقِّها في بناء بعثتها الدبلوماسية على أراضي دولة تربطها بها علاقات رسمية كاملة.
أبعاد الأزمة الراهنة
تكشف أزمة “السوبر سفارة” الصينية في لندن عن مجموعة من الأبعاد المتشابكة التي تتجاوز مجرد خلاف إداري حول تراخيص البناء؛ لتصبح مرآةً تعكس عُمْق التعقيدات التي تمُرُّ بها العلاقات البريطانية الصينية، في ظِلِّ التغيُّرات الدولية المتسارعة، ويمكن تحليل أبعاد هذه الأزمة من خلال ثلاثة محاور رئيسية في السياق الآتي:–
1- البُعْد الأمني:
يُعَدُّ الجانب الأمني أكثر الأبعاد حضورًا في الخطاب البريطاني الرسمي والإعلامي على حدٍّ سواء؛ إذ برَّرَتْ السلطات المحلية قرارها برفْض المشروع؛ استنادًا إلى مخاوف تتعلق باحتمالات التجسُّس وجمْع المعلومات أو استخدام المبنى الضخم لأغراض تتجاوز النشاط الدبلوماسي التقليدي، وهذه المخاوف ليست معزولةً، بل تأتي في سياق تزايُد القلق الغربي من تمدُّد النفوذ الصيني عبْر أدوات غير تقليدية، خاصَّةً بعد اتهامات مماثلة طالت مراكز ثقافية وتجارية تابعة لبكين في دول أوروبية عدة. ومن ثَمَّ، فإن رفْض المشروع عكس رُؤْيَةً أمنيةً تعتبر أيَّ توسُّعٍ صيني في قلب العواصم الغربية تهديدًا محتملًا يتطلب الحَذَر والرقابة.
2- البُعْد الاقتصادي:
يبقى العامل الاقتصادي – رغم التوترات السياسية – حاضرًا بقوة في خلفية المشهد؛ حيث تُعَدُّ الصين من أكبر الشركاء التجاريين لبريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي، كما تُعَدُّ استثماراتها في البنية التحتية والطاقة والاتصالات البريطانية من بين الأضخم.
لذلك؛ تُطرح تساؤلات عديدة، حول ما إذا كانت لندن تسعى من خلال هذه الأزمة إلى إعادة ضبْط علاقاتها الاقتصادية مع الصين على أُسُسٍ أكثر حَذَرًا، أم أنها تحاول استرضاء واشنطن ولو على حساب بعض المكاسب الاستثمارية.
وفي المقابل، لا تُخْفِي بكين رغبتها في استخدام الورقة الاقتصادية كورقة ضغط سياسية، وهو ما يزيد من حساسية الملف.
3- البُعْد الحقوقي:
يُمثِّلُ هذا البُعْد مصدر قلق رئيسي للمنظمات الحقوقية والناشطين الصينيين المقيمين في بريطانيا، الذين عبَّرُوا عن تخوُّفهم من أن تتحول السفارة الجديدة إلى أداة لمراقبة أو ملاحقة المعارضين الصينيين في الخارج، وقد حذَّرَ بعضهم من أن قُرْب المبنى المقترح من مناطق سكنية تضُمُّ جاليات آسيوية كبيرة قد يُسهِّلُ عمليات “الترهيب أو جمْع المعلومات الشخصية”. وهذه المخاوف عزَّزَتْ موقف الرافضين للمشروع، وربطت بينه وبين تصاعُد الانتقادات الدولية لسجل الصين في مجال حقوق الإنسان، خصوصًا في ما يتعلق بالتعامُل مع الأقليات العِرْقِيَّة والدينية.
إجمالًا:
تُمثِّلُ أزمة مشروع “السوبر سفارة” الصينية في لندن اختبارًا دقيقًا للعلاقات “البريطانية – الصينية”، في ظِلِّ مرحلةٍ سياسيةٍ جديدةٍ تشهد إعادة صياغة لأولويات السياسة الخارجية البريطانية؛ حيث تتجاوز القضية؛ كوْنها خلافًا عمرانيًّا أو أمنيًّا؛ لتصبح مؤشرًا على اتجاه العلاقة بين دولتين تجمعهما المصالح الاقتصادية وتفرقهما الحسابات الاستراتيجية.
حيث تسعى لندن من جهة إلى الحفاظ على انفتاحها الاقتصادي وجذْب الاستثمارات الصينية لدعم اقتصادها، لكنها في الوقت نفسه، تدرك أن توسيع النفوذ الصيني داخل قلب العاصمة يحمل مخاطر أمنية ورمزية لا يمكن تجاهُلها.
أمَّا بكين، فتنظر إلى المشروع بوصفه رمزًا لحضورها الدبلوماسي المتنامي في أوروبا، وترى في المعارضة البريطانية تعبيرًا عن ضغوط غربية تستهدف الحدَّ من نفوذها الدولي.
وعليه؛ فإن القرار المنتظر بشأن المشروع سيكشف عن موقع بريطانيا الفِعْلِيّ في معادلة التوازن بين واشنطن وبكين، وهل ستختار نهْج الحذر الأمني والانحياز الغربي، أم البراجماتية الاقتصادية والانفتاح المدروس.
وعلى أيِّ حالٍ، تبقى هذه الأزمة بمثابة نقطة لافتة في مسار العلاقات بين لندن وبكين، فضْلًا أنها قد تُعيد تعريف حدود الثقة المتبادلة بين الطرفين في الفترة المقبلة.
المصادر:
[1] China’s London super-embassy, THE WEEK, 6-7-2025
