استقبل الزعيم الكورى الشمالى “كيم جونج أون” الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” فى بيونج يانج عاصمة جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية، صباح الأربعاء، وهى المرة الثانية فقط التى يزور فيها “بوتين” البلاد، وكانت الزيارة الأولى عام 2000 فى بداية رئاسته، وتعد لحظة حاسمة لنظيره الكورى الذى لم يستضف رئيسًا آخر فى بلده المعزول سياسيًا منذ جائحة “كوفيد – 19”.
وتمثل الزيارة – التى تستغرق يومين – خطوة مهمة إلى الأمام لشراكة تأسست على العداء المشترك للغرب وحلفائه، وقد شهدت توقيع اتفاق شراكة إستراتيجية لم يُكشف عن مضمونه، لكن أوضح “بوتين” أنه يسمح بالتعاون العسكرى والأمنى، مؤكدًا حرصه “على رفع العلاقات مع “بيونج يانج” إلى مستوى جديد”.
وقال المستشار الدبلوماسى للكرملين “يورى أوشاكوف” إن الاتفاق ليس استفزازيًا أو موجهًا ضد دول أخرى، ولكنه يهدف إلى ضمان قدر أكبر من الاستقرار فى شمال شرق آسيا، كما سيحل محل الوثائق الموقعة بين البلدين فى أعوام 1961 و2000 و2001.
دلالات التوقيت
ويأتى توقيت الزيارة مع تزايد التوترات فى شبه الجزيرة الكورية، وذلك مع تصعيد الزعيم “كيم” لهجته العدائية وانتقاده للتعاون الأمنى المتزايد بين الولايات المتحدة وحليفتيها كوريا الجنوبية واليابان، وإلغاء سياسة طويلة الأمد تسعى إلى إعادة التوحيد السلمى مع جارته الجنوبية، إلى جانب إطلاق سيول طلقات تحذيرية مع عبور جنود كوريون شماليون يعملون فى المنطقة منزوعة السلاح التى تفصل بين الكوريتين إلى الجنوب، باعتباره الحادث الثانى خلال الأسبوعين الماضيين.
كما يأتى بعد أيام فقط من قمة مجموعة السبع للاقتصادات المتقدمةG7 ، والتى توصل قادتها إلى اتفاق على تخصيص 50 مليار دولار (46,13 مليار يورو) لأوكرانيا من خلال استخدام الأرباح من الأصول الروسية المجمدة، كما يأتى فى أعقاب قمة دولية بسويسرا، حضرها أكثر من 50 رئيس دولة وحكومة ونحو 100 وفد من بينهم الأمم المتحدة وهيئات أوروبية، لبحث خارطة طريق محتملة للسلام فى أوكرانيا وتدعو إلى الانسحاب الكامل للقوات الروسية من الأراضى الأوكرانية، وهى الشروط التى رفضها الرئيس “بوتين” خلال اجتماعه مع قيادة وزارة الخارجية الروسية قبل يوم من انعقاد القمة، وذلك بعرض شروط السلام الخاصة به، بما فى ذلك انسحاب القوات الأوكرانية من الأقاليم الأربعة التى ضمتها روسيا بعد استفتاءات لم يعترف بها، وهى دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوريجيا الواقعة فى شرق وجنوب أوكرانيا، وضمان حياد كييف بالتوقف عن محاولاتها للانضمام إلى حلف شمال الأطلسى، وهو موقف اعتبرته أوكرانيا وحلفاؤها غير مجدٍ.
دوافع متعددة
هناك عدة دوافع تفسر زيارة الرئيس الروسى “بوتين” إلى بيونج يانج، والتى يمكن عرضها على النحو التالى:
أولًا – تعزيز دعم بيونج يانج لموسكو فى حربها بأوكرانيا:
ينظر إلى زيارة بوتين إلى كوريا الشمالية، كون الأخيرة تمت لك صناعة دفاعية ضخمة ذات قدرات إنتاجية واسعة النطاق، باعتبارها فرصة لتأمين الدعم المستمر من الدولة المنعزلة لحربه فى أوكرانيا، وخاصةً مع مواصلة الدعم الغربى لأوكرانيا مع دخول المساعدات العسكرية الأمريكية كييف الذى طال انتظارها، وتخصيص خلال قمة مجموعة السبع 50 مليار دولار لأوكرانيا من خلال استخدام الأرباح من الأصول الروسية المجمدة.
وقد كثف الرئيس “بوتين” تواصله مع “كيم” العام الماضى مع تضاؤل مخزوناته من الأسلحة، وشهدت موسكو تدفقًا للذخائر والصواريخ، وخاصةً عقب قمة تاريخية بينهم فى سبتمبر من العام الماضى، وفقًا لحكومات متعددة على الرغم من نفى البلدين عمليات نقل الأسلحة، وصرحت وزارة الدفاع الكورية الجنوبية فى وقت سابق من هذا العام، أن بين شهرى أغسطس وفبراير، شحنت كوريا الشمالية حوالى 6.700 حاوية إلى روسيا، والتى يمكن أن تستوعب أكثر من 3 ملايين طلقة من قذائف المدفعية 152 ملم أو أكثر من 500.000 طلقة من قاذفات الصواريخ المتعددة 122 ملم، وعلى الرغم من نفى كوريا الشمالية تقديم مساعدات عسكرية لروسيا، فإن بوتين قبل رحلته حكومة الزعيم”كيم” على مساعدتها فى المجهود الحربي. قائلًا “نحن نقدر عاليًا أن جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية تدعم بقوة العمليات العسكرية الخاصة التى تنفذها روسيا فى أوكرانيا”، مضيفًا أن البلدين يعملان على توسيع “تعاونهما المتبادل والمتساوى”، وذلك وفق مقال نشرته وكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية.
وقال المتحدث باسم الكرملين الأسبوع الماضى فى سؤاله عن المخاوف من أن روسيا تدرس نقل تقنيات حساسة مقابل حصولها على تلك السلع من بيونج يانج، إن “إمكانات البلدين لتطوير العلاقات الثنائية” “عميقة” و”لا ينبغى أن تسبب قلقًا لأى شخص ولا ينبغى ولا يمكن تحديها من قبل أى شخص”، كما صرح وزير الدفاع الأمريكى “لويد أوستن” الشهر الماضى، “أن توفير الذخائر والصواريخ الكورية الشمالية، وكذلك الطائرات الإيرانية من دون طيار، سمح للقوات الروسية “بالوقوف على أقدامها مرة أخرى”.
وما زال من غير المعروف علنًا ما الذى تتلقاه “بيونج يانج” مقابل دعمها لموسكو فى حربها، لكن وفقًا لمسؤولين كوريين جنوبيين وأمريكيين، فإن كوريا الشمالية تتلقى شحنات من المواد الغذائية وغيرها من الضروريات من روسيا، فضلًا عن تزويدها بالخبرة اللازمة لبرنامجها للأقمار الاصطناعية، وستراقب الحكومات الغربية عن كثب مدى استعداد الكرملين فى دعم نظام الزعيم “كيم”.
ثانيًا – التقليل من صورة العزلة الدولية:
تأتى زيارة “بوتين” إلى كوريا الشمالية، ثم التوجه إلى فيتنام فى محطته التالية، فى خضم العزلة الدولية المفروضة عليه نتيجة غزوه لأوكرانيا الذى أدين على نطاق واسع، وبالتالى يمكننا القول إن الرئيس “بوتين” يسعى إلى تقليل صورة العزلة الدولية لروسيا، وإرسال رسالة للغرب مفادها أن موسكو ليست وحدها فى حربها الجارية، كما أجرى “بوتين” تحركات على المستوى الدولى، عقب تنصيبه رئيسًا لولاية خامسة، بزيارة دولة إلى بكين، والتأكيد مع نظيره الصينى “شى” معارضتهما نظامًا عالميًا أحاديًا تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، كما استضافت موسكو، الأسبوع الماضى، وزراء خارجية دول من بينها الصين وإيران والبرازيل وجنوب إفريقيا فى اجتماع لمجموعة بريكس للاقتصادات النامية الكبرى.
ثالثًا – تعميق الاصطفاف المناهض للغرب:
تأتى الزيارة فى إطار حرص “بوتين” على تعميق الاصطفاف المناهض للهيمنة الغربية والمؤيد لإعادة تشكيل النظام العالمى، وذلك بهدف بناء محور ذى أبعاد جيوسياسية وجيواقتصادية، ومواجهة الضغوط الغربية والالتفاف حول العقوبات الغربية ومقاومة الأزمات الاقتصادية.
وتعد موسكو وبيونج يانج أكثر البلدان خضوعًا للعقوبات فى العالم وتنتقدان الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة، وتم فرض عقوبات على كوريا الشمالية نتيجة لتطويرها برنامجًا نوويًا وتنفيذها سلسلة من تجارب الصواريخ الباليستية. وحتى وقت قريب، كانت تدعم روسيا العقوبات الدولية التى تدعمها الأمم المتحدة، إلا أنه قد تحولت تلك الديناميكية مع الاحتكاكات المتزايدة مع الغرب، وفى وقت سابق من هذا العام، استخدمت موسكو حق النقض (الفيتو) ضد قرار أصدره مجلس الأمن لتمديد فترة عمل اللجنة المشرفة على العقوبات لكوريا الشمالية، وبالتالى باتت الدولتان يشكلان جبهة منسقة بشكل متزايد ضد الولايات المتحدة والغرب.
كما سعت موسكو إلى تعزيز علاقاتها الثنائية مع إيران، وهى دولة أخرى تعانى من العقوبات الدولية المفروضة عليها، وقد اتهمت العديد من الحكومات الغربية طهران بمد روسيا بمنتجاتها العسكرية مثل الطائرات بدون طيار لمواصلة حربها فى أوكرانيا، وتعد زيارة الرئيس “بوتين” لـ “شى” باعتبارها أول رحلة خارجية أثناء فترة ولايته الخامسة ذات دلالة رمزية حول انحياز روسيا المعلن للشرق.
رابعًا – إثارة شبح الحرب النووية:
يمكننا القول إنه قد يرى الرئيس “بوتين” فى علاقته مع الزعيم الكورى الشمالى وسيلة للتلويح بالتهديد النووى، مستغلًا مخاوف واشنطن وسيول بشأن البرنامج النووى لكوريا الشمالية، وبالتالى إجبار حلفاء كييف بالتخلى عن شروطهم فى الانسحاب الروسى الكامل من الأراضى الأوكرانية والبحث عن حل آخر تفاوضى بشروط روسيا.
ومن الجدير بالذكر أنه قد أثرت الاحتكاكات المتزايدة مع الغرب من ناحية، والعلاقات المتنامية مع بيونج يانج من ناحية أخرى، على الجهود الدولية للسيطرة على برنامج الأسلحة الكورى الشمالى مع استخدام موسكو (الفيتو) وامتناع الصين عن التصويت ضد قرار الأمم المتحدة الأخير لتجديد تشكيل لجنة مستقلة من الخبراء للتحقيق فى انتهاكات البلاد لعقوبات مجلس الأمن، ومن غير المرجح أن تساعد موسكو بيونج يانج بشكل مباشر فى برنامجها النووى خلال تلك المرحلة، حتى لا تندلع مواجهة نووية فى المنطقة.
وفى التقدير، تحمل زيارة الرئيس “بوتين” لكوريا الشمالية أهمية خاصة فى ظل سياق إقليمى ودولى مضطرب على خلفية المواجهة المحتدمة حاليًا مع الغرب، وتعكس العودة لبيونج يانج عقب مرور 24 سنة توجه الكرملين إلى تعزيز العلاقات مع شركاء يشاطرونه نفس الرأى فى رفض أساليب قيادة الولايات المتحدة للعالم، لمواجهة الغرب والالتفاف حول العقوبات الغربية والتقليل من صورة العزلة الدولية لموسكو، ويعد توقيع اتفاق شراكة إستراتيجية إشارة قوية فى هذا السياق، فضلًا عن ترجيح كونه مدفوعًا بحاجة البلاد إلى الذخائر لمواصله حربها فى أوكرانيا، ويُتوقع اتخاذ المزيد من الخطوات لتوسيع مساحة التعاون الثنائى لتجاوز تداعيات القيود المفروضة، وهو ما يثير قلق الغرب، الذى سيراقب عن كثب الفترة القادمة النتائجالتى سوف تتمخض عن الزيارة خصوصًا على صعيد تعزيز التعاون الأمنى والعسكرى بين البلدين.
