إعداد: محمد فوزي
تشهد الساحة الليبية تأزماً على كافة الأوضاع وذلك في ضوء الأزمة السياسية الناتجة عن تنازع السلطة وصراع الشرعية بين الحكومة المنتهية ولايتها بقيادة عبد الحميد الدبيبة، وحكومة الاستقرار بقيادة فتحي باشاغا، المكلفة من مجلس النواب، وهو الصراع الذي بدأت انعكاساته في الظهور على الساحة الليبية، خصوصاً على مستوى الأوضاع الأمنية، حيث شهدت العاصمة الليبية طرابلس اشتباكات واسعة النطاق بين ميليشيات محسوبة على “الدبيبة”، وبعض المجموعات المسلحة المحسوبة على “باشاغا”، ما أثار العديد من التخوفات بشأن عودة البلاد إلى مربع العنف والاقتتال.
واقع سياسي مأزوم
شهدت الساحة الليبية أزمة سياسية كبيرة منذ أن قرر البرلمان الليبي في طبرق في فبراير الماضي، والمدعوم من القوى المتمركزة في شرق ليبيا، تكليف وزير الداخلية السابق في حكومة الوفاق الوطني، فتحي باشاغا، برئاسة الحكومة محل عبد الحميد الدبيبة، لكن “الدبيبة” رفض تسليم السلطة، وبدأ في اتخاذ إجراءات تصعيدية، قسمت البلاد إلى معسكرين، معسكر “الدبيبة” والمدعوم من معظم قوى الغرب الليبي والتي تزيد مساحة تفاهمها مع تركيا وقوى الإسلام السياسي في ليبيا بشكل عام وبعض الاتجاهات داخل المجلس الأعلى للدولة، ومعسكر “باشاغا” الذي يدعمه البرلمان الحالي وبعض أعضاء المجلس الأعلى للدولة والجيش الوطني الليبي، وفي ثنايا هذا الصراع بدأ كل طرف في السعي لكسب دعم وتأييد القوى الدولية المنخرطة في الأزمة، وهنا يبرز بشكل واضح تصويت حكومة “الدبيبة” في 10 أبريل الماضي لصالح قرار تعليق عضوية روسيا في مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، لتصبح بذلك ليبيا الدولة العربية الوحيدة التي صوتت لصالح القرار، في حين امتنعت باقي الدول العربية، أو صوتت ضد القرار، أو تغيبت، واعتبرت بعض التقديرات أن هذا الموقف من حكومة “الدبيبة” يستهدف استمالة الموقف الأوروبي والأميركي لصالحها في مواجهة حكومة باشاغا، ويمكن القول إن أبرز أسباب الأزمة السياسية الراهنة في البلاد، ترتبط بالاعتبارات التالية:
1- لا يعترف “الدبيبة” بشرعية حكومة “فتحي باشاغا”، ويبرر ذلك بأن المجلس الرئاسي هو الجهة الوحيدة التي يحق لها تغيير الحكومة وفق خريطة طريق جنيف، فضلاً عن أن “الدبيبة” ربط وفق تقارير، تسليم السلطة للحكومة الجديدة، بترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة، إلا أن هذا الأمر مرتبط ببراءة ذمته في التحقيقات التي تجريها النيابة العامة في ليبيا منذ مارس الماضي، وبناءً عليه شرع “الدبيبة” في تبني العديد من الخطوات التصعيدية التي دفعت باتجاه عرقلة إجراء الانتخابات في ليبيا، وزيادة حالة الاستقطاب السياسي في البلاد، وهو ما تجسد بشكل واضح في إعلانه عقب تشكيل حكومة “باشاغا” عن خطة لتنظيم انتخابات برلمانية قبل نهاية يونيو الماضي وهو ما لم يحدث، وترحيل الانتخابات الرئاسية إلى وقت لاحق، في تخوف واضح من “الدبيبة” من أن تكون نتائج الانتخابات لصالح منافسيه، أو أن تعرقل القوانين الانتخابية من عملية ترشحه.
2- لا يمكن إغفال العامل الدولي في تفاقم الأزمة السياسية في البلاد، فعلى الرغم من مرور أشهر على نيل حكومة “باشاغا” الثقة من قبل البرلمان الليبي، إلا أن هذه الحكومة لم تحظ بثقة الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية أو المجتمع الدولي، وهو ما قرأته تقديرات على أنه يعني انحياز واضح لحكومة “الدبيبة”، وكانت المبعوثة الأممية السابقة إلى ليبيا ستيفانى ويليامز، قد أشارت في تعليقها على أزمة الشرعية في ليبيا إلى أن “المجتمع الدولي ليس في مجال تأييد الحكومات أو الاعتراف بها” الأمر الذي اعتبره مراقبون من قبيل “المراوغة” للهروب من إعلان موقف صريح يتسق مع تحركات البرلمان الذى أسقط حكومة الدبيبة، الأمر الذي قلص من فرص الوصول إلى تسوية سياسية، وزاد من حدة الاستقطاب، ودفع الأطراف المتصارعة للجوء إلى “القوة” لحسم المعركة السياسية.
3- أصدر “الدبيبة” في 12 يوليو الماضي قراراً بإقالة رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، مصطفى صنع الله، والذي يقود مؤسسة النفط الليبية منذ عام 2015، وتعيين مجلس إدارة جديدة للمؤسسة الوطنية للنفط برئاسة فرحات بن قدارة، الذي شغل سابقاً منصب محافظ البنك المركزي، وجاء قرار تغيير صنع الله، بضغط من وزير النفط محمد عون، الذي يخوض معه منذ سنوات صراعاً على قيادة قطاع النفط في ليبيا، ويتهمه بحجب معلومات الإيرادات والإنتاج عن الحكومة، وبمخاطبته لمديري الشركات بعدم الاعتداد بمراسلات وزارة النفط، وكذلك اتهامه بالفساد وعدم الشفافية.
وقد رفض “صنع الله” ومجلس إدارته هذا القرار، واعتبروه سياسياً، مما أدى إلى بدء مجموعات مسلحة في الاحتشاد في العاصمة طرابلس من أجل فرض رؤيتها تجاه إدارة مؤسسة النفط، في مؤشر عكس دخول مؤسسة النفط الليبية على خط الأزمة السياسية التي تشهدها البلاد، خصوصاً وأنها تهدف إلى زيادة الوزن النسبي لحكومة الدبيبة على حساب مجلس النواب وحكومة “باشاغا”.
4- أشارت تقارير خلال إلى أن انعقاد اجتماع خلال الأيام الماضية بين محمد الحداد، رئيس أركان الميليشيات الموالية للدبيبة، وبعض الكتائب المسلحة بالمنطقة الغربية، فضلاً عن إعلان عبد الغني الككلي، الشهير بـ«أغنيوة»، قائد ميليشيات «جهاز دعم الاستقرار» التابع للدبيبة، حالة النفير في منطقة أبوسليم جنوب طرابلس، كما أعلن محمد بحرون، الملقب بـ«الفار»، تشكيل غرفة مشتركة من كتائب المناطق العسكرية من طرابلس، والمنطقة الوسطى والساحل الغربي، وتجهيز كافة الكتائب التابعة لقوات الزاوية المسلحة للمشاركة في عملية عسكرية تستهدف وفقاً لهم “حسم الأمور، ووقف المجرمين الخارجين عن القانون” وفق ما تم الإعلان عنه، في مؤشر عكس لجوء “الدبيبة” إلى القوة العسكرية لفرض رؤيته في البلاد، وفي المقابل بدأت مجموعات مسلحة محسوبة على “باشاغا” في تبني خيار الحشد العسكري للرد على تحركات “الدبيبة” بهذا الخصوص، وهو الحشد الي أفرز اشتباكات في العاصمة طرابلس أدت إلى مقتل العشرات وإصابة المئات.
5- أشار السفير التركي في طرابلس، كنعان يلماز، إلى أن أنقرة باتت تتعامل مع ليبيا باعتبارها وحدة واحدة شرقاً وغرباً، وتسعى لتحقيق الاستقرار هناك، من خلال دعم تدشين حوار شامل يتضمن الأطراف الليبية كافة للتوصل إلى صيغة توافقية، فضلاً عن دفع المباحثات القائمة بين مجلسي النواب والدولة للتوصل لقاعدة دستورية، ومع الزيارة التي قام بها رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، بزيارة إلى تركيا، في 2 أغسطس، بناءً على دعوة رسمية من قبل أنقرة، والمباحثات التي أجراها مع الرئيس التركي بحضور رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، بدأت بعض التقديرات في الإشارة إلى أن ثقة أنقرة تراجعت في رئيس الحكومة المنتهية أعمالها “عبد الحميد الدبيبة”، وبدأت في التضحية به لحساب ترتيبات أخرى تضمن مصالحها، وهو المتغير الذي دفع “الدبيبة” إلى الرهان على القوة من أجل تحقيق طموحاته السياسية في ليبيا.
مستقبل مجهول
جدير بالذكر أن الاشتباكات التي بدأت في فجر يوم الجمعة، اندلعت في منطقتي باب بن غشير وشارع الزاوية وسط طرابلس، بين قوى مؤيدة لحكومة “باشاغا” وعلى رأسها الكتيبة 77 بقيادة “هيثم التاجوري”، وما يُعرف بقوات أو جهاز “دعم الاستقرار” بقيادة “عبد الغني الككلي”، وهي القوات المؤيدة للدبيبة، مما أسفر عن سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى حتى الآن، وأشارت التقارير التي غطت التطورات في الشارع الليبي إلى أن قوات “التاجوري” استطاعت السيطرة على عدد كبير من المؤسسات الحكومية، وقد حملت حكومة “الدبيبة” أنصار فتحي باشاغا رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب، مسؤولية تدهور الأوضاع الأمنية في طرابلس، واتهمتها بإفشال المفاوضات التي جرت للوصول إلى صيغة تُجنب البلاد العنف.
ومن جانبها، نفت الحكومة الليبية المكلفة من مجلس النواب ما جاء في بيان حكومة الوحدة الوطنية بشأن رفض المفاوضات، وقال المكتب الإعلامي لحكومة باشاغا إن الأخير رحب طوال الأشهر الستة الماضية بـ”كل المبادرات المحلية والدولية لحل أزمة انتقال السلطة سلمياً، دون أي استجابة من الحكومة منتهية الولاية”، ووصف البيان حكومة الدبيبة بأنها “مغتصبة للشرعية وترفض كل المبادرات”، مشيراً إلى رفض الحكومة المنافسة للخطاب الذي بعث به باشاغا إلى الدبيبة الأربعاء الماضي وطالبه فيه بـ”الجنوح للسلم وتسليم السلطة”.
وبدوره أكد اللواء أحمد المسماري، المتحدث باسم المشير خليفة حفتر، قائد “الجيش الوطني”، أمس، أن “الجيش” لا يدعم أي طرف ولا علاقة له بالصراع على السلطة في طرابلس، لكنه أضاف موضحاً “إذا طالبنا الشعب الليبي بالتدخل في طرابلس فسنكون في الموعد”. واعتبر أن “طبول الحرب تدق في العاصمة”، في مؤشر على عدم دخول الجيش الوطني الليبي على خط الأزمة الراهنة حتى اللحظة.
وفور بدء الاشتباكات في العاصمة الليبية طرابلس، وسقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى، بدأت العديد من الأطراف الدولية والإقليمية في التحرك والمناداة بضرورة الوصول إلى حلول سلمية للأزمة الراهنة، ومن هذه الجهات البعثة الأممية في ليبيا، وجامعة الدول العربية، لكن يبدو أن البلاد تتجه نحو أحد السيناريوهين:
1- استمرار حالة التصعيد من قبل طرفي الأزمة، والاعتماد على القوة لحسم الصراع السياسي، خصوصاً مع “الميوعة” التي يُبديها المجتمع الدولي إزاء التطورات في ليبيا وعدم امتلاكه أوراق ضغط تدفع باتجاه تبني حلول سلمية، وكذا رهان “الدبيبة” على خيار “القوة” لفرض أمر واقع يُخدم على مصالحه السياسية، وهو السيناريو الأقرب.
2- حدوث ضغوط ومبادرات بين الجانبين والوصول إلى صيغة تفاهمية ينبني عليها اتفاق وقف إطلاق نار، وإجراءات سياسية في المرحلة المقبلة، تُمهد لانتقال السلطة بشكل سلمي إلى سلطة موحدة، وإلى إجراء انتخابات نيابية ورئاسية، لكن هذا السيناريو يواجه عدداً من التحديات، وعلى رأسها تمسك الطرفين بمواقفهما وعدم الرغبة في تقديم أي تنازلات سياسية، واللجوء إلى القوة لفرض مقاربتهما، فضلاً عن عدم القدرة على السيطرة على الأداة الميليشياوية.
وختاماً يمكن القول إن الأزمة السياسية التي تشهدها الساحة الليبية منذ أشهر، اتخذت منحى جديد يقوم على سعي الأطراف المتنازعة لفرض رؤيتها عبر الأداة العسكرية، وهو ما يعني احتمالية عودة البلاد إلى حالة الاحتراب الأهلي في الأيام المقبلة، ما يزيد من حجم التحديات السياسية والأمنية التي تواجهها البلاد.