في مسعىً جديدٍ لإعادة إحياء حلّ الدولتين وإنهاءِ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، استضافت الأمم المتحدة في نيويورك المُؤتمر الدولي رفيع المستوى حول “التسوية السلمية للقضية الفلسطينية وتطبيق حل الدولتين” على مدى يومين 28 و29 يوليو 2025، وذلك برئاسةٍ مُشتركةٍ بين المملكة العربية السعودية يُمثلها وزير الخارجية الأمير “فيصل بن فرحان”، وفرنسا يمثلها وزير خارجيتها “جان نويل بارو”، وقد جاءَ هذا المُؤتمرُ كمُبادرةٍ مُتعددة الأطراف تهدف إلى بلورة خارطة طريق واضحةٍ نحو إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ مُستقلةٍ وقابلةٍ للحياة، إلى جانب إسرائيل، وفقًا للمرجعيات وقرارات الشرعية الدولية المُعتمدة، في حين جاءَ انعقادُ المؤتمر في ظلِّ تحولاتٍ دوليةٍ لافتة، إذ تزايدت التوقعات باتخاذ خطوات غير مسبوقة من بعض الدول الأوروبية للاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية، وفي مُقدمتها بريطانيا، ولكن في المقابل، أعلنت كلٌ من الولايات المتحدة وإسرائيل مقاطعتهما الرسمية للمؤتمر، وأبدتا اعتراضًا علنيًا على مُخرجاته، وقد أسفر المؤتمر عن توافق الدول المُشاركة على “خريطة طريق” نحو نشوء دولة فلسطين.
أولًا: توقيت مشحون
جاءَ انعقادُ المؤتمر الدولي الأخير في توقيتٍ بالغِ الأهمية والحساسية، وسط تصاعدٍ غير مسبوقٍ في الأزمة الإنسانية التي يعيشها قطاع غزة، واستمرار سياسات الاحتلال والانتهاكات في الضفة الغربية، وتعثّرِ مسارِ التسوية السلمية. هذا السياقُ المعقّدُ والمشحونُ منحَ المؤتمرَ أهميةً استثنائيةً، خاصةً مع تزايد الدعوات الدولية للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وتنامي الضغوط الأخلاقية والسياسية على المجتمع الدولي لاتخاذ مواقف أكثر حزمًا تجاه الانتهاكات الإسرائيلية، والكارثة الإنسانية المتفاقمة في الأراضي المحتلة، وذلك من خلال ما يلي:
1- تصعيد إسرائيلي مدروس: حيث صوّت الكنيست الإسرائيلي لصالحِ مشروع قانون يهدف إلى فرْضِ السيادةِ الإسرائيلية على الضفة الغربية وغور الأردن في 23 يوليو 2025 [1]، في خُطوةٍ تُعدّ تصعيدًا خطيرًا ومدروسًا ضمن أجندة الحكومة الإسرائيلية الحالية، حيث جاء تأييد رئيس الكنيست لهذا القانون بشكلٍ علنيٍ أضفى عليه دلالةً رمزيةً تتجاوز الطابَعَ الإجرائي، حيث يُفهم هذا التحرك في إطار استراتيجيةٍ إسرائيليةٍ أوسع لتكريس الأمر الواقع وفرْضِ سياسات الضم من طرفٍ واحد، ما أدى إلى موجةِ اعتراضاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ، اعتبرت هذه الخطوة ضربة جديدة لمساعي الحل السلمي، وانتهاكًا واضحًا للمبادئ الأساسية للقانون الدولي.
2- تحرك مصري إنساني: وفي خضمِّ هذه التطورات، وضمن جهودٍ مصريةٍ مستمرة لدعم الشعب الفلسطيني، أطلق الهلال الأحمر المصري في 27 يوليو 2025 قافلةَ مساعداتٍ إنسانيةٍ تحت عنوان “زاد العزة.. من مصر إلى غزة” [2]، ضمت أكثر من 100 شاحنة محملة بما يزيد على 1,200 طن من المواد الغذائية، منها 840 طنًا من الدقيق و450 طنًا من المواد الغذائية المتنوعة. دخلت الشاحنات من معبر رفح باتجاه معبر كرم أبو سالم، حيث لا تزالُ تخضعُ للتفتيش الأمني من قِبلِ القوات الإسرائيلية، ما يعكس العراقيل المتكررة أمام دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، رغم تفاقم الاحتياجات الإنسانية فيه.
3- التأييد البريطاني وتداعياته:على المستوى السياسي الدولي، أثارَ تصريحُ رئيس الوزراء البريطاني “كير ستارمر” في 28 يوليو 2025 جدلاً واسعًا بعد إعلانه عن نية بريطانيا الاعتراف بالدولة الفلسطينية بحلول سبتمبر المقبل، في حال عدم اتخاذ إسرائيل خطواتٍ ملموسةٍ لتحسين الوضع في قطاع غزة ودعم مسار التسوية [3]، هذا التصريحُ قوبل برفضٍ شديدٍ من الجانب الإسرائيلي، حيث وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” بأنه “يكافئ حركة حماس ويعاقب ضحايا الهجوم عبر الحدود في 2023” [4]، هذا التصعيدُ الخطابيُ بين الجانبين البريطاني والإسرائيلي عكس توترًا في العلاقات الدبلوماسية بين بريطانيا وإسرائيل والذي بدورة يزيد من الضغوط والعزلة الدولية المفروضة على إسرائيل.
4- ضغوط أمريكية لمنع المؤتمر: وفي سياقٍ متصلٍ، كشفت برقيةٌ دبلوماسيةٌ صادرة عن إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، أن الولايات المتحدة مارست ضغوطًا دبلوماسيةً واسعةً على الحكومات الأجنبية لثنيها عن حضور مؤتمر الأمم المتحدة بشأن حل الدولتين، والتي صدرت بتاريخ 10 يونيو 2025 [5]، وأكدت أن الدول التي تشارك في “إجراءات مناهضة لإسرائيل” بعد المؤتمر ستُعتبر مخالفة للمصالح الأمريكية وقد تواجهُ عواقبَ دبلوماسيةً، بالإضافة إلى إعلان كلٍ من الولايات المتحدة وإسرائيل رسميًا مقاطعتهما للمؤتمر ورفضهما العلني لمخرجاته[6]، ما يؤكد أن واشنطن أصبحت تتبعُ سياسةً قائمةً على تقويض المبادرات الأممية متعددة الأطراف لصالح دعم غير مشروط للموقف الإسرائيلي.
ثانيًا: التحركات الدبلوماسية قبيل المؤتمر
هدَفَ المؤتمر إلى دفع جهود التسوية السلمية من خلال تنفيذ “حل الدولتين”، وهو ما يمكن وصفه بأنه ليس مُجرد حدثٍ دبلوماسيٍ عابرٍ، بل حلقة في سلسلة طويلة من المُبادرات والجهود الدبلوماسية، وقد ظهر ذلك على النحو الآتي:
1- زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون إلى مصر: مثّلت الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” إلى مصر في أوائل أبريل الماضي مُنعطفًا نوعيًا في التوجهات الدبلوماسية الغربية تجاه القضية الفلسطينية بشكلٍ عامٍ ودولة فرنسا بشكلٍ خاصٍ، حيث شكّلت دفعةً ملموسةً وكانت بمثابة اللبِنةِ الأولى نحو توجّه فرنسا للاعتراف بدولة فلسطين، وهذا ما قد سبق وعبّر عنه ماكرون صراحةً، خلال لقائه بالرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي”، عن موقفٍ واضحٍ برفض تهجير الفلسطينيين، مُؤكدًا التزام بلاده بالبحث عن حلول عادلة ومستدامة [7]، كما جسّدت زيارته لمستشفى العريش، القريب من معبر رفح، ومشاهدته المباشرة لمعاناة الجرحى الفلسطينيين والطواقم الطبية، لحظةً إنسانيةً ذات أبعادٍ سياسيةٍ عميقةٍ. فقد أسهم هذا التحرك الفرنسي في تعزيز المسار الدولي الرافض لانتهاكات إسرائيل، وأعاد تسليط الضوء على ضرورة الاعتراف بحقوق الفلسطينيين، وعلى رأسها الحق في الدولة المُستقلة.
2- الاتصالات المُكثفة بين السعودية وفرنسا: شهدت الفترة الأخيرة تكثيفًا ملحوظًا في الاتصالات الدبلوماسية رفيعة المستوى بين المملكة العربية السعودية وفرنسا، كان أبرزُها الاتصال الهاتفي الأخير في 23 مايو 2025 بين الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” وولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان” [8]، وقد تصدّر العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة جدول المشاورات، حيث أعرب الجانبان عن قلقهما العميق إزاء التدهور الكارثي للأوضاع الإنسانية، ولا سيَّما في مدينة رفح التي تؤوي أكثر من مليون نازح فلسطيني. وأكّد الطرفان رفضهما للهجوم الإسرائيلي المستمر، مع التشديد على ضرورة التوصل إلى وقْفٍ فوريٍ ودائمٍ لإطلاق النار، بما يضمنُ حمايةَ المدنيين وتيسيرَ دخولِ المساعدات الإنسانية دون عوائق. كما تطرّق الاتصال إلى انفتاح فرنسا المتزايد على الاعتراف بدولة فلسطين، في تطورٍ لافتٍ في الموقف الأوروبي، عبّر عن اتساع رقعة التأييد الدولي للحقوق الفلسطينية المشروعة، في ضوء توافق باريس والرياض على مركزية الحل العادل والشامل في استعادة الاستقرار الإقليمي.
3- التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين:في سياق التحركات الدبلوماسية على المستوى الإقليمي، أعلنت المملكة العربية السعودية عن إطلاق “التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين” في 27 سبتمبر [9]2024، في خطوةٍ كانت بمثابةِ تحولٍ جذريٍ في الأداء الدبلوماسي العربي والإسلامي، وتؤكد على انتقاله من دَورِ ردّ الفعل إلى صناعة المبادرة، هذا التحالفُ لا يقتصرُ على كونه إطارًا تنسيقيًا، بل يُعدُّ تجسيدًا لإرادةٍ جماعيةٍ تسعى إلى فرضِ واقعٍ جديدٍ يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية، ويكسر حالة الجمود المُزمن في العملية السياسية. بإعلانه من على منبر الأمم المتحدة، على هامش أعمال الأسبوع رفيع المستوى للجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها التاسعة والسبعين في مدينة نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، ويمثّل هذا التحالفُ العالمي الرايةَ الجديدةَ للعالم العربي والإسلامي في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، وذلك من خلال إعادة تدويل القضية في مواجهة محاولات تهميشها أو تطويعها لأجندات إقليمية ضيقة، وذلك من خلال التأكيد على هدفه الأساسي وهو الاعتراف بالدولة الفلسطينية ضمن حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
تُوّجت الجهودُ المصريةُ-السعودية المشتركة خلال العامين الماضيين، باعتبارهما أهم الحلفاء الإقليميين وحماة القضية الفلسطينية، بإنجاز دبلوماسي نوعي تمثّل في اعتراف كل من إسبانيا وأيرلندا والنرويج رسميًا بدولة فلسطين. هذا التحرك لم يكن وليد لحظة ظرفية، بل جاء ثمرة لتنسيق سياسي حثيث، وضغوط ممنهجة مورست عبر القنوات الثنائية ومتعددة الأطراف، وقد شكّل هذا الاعتراف بداية لسلسلة متصاعدة من التبدلات في مواقف الدول الغربية، وعلى رأسها فرنسا التي توجهت أيضًا نحو للاعتراف، والتي دفعت بدورها في مؤتمر نيويورك لحل الدولتين إلى تشجيع عددٍ من الدول للاعتراف بفلسطين، ومنهم، كندا وأستراليا، العضوين في مجموعة العشرين، علاوة على ذلك الحصول على تأييدًا من أندورا وفنلندا وأيسلندا ولوكسمبورغ ومالطا ونيوزيلندا والبرتغال وسان مارينو وسلوفينيا، بالإضافة إلى أنه أعربت تسع دول من بين هذه المجموعة[10]، والتي لم تعترف بعد بدولة فلسطين، عن استعدادها أو اهتمامها الإيجابي للمضي بهذا الاتجاه.
ثالثًا: مُخرجات مؤتمر نيويورك لحل الدولتين
أصدر المؤتمر الدولي بشأن التسوية السلمية لقضية فلسطين وتنفيذ حل الدولتين البيان الختامي “إعلان نيويورك” [11]، مُتضمنًا الاتفاقَ على اتخاذِ “خطواتٍ ملموسةٍ” و”مرتبطةٍ بإطارٍ زمنيٍ ولا رجعةَ فيها” من أجل تسوية قضية فلسطين، واتفق المشاركون على اتخاذِ إجراءاتٍ جماعيةٍ لإنهاء الحرب في قطاع غزة، وتحقيقِ تسويةٍ عادلةٍ وسِلميةٍ ودائمةٍ للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، استنادًا إلى تنفيذ حلّ الدولتين، وبناء مستقبلٍ أفضل للفلسطينيين والإسرائيليين وجميع شعوب المنطقة.
أكد الرؤساء والمشاركون لفِرقِ العمل، جمهورية البرازيل الاتحادية، وكندا، وجمهورية مصر العربية، وجمهورية إندونيسيا، وإيرلندا، والجمهورية الإيطالية، واليابان، والمملكة الأردنية الهاشمية، والولايات المتحدة المكسيكية، ومملكة النرويج، ودولة قطر، وجمهورية السنغال، ومملكة إسبانيا، وجمهورية تركيا، والمملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وإيرلندا الشمالية، والاتحاد الأوروبي، وجامعة الدول العربية على ما يلي:
1- تثبيت المرجعيات الدولية لحلّ الدولتين:أكد المشاركون في المؤتمر الدولي المنعقد في نيويورك (28–30 يوليو 2025)، من رؤساء دول ومنظماتٍ إقليمية ودوليةٍ، التزامَهم الراسخ بالمرجعيات القانونية والسياسية المتفق عليها دوليًا لحلّ الدولتين، وعلى رأسها قراراتُ مجلسِ الأمن ذات الصلة، ومبادئُ مؤتمرِ مدريد، ومبادرةُ السلام العربية. وشددوا على ضرورة إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلةٍ ذات سيادةٍ وقابلةٍ للحياة ديمقراطيًا واقتصاديًا على حدود عام 1967، تعيش جنبًا إلى جنب مع إسرائيل في أمنٍ وسلام، بما في ذلك القدسُ الشرقيةُ عاصمةً لها، مع احترام سيادة جميع الدول وضمان اندماج إقليمي شامل.
2- المسار السياسي والدبلوماسي: ركّز المؤتمر على ضرورة تحريك الجمود السياسي الحالي من خلال خطواتٍ ملموسةٍ على الصعيدين السياسي والدبلوماسي. وتمَّ الاتفاقُ على تعبئة الجهود الدولية لدعمِ الاعترافِ بدولة فلسطين، والدعوةِ إلى قَبولها كعضوٍ كاملِ العضوية في الأمم المتحدة. وشدد المشاركون على ضرورة أن تعلنَ إسرائيل رسميًا التزامها بحل الدولتين، والتخلي عن سياسات الضم والاستيطان، ووقْفِ العنفِ والتحريض ضد الفلسطينيين، بما في ذلك اعتداءات المستوطنين. كما دُعي الطرفان إلى استئناف المفاوضات برعايةٍ دوليةٍ وضماناتٍ مُلزمةٍ، تُفضي إلى اتفاقِ سلامٍ شاملٍ وعادلٍ ودائمٍ، ينهي الاحتلال ويسوّي قضايا الوضع النهائي.
3- المسار الأمني والإداري لغزة:أكد المؤتمر بشكلٍ قاطعٍ أن قطاع غزة يُعد جزءًا لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية المستقبلية، ولا يمكن قبول أي شكل من أشكال الفصل أو الاحتلال أو الحصار أو الاقتطاع الجغرافي. وفي هذا السياق، أُعلن أن السلطةَ الفلسطينيةَ هي الجهةُ الشرعيةُ الوحيدةُ المسؤولة عن الحكم والأمن وتطبيق القانون في جميع الأراضي الفلسطينية، بما يشمل غزة. وقد جرى دعم سياسة “دولة واحدة، حكومة واحدة، قانون واحد، سلاح واحد” التي أعلنتها السلطة، والدعوة إلى تفكيك الحكم المسلح في غزة، وتسليم حركة حماس أسلحتها إلى السلطة الفلسطينية، في إطارِ آليةٍ متفقٍ عليها، تدعمها أطراف دولية وإقليمية، وتُستكمل ببرامج نزع السلاح وإعادة الإدماج.
4- الإجراءات الإنسانية العاجلة: في ظل الكارثة الإنسانية التي يشهدها قطاع غزة، شدد المؤتمرون على ضرورة الوقف الفوري للأعمال العدائية، ورفع الحصار الإسرائيلي، والسماحِ بدخول المساعدات الإنسانية دون عوائق. وقد أدان المشاركون استخدامَ الحصار والتجويع كسلاحٍ في الحرب، وهو ما يشكّلُ انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني. وطالبوا إسرائيل، بصفتها القوة القائمة بالاحتلال، بفتح المعابر، واستئناف إمدادات الكهرباء والوقود والمياه، والسماح بدخول الغذاء والدواء، مع التنسيق مع الأمم المتحدة والصليب الأحمر. وأكدوا أيضًا ضرورة حماية العاملين في المجال الإنساني والأمم المتحدة، والوقوف بحزم أمام مخاطر المجاعة الشاملة.
5- دعم الإصلاح المؤسسي الفلسطيني: أبدى المؤتمر دعمًا كاملًا لأجندة الإصلاح الفلسطينية التي تهدفُ إلى تعزيز الحوكمة الرشيدة، ومكافحةِ الفساد، وضمانِ الشفافيةِ والاستدامةِ المالية. ورحّب المشاركون بتعهد الرئيس محمود عباس بإجراءِ انتخاباتٍ عامةٍ ورئاسيةٍ ديمقراطيةٍ وشفافة في جميع الأراضي الفلسطينية، بما فيها القدس الشرقية، خلال عام واحد، بإشرافٍ دولي. وقد جرى التشديد على أهمية تمكين الجيل الجديد من الفلسطينيين من التمثيل والمشاركة السياسية، في إطار التزام الفاعلين السياسيين ببرنامج منظمة التحرير الفلسطينية ومبادئ حلّ الدولتين.
6- الجوانب القانونية والإنسانية:جدد المشاركون إدانتَهم لجميع الانتهاكات التي تُرتكبُ بحق المدنيين من أي طرف، بما في ذلك الهجماتُ الإرهابيةُ، والعقابُ الجماعي، والقصفُ العشوائي، وعمليات القتل والتهجير القسري، واحتجاز الرهائن. كما شددوا على أن جميع هذه الأفعال تمثّل انتهاكاتٍ جسيمةً للقانون الدولي، وتتطلب المساءلة وعدم الإفلات من العقاب. وقد تمّٕ التأكيد على ضرورة التوصل إلى حلٍ عادلٍ ومتفَقٍ عليه لقضية اللاجئين الفلسطينيين، وفق قرار الجمعية العامة 194، مع الحفاظ على الدور الحيوي لوكالة الأونروا حتى تسليم مهامها إلى مؤسسات فلسطينية مؤهلة.
7- الحفاظ على الوضع التاريخي والقانوني في القدس: أكد المؤتمر على وجوب احترام الوضع التاريخي والقانوني القائم في الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس، ودعم الدور الأردني في هذا السياق عبر الوصاية الهاشمية، وإدارة أوقاف القدس وشؤون المسجد الأقصى. وقد تمَّ التنديدُ بمحاولات تغيير هوية المدينة أو فرْضِ واقعٍ جديدٍ فيها، كما دُعي إلى الامتناع عن جميع الأعمال أحادية الجانب التي تمس بالوضع القانوني للقدس.
8- إطلاق عملية إعادة الإعمار والتنمية: رحّب المؤتمر بالخطة العربية-الإسلامية لإعادة إعمار غزة، مع التأكيد على ضرورة أن يتمَّ ذلك ضمن إطارٍ يحافظُ على وحدةِ الأراضي الفلسطينية، ويمنعُ التهجيرَ ويعزز صمود السكان. وقد دُعي إلى عقد مؤتمر دولي للتعافي وإعادة الإعمار في القاهرة، مع تشجيع الدول والجهات المانحة على الإسهام الفاعل، وتوفير الموارد اللازمة عبر صندوق ائتماني دولي.
9- تعزيز البعد الإقليمي والأمني: شدد البيان على أن حلَّ النزاع الفلسطيني–الإسرائيلي يمثّل جوهرَ الاستقرار الإقليمي. وقد أُعلن أن الاندماجَ الإقليميَ لا يمكنُ أن يتحققَ من دون تجسيد الدولة الفلسطينية المستقلة، وإنهاء الاحتلال، وضمان أمن الشعبين. ودعا المؤتمر إلى استكشافِ نموذجٍ أمنيٍ إقليميٍ مستوحى من تجارب “آسيان” ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، يوفر ضمانات أمنية متبادلة، ويعزّزُ السلْمَ والتعاونَ بين شعوب المنطقة. كما جرى الاتفاق على ضرورة تجديد المسارين السوري والإسرائيلي، واللبناني والإسرائيلي، للتوصل إلى تسوية شاملة ودائمة للصراع في الشرق الأوسط.
10- آلية التنفيذ والمتابعة الدولية: لتأمين تنفيذ مخرجات المؤتمر، تقرر إنشاءُ آليةٍ دولية للمتابعة تحت إشراف الرئيسين المشاركين للمؤتمر وفرق العمل، تتولى متابعةَ الالتزاماتِ وضمانَ تنفيذها على الأرض. وقد تمَّ إطلاق “التحالف العالمي لتنفيذ حلّ الدولتين”، كإطارٍ دوليٍ شاملٍ لمرافقة الخطوات السياسية والأمنية والاقتصادية والإنسانية، مع خطة عمل محددة زمنياً. ودُعي قادة العالم إلى التعبئة مجددًا حول هذه الالتزامات خلال الدورة 80 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2025.
رابعًا: الاستنتاجات الختامية
يمكن القول بأن مؤتمر نيويورك لحلِّ الدولتين كان بمثابةِ خارطةِ الطريق نحو نشوء دولة فلسطين في خضمِّ التعقيدات السياسية والأمنية المُتشابكة، حيث يظهر ذلك من خلال ما يلي:
1- تزايد الأصوات الدولية الداعية لحل الدولتين: شهدت الساحة الدولية تصاعدًا ملحوظًا في تأييد حل الدولتين كإطارٍ وحيد ومُستدامٍ لإنهاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث لم يعدْ هذا الحلُ خيارًا تكتيكيًا بل تحولَ إلى مطلبٍ استراتيجيٍ وضرورةٍ حتميةٍ لضمان حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، ما يعكس إدراكًا عالميًا بضرورة تغليب هذا المسار.
2- تحول مُقاربة غزة من البعد الإنساني إلى معالجة سياسية شاملة: كان لافتًا أن المؤتمر وضعَ نهايةً للمقاربة الضيقة التي تحصر قطاع غزة ضمن دائرة المعاناة الإنسانية فقط، مؤكدًا ضرورة تحويل الاهتمام إلى معالجةٍ سياسيةٍ شاملةٍ. إذ لم تعدْ المعاناةُ الإنسانيةُ في غزة قضيةً قائمةً بذاتها، بل هي انعكاسٌ مباشرٌ للصراع السياسي المستمر والاحتلال والحصار. لذلك، يجب أن تترافقَ جهود إعادة الإعمار وتقديم المساعدات مع حلولٍ سياسيةٍ استراتيجيةٍ تضمن بسط سلطة القانون الفلسطينية، إنهاء الانقسام الداخلي، وضمان دمج غزة ضمن الدولة الفلسطينية الموحدة.
3- إعادة تأهيل السلطة الفلسطينية كضمان للشرعية:بالنظر إلى مخرجات المؤتمر نجد أنه ركّز على إعادة تأهيل السلطة الفلسطينية كجهةٍ شرعيةٍ ومركزيةٍ لقيادة المرحلة الجديدة التي تلي الحرب، فقد أضحى من الضروري تعزيزُ قدرات السلطة على إدارة الأراضي الفلسطينية، وإعادة بناء مؤسساتها الأمنية والإدارية، مع توفير الدعم الدولي اللازم. هذا التأهيلُ يُعدّ أساسًا لإعادة توحيد الصف الفلسطيني وتمكين الحكومة الفلسطينية من تقديم الخدمات وحفظ الأمن، ما يشكّل عنصرًا رئيسيًا في بناء دولة فلسطينية قابلة للحياة وموثوقة دوليًا.
4- تزايد الضغوط الدولية على إسرائيل: في استجابةٍ متزايدةٍ للانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، شهدَ المؤتمر تصعيدًا ملحوظًا في الدعوات إلى فرض عزلة دولية على إسرائيل ومحاسبتها على جرائمها ضد المدنيين الفلسطينيين، وهو ما يطوق دولة إسرائيل ويحاصرها ويعزلها دوليًا وأيضًا في الوقت ذاته يزيد من الانقسامات داخل الحكومة اليمنية الإسرائيلية المتطرفة.
5- خطوة جريئة رغم الرفض الأمريكي الإسرائيلي: على الرغم من الرفض الواضح من الولايات المتحدة وإسرائيل للمؤتمر ونتائجه، شكّل هذا الحدثُ الدبلوماسيُ انطلاقةً قويةً على خارطة الطريق لإنشاءِ دولةٍ فلسطينيةٍ. فقد جمع المؤتمر تحت مظلته إرادة دولية متعددة الأطراف، مجسّدًا تحوّلًا في المشهد السياسي الدولي الذي لم يعدْ يقصر إدارة ملف التسوية على الولايات المتحدة الأمريكية فقط.
6- تزايد الزخم الدولي نحو الاعتراف بدولة فلسطين : شجّع المؤتمر عددًا من الدول، منها كندا وأستراليا، العضوين في مجموعة العشرين، على الاعتراف بدولة فلسطين، كما حظي بدعمٍ من دولٍ أوروبية مثل أندورا وفنلندا وأيسلندا ولوكسمبورغ ومالطا ونيوزيلندا والبرتغال وسلوفينيا وسان مارينو. ورغم أن بعض هذه الدول لم تعترفْ رسميًا بعد، إلا أنها أبدت استعدادًا إيجابيًا أو اهتمامًا بالمُضي قدمًا في هذا الاتجاه، كما هو الحال مع إيطاليا التي ربطت الاعتراف بوجود فلسطيني فعليٍ على الأرض. هذا الدعمُ المتنامي يعزّز موقع فلسطين في المحافل الدولية ويمهد الطريق لتوسيع دائرة الاعتراف القانوني والسياسي، ما يسهم في تعزيز فرص السلام والاستقرار.
ختامًا:
يُجسّد مؤتمرُ نيويورك لحلّ الدولتين خطوةً محوريةً في مسار القضية الفلسطينية، حيث شكّل حراكًا دبلوماسيًا دوليًا مُتصاعدًا يدفع باتجاه مزيدٍ من الاعترافات الفعلية والقانونية بدولة فلسطين، كما أنه لم يكنْ المؤتمر محطة عابرة، بل مهّد الطريق بقوة أمام اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل، ليشكّل منصةً حاسمةً لتعزيز الدعم الدولي وبلورة التزامات جماعية بحق الفلسطينيين في دولتهم المستقلة وسيادتهم على أراضيهم، بيد أنه من الضروري أن ترافقَ هذه الالتزامات الدولية آلياتٍ تنفيذيةً قويةً وفعالة، تضمنُ تحقيقَ تسويةٍ سلميةٍ عادلةٍ ومُعالجةٍ مستدامةٍ للقضية الفلسطينية، سواء عبر متابعة دولية صارمة وأيضًا تطبيق عملي يضمن تحويل القرارات السياسية إلى واقعٍ ملموسٍ.
المصادر:
[1] الكنيست الإسرائيلي يصوت لصالح مشروع لفرض السيطرة على الضفة، سكاي نيوز العربية، تاريخ النشر: ٢٣ يوليو ٢٠٢٥، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/icMPy
[5] وثيقة دبلوماسية: “أميركا تحث على عدم حضور مؤتمر عن حل الدولتين”، العربية، تاريخ النشر: ١١ يونيو ٢٠٢٥، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/evyNB
[6] مؤتمر أممي لحل الدولتين وسط مقاطعة أميركية وإسرائيلية، سكاي نيوز العربية، تاريخ النشر: ٢٨ يوليو ٢٠٢٥، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/umBHN
[7] كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع رئيس الجمهورية الفرنسية، رئاسة جمهورية مصر العربية، تاريخ النشر: ٧ أبريل ٢٠٢٥، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/VGqUf
[8] «الإليزيه»: 4 ملفات رئيسية في اتصال الرئيس الفرنسي وولي العهد السعودي، صحيفة الشرق الأوسط، تاريخ النشر: ٢٣ مايو ٢٠٢٥، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/vzoAY
[10] 15 دولة غربية تدعو دولا أخرى لإعلان عزمها الاعتراف بفلسطين، سكاي نيوز العربية، تاريخ النشر: ٣٠ يوليو ٢٠٢٥، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/YDhgG
[11] مؤتمر حل الدولتين.. النص الكامل لـ”إعلان نيويورك”، الشرق للأخبار، تاريخ النشر: ٣٠ يوليو ٢٠٢٥،متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/FFkdy
