في العاشر من مارس الجاري، تولى مارك كارني، الخبير الاقتصادي البارز، منصب رئيس وزراء كندا خلفًا لجاستن ترودو، في لحظة فارقة تمر بها البلاد، حيث تواجه تحديات اقتصادية وسياسية معقدة، خصوصًا مع اقتراب الانتخابات البرلمانية المقبلة، حيث يتمتع كارني بخبرة طويلة في إدارة الأزمات المالية، نظرا لشغله العديد من المناصب الاقتصادية، مما يعزز من دوره في هذه المرحلة التي تشهد تصعيدا أمريكيا ذات انعكاسات اقتصادية.
وفي هذا السياق، تبرز العلاقة بين كندا والولايات المتحدة باعتبارها أحد أهم الملفات الأكثر حساسية أمام كارني، خاصة في ظل استمرار التوترات مع إدارة الرئيس دونالد ترامب. فمع تصاعد النزعات الحمائية الأمريكية، والضغوط على كندا في ملفات التجارة والطاقة والدفاع، سيكون على كارني تحقيق توازن دقيق بين حماية المصالح الكندية من جهة، وبين الحفاظ على شراكة استراتيجية لا غنى عنها مع واشنطن من جهة أخرى، وهو ما يجعل كيفية تعامله مع هذه التحديات ستحدد إلى حد كبير مستقبل العلاقات بين البلدين.
خلفية براجماتية
لم يكن مارك كارني سياسيًا تقليديًا، حيث أنه لم يشغل أي منصب سياسي قبل انتخابه رئيسًا لوزراء كندا، لكنه يدخل عالم السياسة بثقل اقتصادي كبير وخبرة طويلة في إدارة الأزمات المالية، حيث قاد بنك كندا خلال الأزمة المالية العالمية، وصولا إلى قيادته لبنك إنجلترا في خضم اضطرابات البريكست، وبرز كارني كشخصية قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة في اللحظات الحرجة[1]. وهو ما يتكرر اليوم في قيادة بلاده وسط توترات اقتصادية وتجارية متزايدة مع الولايات المتحدة
وعلى الرغم من افتقاره للخلفية السياسية التقليدية، فإن هذا قد يُنظر إليه بإيجابية، خاصة وأن ذلك يتماشى إلى حد كبير مع صعود شخصيات من خارج الأطر السياسية المعتادة ومن أبرزهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي جاء إلى البيت الأبيض من عالم الأعمال متجاوزًا الطبقة السياسية التقليدية، واعتمد نهجًا براجماتيًا بحتًا في إدارة الدولة. وبالمثل، فإن كارني، بخلفيته الاقتصادية، قد يجلب نهجًا مشابهًا إلى القيادة الكندية، حيث تعتمد سياساته على الواقعية والبراجماتية كبديل عن الأيديولوجيا.
وفي ظل التوتر القائم بين أوتاوا وواشنطن، فإن هذا التشابه قد يشكل نقطة التقاء غير متوقعة بين كارني وترامب، ما قد يفتح الباب أمام إمكانية تهدئة الأجواء بين البلدين. فبينما يلوح ترامب بفرض تعريفات جمركية ويثير الجدل حول مستقبل العلاقات الثنائية، قد يكون كارني، بخبرته في التفاوض وإدارة الأزمات، قادرًا على إيجاد قنوات تواصل جديدة مع الإدارة الأمريكية، مبنية على المصالح الاقتصادية المشتركة بدلًا من التوترات السياسية. وبذلك، قد يتحول كارني من مجرد رجل اقتصاد إلى دبلوماسي قادر على إعادة ضبط العلاقات بين كندا والولايات المتحدة في مرحلة حساسة من تاريخ البلدين.
أوراق تفاوضية بيد كندا
رغم أن ميزان القوى التقليدي يميل لصالح الولايات المتحدة في العلاقة مع كندا، فإن هذا لا يعني أن كندا تفتقر إلى أدوات يمكن استخدامها لتحقيق توازن في العلاقة الثنائية. فعلى العكس من ذلك، تمتلك كندا أوراقًا تفاوضية قوية تمنحها مساحة للمناورة وإن كانت محدودة، وربما الأهم من ذلك، القدرة على تهدئة التوترات مع واشنطن وإيجاد نقاط التقاء تخدم المصالح المشتركة. ويعد ملف الطاقة من أبرز الأوراق التفاوضية، حيث يمثل عنصرًا حيويًا في العلاقة بين البلدين، نظرا لكون كندا في مقدمة موردي الطاقة للولايات المتحدةوهو ما يمنحها ورقة ضغط رئيسية يمكن توظيفها في أي مفاوضات مع واشنطن. وقد تجلى ذلك بوضوح في المواجهة التجارية الأخيرة بين البلدين، عندما فرضت إدارة ترامب تعريفات جمركية على بعض المنتجات الكندية، وهو ما قوبل، بفرض كندا رسوم جمركية مضادة، شملت قطاعات مختلفة، بما فيها الطاقة. وكان التصعيد الأبرز عندما أعلن رئيس وزراء مقاطعة أونتاريو عن نية فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على الكهرباء المصدرة إلى ثلاث ولايات أمريكية[2]. ورغم أن القرار لم يدخل حيز التنفيذ بعد تهديد ترامب بالتصعيد المضاد عبر مضاعفة الرسوم الجمركية على الواردات الكندية، إلا أن مجرد التلويح به كان رسالة واضحة مفادها أن كندا ليست الطرف الأضعف تمامًا في المعادلة.
لكن الأهم هنا ليس مجرد القدرة على التصعيد، بل كيفية توظيف هذه الأدوات في التفاوض. فمن غير المرجح أن يتبنى كارني نهج المواجهة المباشرة مع واشنطن، بل على العكس، قد يسعى لاستخدام أوراقه التفاوضية لتحقيق نوع من التوازن في العلاقات، بحيث لا تتحول الخلافات التجارية إلى أزمات سياسية عميقة.
حتمية التعاون بين كندا والولايات المتحدة
رغم تصاعد التوترات بين كندا والولايات المتحدة في الفترة الأخيرة نتيجة خلافات تتعلق بالتجارة والجمارك، إلى جانب بعض القضايا الحدودية، إلا أن هذه الخلافات لا تعني بأي حال من الأحوال أن العلاقات بين البلدين تتجه نحو مسار عدائي أو تدهور غير قابل للإصلاح. فثمة العديد من العوامل الجغرافية والأمنية والاقتصادية تجعل من التعاون بين كندا وواشنطن أمرًا حتميًا لا يمكن تجاوزه.
وهذه الحتمية ليست مجرد سياق نظري تحليلي، بل هي واقع تؤكده تصريحات مارك كارني، فعلى الرغم من أن خطابه في بعض الأحيان قد يبدو تصعيديًا، خاصة فيما يتعلق برفضه لتصريحات ترامب حول كندا، إلا أن هذا لا يلغي حقيقة أنه في تصريحات أخرى يبدي استعداده للتعاون مع الولايات المتحدة. لذا فإنه يمكن القول أن هذه الازدواجية الظاهرة تعكس إدراكه العميق لحقيقة أن كندا لا تستطيع الاستغناء عن أمريكا، بل هي بحاجة إلى الحفاظ على علاقة متوازنة معها، خصوصًا في القضايا ذات الأهمية الاستراتيجية لكلا البلدين[3].
ومن أبرز هذه القضايا، قضايا الأمن والدفاع، والذي يعد محورًا جوهريًا في العلاقة بين البلدين، خاصة في ظل المستجدات التي تشهدها السياسة الدفاعية الأمريكية. فقد أعلن ترامب مؤخرًا عن خطته لتطوير نظام دفاع جوي صاروخي أطلق عليه اسم “القبة الذهبية”، وهو نظام يهدف إلى حماية الولايات المتحدة من أي تهديدات صاروخية محتملة. وبالنظر إلى موقع كندا الجغرافي، فهي ليست مجرد جار قريب من الولايات المتحدة، بل هي جزء أساسي من المجال الاستراتيجي لأمن أمريكا القومي. ومن هذا المنطلق، فإن من مصلحتها أن يتم شمولها في هذا النظام الدفاعي المتطور، مما يعزز أمنها القومي ويضمن لها مظلة حماية أمريكية ضد أي تهديدات محتملة.
إن هذه الاعتبارات تجعل التعاون الدفاعي بين البلدين ليس مجرد خيار، بل ضرورة استراتيجية. فكندا، رغم استقلالها وسيادتها، تدرك جيدًا أن أمنها مرتبط بشكل وثيق بأمن الولايات المتحدة. وأي توتر في العلاقة بين البلدين لا يمكن أن يصل إلى حد القطيعة أو الانفصال؛ لوجود مصالح عليا تتجاوز أي خلافات عابرة، وتجعل من التعاون بينهما أمرًا حتميًا لا يمكن الاستغناء عنه.
التوجه نحو أوروبا
أعقب تولي كارني رئاسة الوزراء توجهه نحو أوروبا في أولى جولاته الخارجية، في جولة ذات دلالة استراتيجية تعكس رغبة في إعادة التوازن إلى السياسة الخارجية الكندية.حيث أنه لطالما اعتمدت كندا بشكل كبير على الولايات المتحدة كسوق لصادراتها وشريك دفاعي رئيسي، لكن من ناحية أخرى فإن سياسة الضغط الاقتصادي التي ينتهجها ترامب – من تهديد بفرض تعريفات جمركية إلى مطالبة كندا بزيادة إنفاقها الدفاعي ضمن مطالبته الواسعة للحلفاء بزيادة مخصصاتهم الدفاعية في إطار حلف الناتو – جعلت أوتاوا تدرك أن هذا الاعتماد قد يتحول إلى نقطة ضعف في أي لحظة. لهذا، فإن البحث عن بدائل – وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي – أصبح ضرورة.
وتجدر الإشارة أنه على الرغم من أهمية هذا التوجه، فإن الرهان على أوروبا وحدها لن يكون كافيًا لمواجهة الضغوط الأمريكية. فالاتحاد الأوروبي، رغم قوته الاقتصادية، ليس بمعزل عن الأزمات في الوقت الراهن، إذ يواجه تحديات داخلية مثل صعود النزعات القومية والانقسامات بشأن سياسات الطاقة والدفاع. كما أن الشراكة التجارية بين كندا وأوروبا، رغم تطورها، لا يمكنها تعويض الوزن الهائل للسوق الأمريكية، حيث تظل واشنطن الوجهة الأولى للصادرات الكندية بفارق كبير عن أي شريك آخر.
لذلك، فإن استراتيجية كارني لا يجب أن تقتصر على تنويع الشراكات فحسب، بل تحتاج إلى إدارة ذكية للعلاقة مع واشنطن، بحيث يتم تحقيق أكبر قدر من الاستقلالية دون الدخول في مواجهة مباشرة مع إدارة ترامب.
ملفات تنتظر حلول
رغم التصريحات المتكررة من الرئيس الأمريكي تجاه كندا، والتي تلمح برغبة في جعلها الولاية الأمريكية الحادية والخمسين، إلا أن الأمر على الأغلب لا يتعلق برغبة حقيقية في “احتلالها” ، بقدر ما هو جزء من أسلوب ترامب التفاوضي المعتاد عبر اتباع سياسة الصغط القصوى، الاقتصادية منها والسياسية للحصول على تنازلات من الخصوم والحلفاء على حد سواء. وفي هذا السياق، فإن كارني يواجه تحديًا حقيقيًا، حيث يتعين عليه التعامل مع هذه الضغوط بحذر لحماية المصالح الكندية ومنع أي تصعيد قد يضر بالاقتصاد أو يضعف موقف حكومته. علاوة على ذلك فإن ثمة قضايا رئيسية سيحدد نهج كارني في التعامل معها – من خلالال تهدئة أو التصعيد- شكل العلاقات مع واشنطن، وهم:-
١-الرسوم الجمركية
يشكب التبادل التجاري بين كندا وأمريكا عصب الاقتصاد الكندي، وهو ما يجعل تهديد ترامب بفرض رسوم جمركية مرتفعة قد يشكل ضربة موجعة لعدة قطاعات، خاصة التصنيع والطاقة والسيارات. ونتيجة لذلك فإن هذه الإجراءات ستؤدي إلى ارتفاع التكاليف على الشركات الكندية، مما قد يؤثر على الوظائف والنمو الاقتصادي. في المقابل، لدى كارني خيارات للرد، لكنه سيحتاج إلى استراتيجية متزنة لتفادي الدخول في دوامة انتقامية من التعريفات المتبادلة.
٢-أمن الحدود والضغوط الأمريكية
يرى ترامب أن الحدود الكندية الأمريكية تمثل مصدر قلق أمني، خاصة فيما يتعلق بتهريب المواد المخدرة والهجرة غير الشرعية، حيث أعلنت حكومة رئيس الوزراء السابق جاستن تورودو بالفعل عن إجراءات لتعزيز أمن الحدود، لكن إدارة ترامب مستمرة في المطالبة بتدابير أكثر صرامة، مما قد يضع أوتاوا في موقف صعب بين تحقيق التوازن بين أمنها القومي وبين تجنب تحول الحدود إلى نقطة خلاف دائمة مع واشنطن.
٣-الإنفاق الدفاعي والعلاقة مع الناتو
مارست الولايات المتحدة على كندا صغوط كبيرة لزيادة إنفاقها الدفاعي، ويبدو أن إدارة ترامب ستكون أكثر تشددًا في هذا الملف. وتجدر الإشارة إلى أن كندا وضعت خططًا لتعزيز قدراتها العسكرية، خاصة في القطب الشمالي، لكن من غير الواضح إن كانت هذه الخطوات ستلبي مطالب ترامب أم لا، حيث أنه إذا أصرت إدارة ترامب على رفع سقف المطالب، فقد تجد كندا نفسها مضطرة لاتخاذ قرارات صعبة بشأن أولوياتها الدفاعية وتحالفاتها الدولية[4].
وبشكل عام، فإن أسلوب مارك كارني في التعامل مع إدارة ترامب بشأن هذه الملفات الحيوية سيشكل عاملاً حاسمًا في تحديد طبيعة العلاقة بين البلدين خلال الفترة القادمة، حيث اختيار كارني للنهج الدبلوماسي قد يضمن لكندا تسويات مقبولة تحافظ من خلالها على مصالحها الاقتصادية والأمنية، مع تجنب تصعيد قد يضر بالاستقرار الداخلي لحكومته. في المقابل، إذا قرر المواجهة والتصعيد، فقد يدخل في صدام مع إدارة أمريكية لا تتردد في فرض شروطها بوسائل الضغط الاقتصادي والسياسي.
إجمالًا
تواجه كندا في ظل قيادة مارك كارني اختبارًا حاسمًا في إدارة علاقاتها مع الولايات المتحدة، خاصة في ظل التحديات الجيوسياسية والاقتصادية التي تعيد تشكيل موازين القوى الدولية. فبينما تسعى أوتاوا إلى تعزيز استقلالية قرارها الاقتصادي والدبلوماسي، تظل المصالح الاستراتيجية المشتركة مع واشنطن عاملاً حاسمًا في رسم سياساتها الخارجية، خصوصًا أنها مقبلة على انتخابات برلمانية قد تؤثر نتائجها على توجهات السياسة الكندية تجاه واشنطن.
لذا فإن نجاح كارني في هذا الملف يتطلب نهجًا توافقيًا يجمع بين تأمين المصالح الوطنية الكندية والحفاظ على شراكة متوازنة مع الولايات المتحدة، وهو ما يستدعي استراتيجية قائمة على البراجماتية الاقتصادية والمرونة الدبلوماسية. فالرهان على تعميق العلاقات مع الأسواق الأوروبية والآسيوية قد يمنح كندا هامشًا أوسع للمناورة، لكنه في الوقت ذاته يفرض عليها إدارة دقيقة للضغوط الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بملفات الطاقة، والرسوم الجمركية، والتعاون الدفاعي.وفي ظل هذه التحديات، يبقى الحفاظ على استقرار العلاقات مع واشنطن أولوية لا يمكن تجاهلها، خصوصًا أن أي اضطراب في هذه العلاقة قد ينعكس مباشرة على الاقتصاد الكندي.
