بعد سنواتٍ من الأزمات والتوتُّرات الدبلوماسية، توجَّه الرئيسُ الفرنسيُّ إيمانويل ماكرون إلى الرباط، في زيارةٍ تستمرُ لثلاثة أيام، من 28 إلى 30 أكتوبر 2024، في خطوةٍ تعكسُ رغبةً جادَّةً في إعادة بناء جسور التواصُل بين “باريس، والرباط”، وتجاوز ثلاث سنوات من الخلافات، وتُعتبرُ هذه الزيارة ذات أبعادٍ إستراتيجية لكلا البلديْن؛ حيث يترقَّبُ المغرب – بآمالٍ عريضةٍ – تكريس فرنسا مواقفها الثابتة حِيَال قضية الصحراء وتعزيز مبادئ الاحترام المتبادل؛ في مقابل سعْي فرنسا إلى تجديد علاقاتها مع مستعمراتها السابقة، وإرساء شراكةٍ اقتصاديةٍ إستراتيجية، تدعم التعاون المشترك.
تحسُّن العلاقات الدبلوماسية بعد سلسلةٍ من التوتُّرات:
تُعتبر هذه الزيارة تجسيدًا ملموسًا لتحسُّن العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وفرنسا، عقب إعلان الرئيس إيمانويل ماكرون، في نهاية يوليو الماضي، دعمه لمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، الذي قدَّمته الرباط بخصوص الصحراء الغربية المتنازع عليها، وأكَّد ماكرون، أن “حاضر ومستقبل الصحراء الغربية ينْدَرِجَان في إطار السيادة المغربية”؛ ما أرسى دعائمَ جديدةً لهذه العلاقات بعد فترة من الفُتُور الدبلوماسي، الذي شهده البلدان في السنوات الأخيرة.
تجدر الإشارة إلى أن الرباط قد مارست ضغوطًا على باريس؛ لتتبنَّى موقفًا يُوازِي ما أقدمت عليه واشنطن من اعترافٍ بسيادة المغرب على هذا الإقليم، في أواخر عام 2020، في سياق استئناف العلاقات الدبلوماسية بين “المغرب، وإسرائيل”، وقد دعا الملك محمد السادس، في خطاب عام 2022، “بعض الدول من شركاء المغرب التقليديِّين”، إلى توضيح مواقفها ومراجعة مضمونها، بشكلٍ لا يقبل اللبْسَ بخصوص نزاع الصحراء الغربية.[1]
وفي خِضَمِّ هذه الضغوط المغربية، سعى ماكرون إلى تعزيز العلاقات مع الجزائر، التي كانت قد قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع الرباط، في عام 2021؛ ما أثار استياءً بالغًا في المغرب، إضافةً إلى التوتُّرات الناتجة عن أزمة التأشيرات والاتهامات بالتجسُّس، كما أثار التعامُل الفرنسي مع كارثة الزلزال الذي ضرب منطقة الأطلس الكبير، في 8 سبتمبر من العام الماضي، حينما رَفَضَ المغربُ تلقِّي مساعدات من عِدَّة دول، بما في ذلك فرنسا، مزيدًا من التعقيدات في العلاقات الثنائية التي تميَّزت بالتوتُّرات والمصالح المتشابكة.[2]
تَبِعَات اقتصادية بعد الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء:
تسبَّبت هذه التوتُّرات الدبلوماسية في تأجيل زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى المغرب عدة مرات، علمًا أنه لم يَزُرْ المملكة منذ عام 2018، غيْر أن الاعتراف الفرنسي الرسمي بسيادة المغرب على الصحراء، طَوَى هذا الخلاف؛ ليعلن قصر الإليزيه في نهاية سبتمبر الماضي، عن تلقِّي ماكرون دعوةً رسميةً من الملك محمد السادس لزيارة المملكة؛ لتشير عودة الدِّفْء إلى العلاقات الثنائية في أعقاب هذه الدعوة إلى فتْح آفاقَ جديدة أمام الشركات الفرنسية المتضررة من التوتُّرات الأخيرة؛ حيث يمكن أن تُسْهِمَ هذه العلاقات المتجددة في تعزيز التعاون التجاري والاستثماري، فمن اللافت أنه بعد يوميْن من الإعلان الرسمي عن رسالة ماكرون الأخيرة- الاعتراف بمغربية الصحراء- حقَّقت شركة “إيجيس” الفرنسية للهندسة، بالتعاون مع شركة “سيسترا” وشركة “نوفيك” المغربية، انتصارًا ملحوظًا بفوْزها بعقْدٍ لمدِّ خطِّ السكك الحديدية السريعة بين مدينتيْ “القنيطرة، ومراكش”.
وقد بدأت شركات فرنسية ومغربية التعاون في مشاريع بالصحراء الغربية، من بينها مجموعة “إنجي” الفرنسية للطاقة، التي تعمل حاليًا بالشراكة مع “ناريفا” المغربية، على إنشاء محطةٍ لتحلية مياه البحر في مدينة الداخلة؛ إذ تُعتبر الصحراء الغربية، الغنيَّة بالموارد الهائلة في مجال الطاقة الشمسية والرياح، منطقةً إستراتيجية للنمو الاقتصادي في المغرب، الذي يتجه نحْو تعزيز استخدام الطاقات المتجددة، ويأمل في إيجاد موقعٍ له في سوق الهيدروجين الأخضر؛ وعليه تؤكد هذه التطوُّرات تحوُّلًا إيجابيًّا في العلاقات الثنائية، وتبشر بمستقبلٍ واعدٍ من التعاون الاقتصادي.[3]
اتفاقيات إستراتيجية تُعزِّزُ التعاون «الفرنسي – المغربي» بعد الزيارة:
في اليوم الأول من الزيارة، الموافق 28 أكتوبر، تمَّ توقيع اتفاقيات استثمارية، تقدر قيمتها بـ10 مليارات يورو، تغطي مجموعةً من القطاعات الإستراتيجية؛ منها النَّقْل السككي؛ إذ ستلعب شركتا “ألستوم، وإيجيس” الفرنسيتان، دورًا مِحْوَريًّا في توسعة الخطِّ فائق السرعة الذي يربط بين “طنجة، ومراكش”.
أمَّا في قطاع الطاقة، فقد تمَّ التوقيع على اتفاقيةٍ مهمةٍ، تتعلق بالهيدروجين الأخضر بين “شركة توتال إنجي، والحكومة المغربية”؛ ما يُعزِّزُ مكانة المغرب في سوق الطاقات المتجددة، ويُسْهِمُ في تحقيق الأهداف البيئية العالمية، وفي مجال الطيران، أبرمت شراكة بين شركة “سافران” الفرنسية والمغرب؛ لإنشاء وحدة متخصصة في صيانة محركات الطائرات؛ ما يدعم جهود المغرب في تطوير صناعة أجزاء الطائرات، ويُعزِّزُ من قدراته التنافُسية في هذا القطاع.[4]
كما تمَّ توقيع اتفاقية في مجال النقل البحري بين شركة “سي إم أيه سي جي إم” الفرنسية و”مارسا ماروك” المغربية؛ لاستغلال ميناء الناظور ، لمدة 25 عامًا، وفي سياق تعزيز الشراكة، وقَّع الجانبان إعلانًا مشتركًا، يؤكد على إقامة “شراكة وطيدة استثنائية” تقوم على مبادئ المساواة في السيادة وعدم التدخُّل في الشؤون الداخلية.[5]
كما أكَّد ماكرون خلال كلمته أمام البرلمان المغربي، الثلاثاء ٢٨ أكتوبر، على موقف فرنسا الداعم للمغرب في قضية الصحراء قائلًا: ” إن الحاضر والمستقبل في أراضي الصحراء ينْدَرِجَان تحت سيادة المغرب”.
ومن المنتظر أن يتمَّ تناول التحدِّيات التي تواجه أوروبا، خاصَّةً فرنسا، في مكافحة الهجرة غير النظامية، عبْر ضِفَّتيْ البحر المتوسط، وهي نقطة خلافٍ بين الدولتيْن مُنْذُ عِدَّة سنوات، وفي اليوم الأخير من الزيارة، الذي يوافق الأربعاء 30 أكتوبر 2024، سيُعقدُ لقاءٌ لمناقشة الأمن الغذائي والزراعة المُسْتَدَامة في أفريقيا، مع طلاب مغاربة وأفارقة، في مؤسسة المكتب الشريف للفوسفاط.
في الختام:
يتضح جليًّا، أن المرحلة المقبلة تتطلب من فرنسا التزامًا جادًّا، نحْو تعزيز الثِّقَة وبناء شراكاتٍ إستراتيجية متينة مع المملكة المغربية؛ إذ إن اعتماد باريس لموقفٍ واضحٍ بشأن قضية الصحراء الغربية، أسهم في تخفيف التوتُّرات وتكريس الاحترام المتبادل، ولكنه في الوقت نفسه يفاقم من استياء الجزائر، التي سحبت سفيرها من باريس؛ احتجاجًا على هذا الموقف، في يوليو الماضي، ومن ثمَّ مع توقيع اتفاقيات إستراتيجية جديدة بين المغرب وفرنسا، يبْرُزُ تحدٍ جديدٌ، يتمثَّلُ في إدارة تداعيات هذا التقارُب على العلاقات مع الجزائر؛ لذا من المتوقع أن تعمل باريس على تحقيق توازُنٍ دقيقٍ؛ لتفادي تفاقُم التوتُّرات الإقليمية، مع السعْي نحْو شراكةٍ مُسْتَدَامةٍ تُعزِّزُ المصالح المشتركة، وتساهم في الاستقرار الإقليمي.
المصادر:
[1] ماكرون يزور المغرب أواخر أكتوبر، صحيفة الشرق الأوسط، 21 أكتوبر 2024.
