مع إعلانِ سقوطِ نظام الرئيس السابق بشار الأسد صباح يوم الثامن من ديسمبر الجاري، دخلت سوريا مرحلةً جديدةً قد تكونُ محوريةً في تاريخها المعاصر، بعد سنواتٍ طويلةٍ من النزاع والعنف، هذا التحولُ الجذري يثيرُ تساؤلاتٍ عديدةً بشأن مآلات الوضع الداخلي في البلاد، وكيفية تأثير هذه التغيرات على الواقع الإقليمي.
وفي ظل هذا المشهد، يتوجّبُ إدراك التحولات التي قد تحدث داخليًا، وما إذا كانت ستساهمُ في استعادةِ الاستقرارِ وبناء نظامٍ سياسيٍ جديدٍ يحقق تطلعات الشعب السوري، أو إذا ما ستؤدي إلى صراعاتٍ جديدةٍ بين القوى المختلفة. وفي الوقت نفسه، ستكون التأثيراتُ الإقليميةُ لسقوط الأسد بالغةَ الأهمية، إذ ستُعيدُ تشكيلَ التوازنات الإقليمية، مما قد يغير ديناميات القوى في الشرق الأوسط ويؤثر على مصالح الدول الكبرى في المنطقة.
المشهدُ الراهن:
أعلنت المعارضة السورية “تحرير مدينة دمشق” وبداية “عهد جديد” في البلاد، وترافقَ البيانُ مع إطلاق سراح المعتقلين وإعلانِ الحفاظِ على ممتلكات الدولة، وجاءَ هذا الإعلانُ بعد مغادرة الرئيس السابق بشار الأسد العاصمة السورية دمشق إلى وجهةٍ غير معلومةٍ، مما خلقَ حالةً من الفراغ القيادي في البلاد. من جانبها، أبدت الحكومة السورية السابقة، بقيادة رئيس الوزراء محمد غازي الجلالي، استعدادها للتعاون مع أي قيادةٍ جديدةٍ، مؤكدةً على أهمية انتقال الملفات الحكومية بشكلٍ سلس، وداعية إلى الحفاظ على مؤسسات الدولة.
من جانبها، أكدت “هيئة تحرير الشام” التي تقودُ ما يسمى بــ”إدارة العمليات العسكرية” لفصائل المعارضة المسلحة، أن المؤسساتِ العامةَ ستظلُ تحت إشراف رئيس الوزراء السابق إلى حين تسليمها رسميًا، وأعلنت أنها لن تسمحَ بالاقترابِ من هذه المؤسسات. وفي هذا السياق، صرَّحَ بدر جاموس، رئيس هيئة التفاوض السورية المعارضة، بأن المرحلة المقبلة ستكونُ مرحلةَ بناءٍ وليس انتقامًا، مشددًا على ضرورة الحوار مع جميع الأطراف لتشكيل دولة وطنية، داعيًا إلى خروج جميع القوات الأجنبية من سوريا وتشكيلِ جيشٍ وطنيٍ.
تحولاتُ الداخلِ السوري بعد سقوط الأسد:
سيؤدي سقوط بشار الأسد إلى تحولاتٍ جوهريةٍ في الداخل السوري، حيث ستواجهُ البلادُ تحدياتٍ هائلةً في إعادة البناء السياسي والاجتماعي، حيث يشير غياب النظام إلى فراغ قيادي قد يؤدي إلى صراعات بين الفصائل المعارضة المختلفة، وعلى الرغم من أن المعارضةَ قد أعلنت عن “عهد جديد”، إلا أن هذه الدعوات لبناء “سوريا للجميع” قد تكونُ مهددةً بالخلافات الداخلية بين الفصائل العسكرية والسياسية، مثل تلك الموجودة بين “هيئة تحرير الشام” والجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا.
ومع احتمالية تنظيم انتخاباتٍ مستقبليةٍ، قد تواجهُ سوريا صعوبةً في إعادة بناء مؤسساتها، فلا شك أن الفوضَى الأمنيةَ في العديد من المناطق، إلى جانب انعدام الثقة بين مكونات المجتمع السوري المختلفة، سيشكلان عقبةً أمام أيِّ تقدمٍ في عملية بناء دولةٍ مدنيةٍ حقيقيةٍ، لكن سيظل التركيز على عودة الاستقرار الداخلي أحد أولويات الحكومة المؤقتة أو النظام الجديد الذي سيظهر في أعقاب سقوط الأسد.
من جهةٍ أخرى، من المتوقع أن تشهدَ سوريا محاولاتٍ لبناء هياكل حكومية جديدة تستندُ إلى العدالة الانتقالية وتقديمِ محاكماتٍ قانونيةٍ للرموز السابقة في النظام، إلا أن هذه المرحلة ستكون محفوفةً بالتحديات، مثل ضمان استمرار الخدمات الحكومية وحماية مؤسسات الدولة من الانهيار. بالتالي، فإن الحاجةَ إلى الحوار بين الأطراف المتنافسة قد تكونُ حاسمةً لضمان استقرار الدولة في فترة ما بعد الأسد، مما يتطلبُ توافقًا بين قوى المعارضة المختلفة وكذلك مع الأطراف الدولية الفاعلة.
التأثيراتُ الإقليميةُ لسقوط الأسد:
سقوطُ بشار الأسد سيُحدثُ تأثيراتٍ كبيرةّ على المستوى الإقليمي، حيث سيغير بشكلٍ جذريٍ التوازنات القائمة في الشرق الأوسط. أولاً، تُعتبرُ إيران أكبر حليف للنظام السوري، وسيشكلُ سقوطُ الأسد ضربةً قاسيةً لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة، حيث ستفقد إيران نفوذها في سوريا، مما سيؤثر على قدرتها على توسيع مشروعها الإقليمي. من جهةٍ أخرى، قد تكون روسيا في موقفٍ حرجٍ، حيث ستفقد حليفًا أساسيًا في المنطقة، وبالتالي سيتعين عليها إعادةُ تقييم سياستها في الشرق الأوسط.
بالنسبة لتركيا، فإن سقوطَ الأسد قد يوفرُ لها فرصةً لاستعادة بعض النفوذ في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية من سوريا، حيث تواجهُ تحدياتٍ متعلقةً بالقوات الكردية المدعومة أمريكيًا. بينما ستكون هناك قوى إقليمية أخرى، مثل دول الخليج، في وضع مشابه، إذ ستعمل على استثمار التغيرات لصالحها من خلال دعم المعارضة أو محاولة فرْضِ سيطرتها في المناطق التي قد تشهدُ تحولاتٍ سياسيةً واجتماعيةً.
على الصعيد الأمني، سيشكّلُ سقوط الأسد تحفيزًا لتنظيمات متطرفة قد تحاول الاستفادة من الفراغ الأمني لتعزيز وجودها في سوريا، خاصةً مع وجود خلايا نائمةٍ لتنظيم “داعش” الإرهابي سواء في مدينة إدلب أو في المناطق التي كانت تحت سيطرة النظام السابق. علاوةً على ذلك، قد يشهدُ المجتمعُ الدولي ضغوطًا متزايدةً لتنسيق جهود الإعمار، لكن هذه الجهود ستكونُ معقّدةً بسبب الوضع الأمني والسياسي غير المستقر، بالتالي ستظل التأثيرات الإقليمية لسقوط الأسد تتشكل بناءً على كيفية تفاعل القوى الإقليمية والدولية مع الواقع الجديد في سوريا وكيفية تحديد الأطراف الفاعلة لمستقبل هذا البلد.
ملامحُ المشهد المستقبلي في سوريا:
مع سقوط نظام الأسد، ستكونُ سوريا لأول مرةٍ خاليةٍ من حكمٍ عَلويٍ شيعي، ما قد يغير الديناميات الطائفية في المنطقة، مما سيؤدي إلى نهاية التواجد الأمني والعسكري الإيراني الذي كان جزءًا رئيسيًا من دعم النظام، الذي يتزامنُ مع تقلص النفوذ الإيراني في المنطقة بعد خسائرها في المنطقة نتيجةَ الضربات الإسرائيلية لمحور المقاومة، مما يساهمُ في تخفيفِ التوترات الطائفية والإقليمية، ويفتحُ المجالَ لصياغةِ نظامٍ سياسيٍ جديدٍ يحتمل أن يكون أكثر توافقًا بين الطوائف والأعراق السورية، رغم أن الانتقال قد يكون محفوفًا بالصعوبات بسبب التهديدات الأمنية المتبقية.
من المتوقع أن تواجهَ سوريا تحدياتٍ كبيرةً في إنشاء نظامٍ سياسيٍ جديدٍ قائمٍ على التعددية والديمقراطية، خاصة في ظل التنوع الطائفي والإثني في البلاد، حيث سيكون من الضروري تشكيلُ حكومةٍ انتقاليةٍ تضمُ جميعَ الأطراف، مع ضمان تمثيلٍ فعّالٍ للقوى المعارضة المختلفة. ومع ذلك، قد تكون هناك صعوباتٌ في تحقيق توافق بين الفصائل المختلفة مثل هيئة تحرير الشام، والجيش الوطني السوري، والمجموعات الكردية، مما قد يؤدي إلى صراعات داخلية، ويعقّدُ جهود تشكيل حكومة موحدة أو انتقال سياسي مستدام.
ورغم جهود المعارضة – المعلنة – لتجنّبِ تحول سوريا إلى دولة ميليشيات، قد تواجهُ البلادُ صعوباتٍ في بناء جيشٍ وطنيٍ موحدٍ بسبب تباين المصالح بين القوى الداخلية والخارجية، وهذه التحديات قد تؤدي إلى بروز مناطق نفوذ متعددة في سوريا، بعضها تحت سيطرة القوى الكردية، وأخرى تحت سيطرة المجموعات المسلحة المدعومة من تركيا أو دول أخرى. أما في حال عدم التوصل إلى اتفاقٍ سياسيٍ شاملٍ، فقد تواجه سوريا وضعًا مشابهًا للفوضى التي عانت منها بعد عام 2011، مع زيادة نشاط الجماعات المتطرفة ومشكلات أمنية أخرى. كما تظلُ هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) المصنفةُ دوليًا كجماعةٍ إرهابيةٍ غير مرحّبٍ بها دوليًا أو إقليميًا لتولي السلطة في سوريا، رغم نجاحها في السيطرة على بعض المناطق، وهذا يبرز التحديات التي تواجه المستقبل السوري.
كذلك ستكونُ عودةُ اللاجئين أحدَ التحديات الأساسية، إذ سيتطلبُ الأمرُ ضماناتٍ أمنيةً واقتصاديةً لتشجيع العودة الطوعية، كما ستحتاج سوريا إلى دعم دولي واسع لإعادة إعمار المناطق المتضررة وتأهيل البنية التحتية، مما يتطلبُ تنسيقًا بين الدول المانحة والحكومة الجديدة. كما من المتوقع أن تواجه سوريا أزمةً اقتصاديةً حادةً تتطلبُ مساعداتٍ دوليةً واسعةً، حيث ستعتمد عملية إعادة بناء الاقتصاد على استثمارات خارجية وتوفير موارد مالية من المجتمع الدولي، وهو ما قد يكون مشروطًا بتطبيق إصلاحات سياسية واقتصادية.
وعلى الصعيد الخارجي، ستظل القوى الإقليمية والدولية تلعبُ دورًا كبيرًا في تشكيل مستقبل سوريا، حيث من المحتمل أن تسعى إيران لتقليص دورها في البلاد بسبب الخسائر التي مُنيتْ بها، بينما قد تسعى روسيا إلى تعزيز موقفها كوسيطٍ رئيسيٍ في عملية التسوية السياسية وتأمين مصالحها في سوريا، لكنها سوف تواجهُ صعوبةً في التأثير الفعلي على الانتقال السياسي أو الاستقرار طويل الأمد.
كما ستواصل تركيا معارضةَ الدور الكردي في سوريا، وستسعى لتعزيز نفوذها في المناطق الشمالية. بالتالي، قد تواجهُ المناطقُ الكردية تحدياتٍ في محاولتها الحفاظ على مكاسبها في ظل وجود القوات التركية والضغط الإقليمي، ومن المرجح أن تظلَ هناك توتراتٌ بين القوات الكردية وتركيا، مما قد يؤثر على استقرار المناطق المحاذية للحدود التركية السورية وبالأخص المناطق الشمالية الشرقية من سوريا.
أما على الصعيد الداخلي التركي، سيستفيدُ الرئيسُ أردوغان وتحالفُه الحاكم بشكلٍ كبير من سقوط نظام الأسد، إذ من المتوقع أن يؤديَ هذا التحولُ إلى عودة أعدادٍ كبيرةٍ من اللاجئين السوريين إلى وطنهم، مما سيسهم في تخفيف الضغوط الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن تواجدهم الطويل في المخيمات والأحياء المتكدسة داخل المدن التركية الكبري، كما أن عودة اللاجئين إلى مناطقهم خاصة في شمال سوريا ستعزز من استقرار هذه المناطق وتفتح أمام تركيا فرصًا أكبر في توسيع نطاق نفوذها وتأمين مصالحها الأمنية والاقتصادية.
علاوةً على ذلك، سيعززُ سقوط الأسد من النشاط التجاري والاقتصادي بين تركيا وسوريا، خاصة في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية التي تديرها تركيا بشكلٍ غير مباشر. في هذا السياق، يُتوقعُ أن تقود أنقرة عملية إعادة الإعمار، مستفيدةً من العلاقات الاقتصادية الراسخة بينها وبين بعض الفصائل السورية الداعمة لها، الأمرُ الذي سيؤدي إلى زيادة حجم الاستثمارات التركية في هذه المناطق، ويعزز من قدرة الحكومة التركية على تحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية.
والجدير بالذكر أن العديدَ من المناطق السورية، لا سيَّما تلك الواقعة تحت سيطرة الجيش الوطني السوري، تتعامل بالليرة التركية وتخضع لإشراف مؤسسات إدارية تركية تنظمُ شؤونها بالتعاون مع العناصر السورية الموالية لها، وهذا التعاونُ لا يقتصرُ على المجالات الاقتصادية فقط بل يمتد إلى إدارة التعليم والصحة والخدمات العامة. إلى جانب ذلك، فإن تعزيزَ الدور التركي في هذه المناطق من شأنه أن يعززَ من موقف أنقرة الإقليمي ويزيدُ من قدرتها على التأثير في الملفات السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط.
في هذا السياق، من المرجّح أن تسعى القوى الدولية والإقليمية إلى تشكيلِ حكومةٍ انتقاليةٍ تشملُ جميعَ الأطراف السورية، مع التأكيد على تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254 الصادر في 18 ديسمبر 2015، والمعطل تنفيذه منذ تسع سنوات، والذي دعا إلى إجراء انتخابات برعاية الأمم المتحدة، وتشكيل حكومة انتقالية، والتحرك نحو تحقيق الانتقال السياسي، وهذا ما أكد عليه البيان المشترك لوزراء خارجية الدول العربية ومسار أستانا الذي انعقد في الدوحة في السابع من ديسمبر الجاري.
وختامًا:
في ضوء التحولاتِ التي أعقبتْ سقوطَ نظام بشار الأسد، تبدو سوريا أمام مفترقِ طرقٍ في تاريخها، وتظلُ الأسئلةُ مفتوحةً حول مدى قدرة البلاد على تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي، أو إذا ما ستواجه مزيدًا من الصراعات الداخلية بين القوى المتباينة التي تسعى لتحقيق مصالحها، كما ستلعبُ التأثيرات الإقليمية أيضًا دورًا كبيرًا في تشكيلِ المستقبل السوري، حيث ستعيد القوى الإقليمية والدولية تقييمَ استراتيجياتها لضمان مصالحها في هذا السياق المتغير.
لذا، يكمنُ التحدي الأكبر في كيفيةِ إدارة هذه التحولات بطرقٍ تضمنُ وحدةَ سوريا واستقرارها، وتفتحُ الباب أمام مرحلةٍ من البناء والتعاون الدولي الذي يحققُ التطلعاتِ المشروعةَ للشعب السوري في الأمن والازدهار.
