بعدَ اجتياحِ فصائل المعارضة السورية للعاصمة “دمشق” وانهيارِ نظامِ الأسد، باتَ المشهدُ السورى عُرضةً للعديد من التحولات لاسيَّما مع التوجه نحو معالجة تلك التيارات المسلحة خاصةً المقاتلين الأجانب الذين وفِدوا إلى الأراضى السورية وحاربوا خلال سنوات الحرب الأهلية التى بدأت مطلعَ العِقدِ الماضى، وانضموا إلى الفصائل المسلحة مثل “هيئة تحرير الشام” وغيرها أو الجماعات الجهادية رافعين شعار “نصرة الشعب السورى”، وعلى الرغم من عدم توافر معلوماتٍ دقيقةٍ حول عددهم الفعلى إلا أن التقديراتِ الرسميةَ تشير إلى أن تلك العناصر المدربةُ والخطرةُ تُقدرُ بالالآف فى الوقت الراهن ناهيك عن السجناء أو الذين سقطوا منهم خلال سنوات الصراع. وعليه يدورُ تساؤلٌ رئيسىٌ حول ما هو مصير هؤلاء المقاتلين فى الفترة المقبلة وسط الفراغ الأمنى فى سوريا المحفّز لتكثيفِ الأنشطة العنيفة، وتداعياته على دول المنطقة لاسيما مع ذيوعِ احتمالاتٍ بشأن عودتهم إلى بلدانهم الأصلية مرة أخرى؟
خارطةُ المقاتلين الأجانب فى سوريا:
تمثلُ النزاعاتُ المسلحة فى بعض الدول بيئةً جاذبةً نحو العديد من التغييرات منها استقطابُ ما يُعرفون بالمقاتلين الأجانب والذين يتمُّ تعريفهم وفقاً لأكاديمية جنيف للقانون الدولى الإنسانى وحقوق الإنسان على أنهم “الأفراد الذين يغادرون بلدهم الأصلى أو مكانَ إقامتهم الاعتيادى، بدافعٍ أيدولوجىٍ أو دينىٍ أو صلة قرابة أساساً، كجزءٍ من مجموعة متمردين أو مجموعة مسلحة من غير الدول فى نزاع مسلح”[1].
وعليه انضمَ عددٌ من العناصر ذوى الجنسيات المختلفة غير السورية إلى دائرة الصراع فى سوريا بعد عام 2011 لاسيما المقاتلين من آسيا الوسطى مثل “الإيغور، الألبان، الشيشانيون، الطاجيك، الأوزبك، التركستانيون، والقوقازيون” وأوروبا والشرق الأوسط مثل “تونس والمغرب ومصر” أغلبهم قاتلوا فى مناطقِ النزاعِ مسبقاً ضمنَ صفوفِ تنظيماتٍ مسلحةٍ ولديهم خبرةٌ قتاليةٌ، مدفوعون بأسبابٍ أيدولوجيةٍ أو سياسيةٍ أو اجتماعية أو اقتصادية من قبل جماعات جهادية أو مسلحة، منهم من نَشطَ تحت غطاء تلك الجماعات مثل “جبهة النصرة” و”تنظيم داعش” الذى استقطبَ آلافَ المقاتلين الأجانب من الدول الأوروبية والعربية عبر سلسلة اتصالات منظمة على شبكات الإنترنت قبل إعلان الخلافة.
بينما شكَّل آخرون جماعاتٍ عديدةً مثل “الحزب الإسلامى التركستانى لنصرة أهل الشام” الذى يضمُ عناصرَ الإيجور المنحدرين من إقليم شينجيانغ الصينى، و”جماعة التوحيد والجهاد”، و”كتيبة المجاهدين” و”جند الشام” و”جيش المهاجرين والأنصار” وغيرهم، وتمركز بعضٌ منهم فى شمال غرب “إدلب” وشمال شرق “اللاذقية” بعد توفير “هيئة تحرير الشام” ملاذاتٍ آمنةٍ لهم فى تلك المناطق المسيطرة عليها[2].
على صعيدٍ آخر فى شمال شرق سوريا وفِدَ بعضُ الأكراد الغير سوريين من مختلفٍ أنحاء الشرق الأوسط بما في ذلك أعضاء “حزب العمال الكردستاني” لدعم القوات الكردية السورية فى خضم تلك الحرب الطائلة وفقاً لتصريحات (مظلوم عبدي) القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، الذى زعمَ احتمالية مغادرة هؤلاء المقاتلين الأراضى السورية فى حال التوصل إلى وقف إطلاق النار في المواجهة مع تركيا بشمال سوريا[3].
دلالاتُ الخطر:
طرْحُ تجنيسِ المقاتلين الأجانب:
بالتركيز على المقاتلين الأجانب المتواجدين تحت غطاء هيئة تحرير الشام أو الفصائل المسلحة الأخرى، صرّحَ قائدُ إدارة العمليات العسكرية (أحمد الشرع)، المعروف سابقًا باسم أبو محمد الجولانى، أن المقاتلين الأجانب الذين دخلوا سوريا للقتال ضد النظام السوري وساعدوا الهيئة في الإطاحةِ بالحكومة السورية يمكنُ دمجُهم فى المجتمع من خلال السماح بالحصول على “الجنسية السورية” مكافأةً لهم على مساندة الشعب السورى فى حال الاتساق مع أيدولوجيةِ وقيمِ السوريين[4]، فى إشارةٍ إلى محاولة الهيئة لتعزيز نفوذها السياسى والديموغرافى عبر تجنيس هؤلاء المقاتلين المدربين من ذوى الكفاءة والخبرات القتالية المتقدمة وتهيئتهم داخل النظام العسكرى، ووفقاً لرؤى بعض الخبراء فإن إمكانيةَ تنفيذ ذلك التحرك تم انتهاجُه فى بعض الدول والجماعات المسلحة ويُستدلُ على ذلك عمليات “تجنيس الجهات المدعومة من إيران في العراق”[5]. ولكن يحملُ ذلك تحدياتٌ قانونية وسياسيةٌ مثل الرفض الدولى وتصنيف “هيئة تحرير الشام” بأنها جماعةٌ إرهابيةٌ فى الأصل وفى نفس الوقت له آثارٌ سلبيةٌ وتداعياتٌ عكسيةٌ على المدى البعيد لاسيما على المستوى الاستراتيجى أكثر من الحالة العراقية نظراً لتعقيد الحالة السورية وتداخل الجهات الفاعلة بها[6].
المقاتلون فى السجون “قنبلة موقوتة”:
مع تحريرِ آلافِ المعتقلين من السجون السورية مثل سجن “حمص” العسكري وسجن “صيدنايا” بعد انهيار النظام السورى عادتْ المخاوفُ بشأن التخطيط لعودةِ المقاتلين الأجانب لبلدانهم لاسيَّما المتشددين منهم الذين تمَّ الزجُّ بهم فى تلك السجون مسبقاً نتيجةً لقتالهم بصفوف التنظيمات الجهادية والمسلحة فى سوريا ضد نظام “بشار الأسد”[7]، وقد أبدتْ بعضُ الدول مثل “تونس” قلقها تجاه عودة هؤلاء إلى البلاد مرةً أخرى لما يمثلونه من خطر التطرف العنيف على الدولة التونسية، وعلى إثر عودة العلاقات بين البلدين منذ عامين كانت أولى الملفات التى طُرحتْ على الطاولة بينهما تتعلقُ بملف “الإرهابيين التونسيين فى السجون السورية”، وفى هذا السياق حذّرَ العميد (مختار بن نصر) الرئيس السابق للجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب من أن عودةَ المقاتلين تشكلُ تهديداً خطيراً على المنطقة المغاربية ككل وليس تونس فقط، كما أكد على توخى الحظر تجاه احتمال تسلل العائدين من سوريا، عبر منطقة جنوبي الصحراء المجاورة إلى تونس، والتي يتسللُ منها مئاتُ المهاجرين غير الشرعيين تحت غطاء أجهزةٍ إقليميةٍ ودولية[8]. ومن ناحيةٍ أخرى نشطت التحولاتُ فى سوريا من عودة تنظيم داعش لصفوفه وإعادة استقطاب جهادييه ممن تمَّ الإفراجُ عنهم لبناء قدراته البشرية وتكثيف عملياته الإرهابية وفقاً لتوجهات زعيم التنظيم (أبو حفص الهاشمى القرشى) مستغلاً حالة الانفلات الأمنى خلال الوضع الراهن[9].
التمركزُ على الحدود العراقية:
مع تقدمِ الفصائل المسلحة فى البلاد نوهت أحدى المصادر الأمنية العراقية إلى أن “المئات من المقاتلين الأجانب من أفغانستان وإيران وباكستان يمثلون الميليشياتِ الإيرانيةَ والفصائلَ العراقيةَ المنسحبين من سوريا باتجاه الأراضي العراقية مازالوا يتواجدون في مدينة القائم الحدودية”، وعليه تحاولُ العراقُ تأمين حدودها مع سوريا والحوْلَ دون تسلل أى عناصر أو مجموعات إلى الداخل العراقى مثلما حدث فى عام 2014 لاسيما بعد فتْحِ السجون وإطلاقِ بعض العناصر المتشددة، والسعى لفتْحِ باقى السجون القريبة من الحدود مع العراق التى تضمُ جيشاً من الإرهابيين، وذلك من خلال إرسال تعزيزاتٍ عسكريةٍ إلى الحدود واستعداد القوات الأمنية لمجابهة أى خطر محتملٍ وفقاً لتأكيد وزير الدفاع العراقى (ثابت العباسى) [10].
هاجسُ العودةِ إلى بلادانهم الأصلية:
تمثلُ عودةُ المقاتلين الأجانب إلى بلدانهم الأصلية وإعادةُ تأهيلهم وإدماجهم مرةً أخرى، خاصةً مع عدم اليقين بشأن مستقبل سوريا، حالة من الخطر لاسيما لدى الدول الأوروبية التى تعانى فعلياً تلك الفترة من التهديدِ الأمنى المعقّدِ مع انتشار حالات “الذئاب المنفردة” فعلى سبيل المثال أطلقت بريطانيا حالةَ التأهب والاستنفار الأمنى لاحتمالِ عودة المقاتلين فى صفوف داعش الذين تم إطلاق سراحهم من السجون في سوريا إلى بريطانيا[11]. أما بالنسبة لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحاولُ بعضها فرضَ قيودٍ أمنيةٍ مشددةٍ على القادمين من سوريا، حيث تصاعدت التحذيرات فى تونس من خطر عودة هؤلاء على الأمن القومى للبلاد والمطالبة باستعداد تونس لمثل هذا السيناريو المحتمل عبر وضْعِ خططٍ أمنيةٍ مُحكمةٍ ، ناهيك المقاتلين المنحدرين من دول مثل مصر وليبيا والمغرب والجزائر وموريتانيا والأردن والعراق، ولعل اجتماعاتِ “العقبة” حول سوريا التى عُقدتْ فى اليوم الموافق 14 من الشهر الجارى طالبت الدول العربية وتركيا والولايات المتحدة بألا تشكل الأراضي السورية خطراً على أيةِ دولةٍ أو ملاذاً للإرهابيين للحول دون “تصدير النموذج” فى دول أخرى يخيم عليها الصراع[12].
مما سبق؛ أثارتْ قضيةُ المقاتلين الأجانب فى سوريا مخاوفَ أمنيةً خطيرةً لاسيما مع اتهامهم بدعم الإرهاب، وتحيل ضبابية الوضع الحالى إلى طَرْحِ سيناريوهاتٍ مختلفة لوضْعِ هؤلاء يشير الأول إلى عودتهم إلى بلدانهم الأصلية أو انتقالهم إلى ساحاتٍ جديدةٍ غارقةٍ فى الصراع المسلح، بينما يطرح الثانى خضوعهم إلى سلطة “هيئة تحرير الشام” وإلقاء السلاح وتجنيسهم فى المجتمع لاسيَّما مع رغبة الهيئة فى أن يكونَ لها وجودٌ سياسىٌ فى النظام السورى، وبشكلٍ عام يواجهُ كلا السيناريوهين صعوبةً فى المستقبل القريب لاسيما مع عدمِ وجودِ ضماناتٍ على إمكانية احتواء هؤلاء المقاتلين وبزوغِ مشكلةٍ تتعلقُ باتساق أهدافهم وتوجهاتهم فى الإبقاء داخل سوريا، الأمرُ الذى يُلقى بظلاله على خطرٍ أمنىٍ واضحٍ بالنسبة للمجتمع السورى الذى عانى من ويلاتِ الحرب وكذلك دول الجوار.
المصادر:
[1]“Foreign Fighters under International Law”, Geneva Academy of International Humanitarian Law and Human Rights ,ACADEMY BRIEFING No. 7, October 2014, Available on:
[6] Farzon Muhammadi and Others, “The Foreign Militants Among The Ranks Of Syria’s New Rulers”, Radio Free Europe/Radio Liberty, 13 December 2024, Available on:
