المقالات
ما هي أبعاد الخلاف بين موريتانيا ومالي؟ وما مصير العلاقات بينهما؟
- مايو 13, 2024
- Posted by: Maram Akram
- Category: تقارير وملفات تقدير موقف وحدة الدراسات الأفريقية
إعداد: ريهام محمد
باحثة في العلوم السياسية
وسطَ تحولاتٍ سياسيةٓ عميقةٍ تمرُ بها منطقةُ الساحل والصحراء في أفريقيِا، شهدتْ العلاقاتُ بين ماليِ وموريتانيا في الآونةِ الأخيرةِ تأزماً كبيرا تجاوزَ الجانبَ السياسيَ إلى الأمنيِ، خاصةً معَ دخولِ قوات من الجيشِ الماليِ مدعومة بعناصرَ من مجموعةِ فاغنرَ الروسية إلى الأراضيِ الموريتانيةِ، وليستْ تلكَ المرةُ الأولى التي تندلعُ فيها مثلُ هذه الأزمة، حيثُ عرفَ الشريطُ الحدوديُ الواقعُ بينَ البلدينِ طيلةَ السنواتِ الماضيةِ عدداً كبيراً منْ حالاتِ الصراعِ بعضِها بسببِ المشاكلِ القبليةِ، وأخرىَ بسببِ الرعيِ، وأحياناً أخرى دونَ أسبابٍ معروفةٍ، فما هي أبعادُ الخلافِ بينَ موريتانَيا ومالي، وما مستقبلُ العلاقاتِ بينهمَا في ظلِّ التطوراتِ الأخيرةِ؟
جذورُ الأزمةِ الراهنةِ في موريتانيَا ومالي:
في ينايرَ 2023، أفضتْ الأنباءُ عن مقتلِ سبعةِ رعاةٍ موريتانيينَ على يدِ القواتِ الماليةِ داخلَ الأراضيِ الماليةِ إلى اندلاعِ مظاهراتٍ في ولايةِ عدل بكرو الموريتانية (1100 كم شرق نواكشوط) للمطالبةِ بحمايةِ الحكومةِ للمواطنينَ والحفاظِ على الأمنِ، وعليهِ أرسلتْ السلطاتُ الموريتانيةُ وفداً إلى باماكو للتحقيقِ في خلفياتِ وملابساتِ الحادثِ، وتعهدَ وزيرُ الداخليةِ واللامركزيةِ في مالي بتعميقِ التحقيقِ واعتقالِ الجناةِ، مع استبعادهِ لأنْ يكونَ الجيشُ وراءَ هذه الأعمال واتهم ما يسمىَ بحزبِ الماسونيينَ بأنهُ العقلُ المدبرُ، وفي الوقتِ نفسهِ، حاولتْ وسائلُ الإعلامِ التابعةِ للحكومةِ العسكريةِ توجيهَ أصابعِ الاتهامِ إلى أجهزةِ الاستخبارات الفرنسيةِ، مشيرةً إلى أنهَا تهدفُ إلى إفسادِ العلاقاتِ بينَ البلدينِ الشقيقينِ.
وبعدَ أقلِ من شهرينِ منَ الحادثِ السابقِ، في مارس ٢٠٢٣ قُتل عددٌ منَ الموريتانيينَ داخلَ الأراضيِ الماليةِ، وأعلنَ الناطقُ الرسميُ باسمِ المجلسِ العسكريِ الحاكمِ في باماكو عنْ فتحِ تحقيقٍ وإرسالِ وفدٍ إلى نواكشوط لتوضيحِ ما حدث، وعليه استدعتْ وزارةُ الخارجيةِ الموريتانيةِ السفيرَ الماليَ للاحتجاجِ الشديدِ على تكرارِ الأعمالِ الإجراميةِ التي قامَ بهَا الجيشُ الماليُ النظاميُ مؤخراً ضدَّ المدنيينَ الأبرياءِ والعزلِ على الأراضيِ الماليةِ، تبعهُ انسحابُ باماكو من مجموعةِ “دولِ الساحلِ الخمسِ” في مايو 2022 نتيجةَ عدمِ التناغمِ مع سياسةِ السلطةِ في نواكشوط، ويذكرُ أن موريتانَيا ومالي تشتركانِ في حدودٍ يبلغُ طولهُا أكثرَ من ألفيِ كم، ونظراً لغيابِ المراقبةِ الأمنيةِ على الحدودِ الشاسعةِ بينهَما تتوغلُ عادةً عناصرُ الجماعاتِ المسلحةِ المرتبطةِ بتنظيميِ داعشَ والقاعدةِ إلى داخلِ الأراضيِ الموريتانيةِ بعدَ كلِ عمليةِ ملاحقةٍ يقومُ بها الجيشُ الماليُ.
وعليه؛ ظلتْ العلاقاتُ بينَ البلدينِ متوترةً بسببِ الحوادثِ على الحدودِ والخلافاتِ حولَ القضايَا الإقليميةِ والمواقفِ من فرنسَا، وبعدَ رسالةِ تهدئةٍ بين البلدينِ تمَّ إغلاقُ الملفِ دونَ التوصلِ إلى النتائجِ التي وعدتْ بها مالي، ولم تتخذْ موريتانيا خطوةً في اتجاهِ التصعيدِ.[1]
ما الذي أدىَ إلى توترِ العلاقاتِ مجددًا؟
في أوائلِ أبريلَ 2024، ووفقًا لتقاريرَ وشهاداتٍ موريتانيةٍ، توالتْ الأنباءُ عنْ قيامِ الجنودِ الماليينَ بذبحِ موريتانيينَ في المناطقِ الحدوديةِ بينَ البلدينِ، تلتْها عملياتُ قتلٍ وخطفٍ مماثلةٍ في القرىَ والأراضيِ الماليةِ، ولتجنبِ التصعيدِ، كثفتْ باماكو اتصالاتِها معَ الحكومةِ الموريتانيةِ، وأجرىَ حينهَا الرئيسُ الماليُ المؤقتُ محادثةً هاتفيةً مع الرئيسِ الموريتانيِ، وفي 15 أبريلَ الماضيِ أُرسلَ وفداً دبلوماسياً وعسكرياً إلى نواكشوط، ضمَّ وزيريِ الخارجيةِ والدفاعِ، ووفقًا لمسؤوليِ نواكشوط، فإنَّ الزيارةَ لم تجنْ ثمارَها، ولم يتفقْ الجانبانِ على آليةٍ لحمايةِ الموريتانيينَ المقيمينَ في ماليِ منَ الهجماتِ المتكررةِ التي تشنُها القواتُ المواليةُ للسلطةِ في باماكو، تبعهُ تطورٌ لافتّ للانتباهِ بمنعِ نواكشوط للمواطنينَ الماليينَ غيرِ الحاملينِ لتصاريحِ إقامةٍ من دخولِ البلادِ، وفي تسجيلٍ صوتيٍ تمَّ تداولهُ على وسائلِ التواصلِ الاجتماعيِ، دعا ممثلٌ عنْ الجاليةِ الموريتانيةِ في ماليِ الموريتانيينَ في القرىَ والمخيماتِ على طولِ الحدودِ إلى مغادرةِ بلادهِم، منوهًا عن نيةِ الجيشِ الماليِ للقيامِ بعمليةٍ أمنيةٍ واسعةِ النطاقِ بالقربِ منَ الحدودِ، وفي 16 أبريل الماضي قامَ متظاهرونَ ماليونَ باعتراضِ مركباتٍ موريتانيةٍ ومنعوا مرورهَا، كمَا تمَّ اختطاف رعايا موريتانيين من حافلات مملوكة لموريتانيين، ورداً على هذهِ الأحداثِ المتتاليةِ، استدعتْ نواكشوط السفيرَ الماليَ وأصدرتْ وزارةُ الخارجيةِ بياناً أدانتْ فيه الدولةَ الماليةَ وأكدتْ أن استمرارَ مثلَ هذهِ الحوادثِ أمرٌ غيرُ مقبولٍ، بعدَ ذلكَ أوفدَ الرئيسُ الموريتانيُ وزيرَ الدفاعِ برفقةِ مديرِ الإعلامِ الخارجي إلى باماكو لتوجيهِ رسالةٍ خاصةٍ إلى العقيدِ “العاصميِ غيتا” رئيسِ الفترةِ الانتقاليةِ للحكمِ في مالي، ولم يتمْ الإعلانُ حينَها عن مضمونِ الرسالةِ، لكنَّ وزيرَ الدفاعِ الموريتانيِ صرحَ بأنَّ الزيارةَ تضمنتْ البحثَ في العلاقاتِ التاريخيةِ بينَ البلدين وسبل تطويرها، ودارتْ حولَ أهميةِ العلاقاتِ الثنائيةِ والروابطِ التاريخيةِ التي تربطُ الشعبينِ، واعتبرتْ الرئاسةُ الماليةُ أنَّ اللقاءَ بينَ غيتِا والوفدِ الموريتانيِ خطوةً مهمةً نحوَ تعزيزِ العلاقاتِ الثنائيةِ بينَ باماكو ونواكشوط في وقتٍ يتسمُ فيه المشهدُ الإقليميُ بعدمِ الاستقرارِ والتهديداتِ الإرهابيةِ.[2]
ما علاقةُ قواتِ فاغنر الروسيةِ بتوترِ العلاقةِ من جديدٍ بينَ البلدينِ؟:
في 7 أبريلَ الماضيِ، دخلتْ وحداتٌ عسكريةٌ ماليةٌ برفقةِ عناصرَ منْ مجموعةِ فاغنرَ الروسيةِ إلى الأراضيِ الموريتانيةِ بالقربِ منَ الحدودِ معَ ماليِ، تحديدًا قريتيِ “دارِ النعيمِ” و “مدِ الله” وأطلقوا النارَ على السكانِ، مما أثارَ استياءَ الأوساطِ السياسيةِ والأمنيةِ الموريتانيةِ، وعلى الفورِ وصلتْ كتيبةٌ منَ القواتِ الموريتانيةِ إلى المكان وأعلنتْ استعدادهَا وقدرتَها على حمايةِ السكانِ والمدنيينَ.
وفي نواكشوط، صرحَ الوزيرُ المتحدثُ باسمِ الحكومةِ “ناني ولد اكروغا” إنَّ قواتِ فاغنرَ دخلتْ الأراضيِ الموريتانيةَ عن طريقِ الخطأِ، وأنها كانتْ تطاردُ بعضَ الجماعاتِ المسلحةِ في مالي حينذاكَ، مؤكدًا على أنَّ الجيشَ الموريتانيَ سيردُ على كلِ مَنْ حاولَ الدخولَ عمداً إلى الأراضيِ الموريتانيةِ.[3]
هذا وقد أثارَ تواجدُ قواتِ فاغنرَ في ماليِ وتدخلُها في الشؤونِ الداخليةِ للدولِ المجاورةِ، بم بمَا في ذلكَ موريتانيا، ردود فعلٍ قويةٓ وموجةً من القلقِ والاستنكارِ على المستويينِ الدوليِ والإقليمي، فمن جانبِها فرضتْ الولاياتُ المتحدةُ الأمريكيةُ، عقوباتٍ على فاغنرَ ومسؤولينَ في مالي، وحذرتْ من أنشطةِ فاغنرَ المزعزعةِ للاستقرار، وقد أدىَ هذا التدخلُ إلى دفعِ مجلسِ الأمنِ الدوليِ للإقرارِ بإنهاءِ مهمةِ حفظِ السلامِ التي استمرتْ عشرَ سنواتٍ في مالي، بناءً على طلبِ المجلسِ العسكريِ في مالي الذي يُعتقدُ أنهُ تحتَ تأثيرِ فاغنر.[4]
والجديرُ بالذكرِ أنَّ الحزبَ الحاكمَ في باماكو يرتبطُ بشراكةٍ أمنيةٍ وعسكريةٍ معَ مجموعةِ فاغنر، ويوجدُ في ماليِ حوالي 1000 مقاتلٍ من قواتِ فاغنرَ يعملونَ معَ الجيشِ الماليِ لمحاربةِ الجماعاتِ المسلحةِ والحركاتِ الانفصاليةِ، وبعدَ انسحابِ قواتِ بعثةِ الأممِ المتحدةِ المتكاملةِ المتعددةِ الأبعادِ لتحقيقِ الاستقرارِ في ماليِ (مينوسما) من مالي، أصبحتْ باماكو تعتمدُ على القواتِ الخاصةِ الروسية واستخدمتهَا لاستعادةِ مدينةِ “كيدال”معقلِ الفصيلِ الأزواديِ.
أبعادُ الخلافِ المالي الموريتانيِ في ظلِّ المتغيراتِ الإقليميةِ والدوليةِ:
من اللافتِ للانتباهِ أن النزاعاتِ الحدوديةَ بينَ البلدينِ ارتبطتْ تاريخياً بالاعتداءاتِ لأسبابٍ مختلفةٍ، منهَا النزاعاتُ الرعويةُ وهجماتُ المسلحينَ، وذلكَ نظرًا إلى أن معظمَ دولِ الساحلِ لا تملكُ سيطرةً كاملةً على حدودِها وأراضيِها، وأنَ لتداخلِ الحدودِ أسبابٌ موضوعيةٌ مختلفةٌ تتعلقُ بامتدادِ القبائلِ بينَ الدولِ الأفريقيةِ، ومنْ ثمّ فدخولُ عناصرَ منَ الفيلقِ الروسيِ إلى الأراضيِ الموريتانيةِ يكونُ أخطرَ ما حدثَ نتيجةَ إثارةِ موجةٍ من الاستياءِ داخلَ الأوساطِ السياسيةِ والأمنيةِ في موريتانيَا، وفي هذا السياقِ سيكونُ من الضروريِِ عدمُ عزلِ المتغيراتِ الجديدةِ على المستوىَ الإقليميِ والدوليِ في منطقةِ الساحلِ، والتي من شأنهِا أن ترسمَ خريطةً جديدةً للتفاعلاتِ الأفريقيةِ في منطقةِ الساحلِ، متأثرةً على وجهِ الخصوصِ بالصراعِ الفرنسيِ الروسيِ، ويمكنُ عرضُ أبعادِ الخلافِ بينَ الدولتينِ في ظلِ المتغيراتِ الإقليميةِ والدوليةِ كالتاليِ:
أولًا المتغيراتُ الإقليميةُ:
أفرزتْ الانقلاباتُ العسكريةُ في منطقةِ الساحلِ خلالَ السنواتِ الأربعِ الماضيةِ عددًا من المتغيراتِ المهمةِ؛ أبرزُها تصاعدُ التهديدِ الإرهابيِ في منطقةِ الساحلِ الافريقيِ، والحاجةِ الملحةِ لحمايةِ الأنظمةِ العسكريةِ الوليدةِ بالمنطقةِ من جهةٍ، وسلامةِ وأمنِ هذه الدولِ من جهةٍ أخرى، نظرًا لوجودِ مؤشراتٍ عالميةٍ متخصصةٍ تشيرُ إلى تصاعدِ النشاطِ الإرهابيِ في أفريقيا، وخاصةً في منطقةِ الساحلِ حتى عامِ 2050.
منذُ وصولِ عسكريي باماكو إلى السلطةِ بقيادةِ العقيدِ آسمي غويتا، شهدتْ العلاقاتُ بين البلدينِ العديدَ من المنعرجاتِ، لكنّ السلطاتِ الموريتانيةَ تعاملتْ بمنطقِ مع عسكرييِ باماكو، للحفاظِ على العلاقاتِ بين البلدينِ، رغمَ وجودِ العديدِ منَ المطباتِ، فبعدَ وصولِ المجلسِ العسكريِ للسلطةِ في ماليِ في عام 2020، تبنىَ المجلسُ استراتيجية جديدة في ما يسمىَ بالحربِ على الإرهابِ والجماعاتِ الانفصاليةِ، حيثُ أقامَ شراكة مع روسَيا بالتوازيِ مع قطعهِ للعلاقاتِ مع فرنسَا، الأمرُ الذي ترجمَ الى خروجِ ماليِ من مجموعةِ دولِ الساحلِ الخمسِ، التي تأسستْ في عامِ 2014 بينَ موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد، بهدفِ محاربةِ الإرهابِ، والذي كانَ بمثابةِ صفعةٍ لموريتانَيا، نظراً لتقاربهِما الجغرافيِ، وفي العديدِ منَ المسائلِ المشتركة، إلى أن ذلك لم يؤثرْ على العلاقاتِ بشكلٍ مباشرٍ، رغمَ اعتبارِ موريتانَيا “مجموعةَ الساحلِ” بمثابةِ الكيانِ الوحيدِ لحلحلةِ جميعِ المشاكلِ المتعلقةِ بالمنطقةِ.
في هذا السياقِ تجريِ حالياً عدةُ معاركَ عنيفةً في وسطِ مالي، بعضُها تجريِ بالقربِ منَ الحدودِ الموريتانيةِ، ما بينَ الجيشِ المالي من جهةٍ، المدعومِ بالسلاحِ الروسيِ وبمقاتلينَ منْ الفيلقِ الأفريقيِ، ومنْ جهةٍ اخرى مقاتليِ جماعةِ “نصرةِ الإسلامِ والمسلمينَ” المواليةِ لتنظيمِ “القاعدةِ”، ووفقًا لمؤشرِ الإرهابِ العالميِ، تأتي ماليِ في مقدمةِ الدولِ المتضررةِ منَ الإرهابِ، بينما لم تسجلْ موريتانيا أيَ حادثٍ إرهابيٍ خلالَ العقدِ الماضيِ، وتريدُ مالي ممنْ يحاربُ الإرهابَ أن يتبنىَ رؤيتهَا وتصورهَا الخاصَ، وترىَ أن موريتانَيا بمثابةِ مأوي للإرهابيينَ، الأمر الذي تستمر نواكشوط في نفيهِ بشدةٍ، ومن ثم فإنَّ الاختلافَ في وجهاتِ النظرِ حولَ قضية الإرهاب هو أحدُ أبرزُ أسبابِ التوترِ بين البلدين. [5]
ثانيًا: المتغيراتُ الدوليةُ:
شهدتْ منطقةُ الساحلِ الإفريقيِ تغيراتٍ جوهريةً أثرتْ من جهةٍ على مسارِ التنافسِ في السياقِ الدوليِ، ومن جهةٍ أخرىَ على دولِ الساحلِ والعلاقةِ المستقبليةِ المتوقعةِ بينهم، فقدْ أدتْ العلاقاتُ المتوترةُ بين فرنسَا وأهمِ ثلاثِ دولٍ في المنطقةِ من بينِهم مالي؛ نتيجةَ الانقلاباتِ العسكريةِ إلى إحلالِ النفوذِ العسكريِ الروسيِ لمواجهةِ التهديدِ الأمنيِ المحليِ المتصاعدِ، اذ يتمثلُ المتغيرُ الدوليُ الأبرزُ؛ في صراعِ القوىَ العظمىَ في المنطقةِ وانحيازِ كلٍ منَ الدولتينِ إلى قطبٍ، ناهيكَ عنْ توجهِ موريتانَيا إلى أنْ تكونَ دولةً غازيةً، ومنْ شأنِ ذلكَ أن يخففَ منَ الضغطِ الروسيِ على حلفائِها الغربيينَ، الأمرُ الذي سيشكلُ في بُعدهِ الاستراتيجيِ ضربةً قويةً لروسيَا، وذلكَ أمرٌ في بُعدهِ الاستراتيجيِ سيكونُ ضربةً قويةً لروسَيا، خاصةً لامتيازِ موريتانيَا بقربِها من أوروبَا وهو ما سيمكنُها من توفيرِ البديلِ الملائمِ لحلفائِها في أوروبَا.
فمن جانبِها تسعىَ روسيَا إلى استغلالِ الفراغِ، الذي تركهُ الانسحابُ العسكريُ الفرنسيُ من مالي، معززةً وجودَها العسكريَ والأمنيَ في البلدِ الذي تعصفُ بهِ الاضطرابات السياسية والأمنية، في هذا السياق، عُقدتْ اتفاقاتٌ عسكريةٌ بينَ دولِ المنطقةِ -مالي وبوركينا فاسو والنيجرَ- وموسكو أسهمتْ في بلورةِ تحالفِ دولِ الساحلِ العامِ الماضيِ، فضلاً عن وجودِ الفيلق الأفريقي في ماليِ، وهو الفيلقُ المنبثقُ من شركةِ “فاغنرَ” العسكريةِ الروسيةِ، لكنهُ باتَ ذا تبعيةٍ مباشرةٍ لوزارةِ الدفاعِ الروسيةِ بعدَ مقتلِ يوري يوزييجين في يوليو الماضيِ، ومن ثمَّ فباتتْ مالي أداةً أخرى منْ أدواتِ التوتراتِ الاستراتيجيةِ المتناميةِ معَ الغربِ والتي بلغتْ اليومَ ذروتُها في الصراعِ في سبيلِ الحصولِ على أوكرانَيا، وأنَّ وصولَ روسيَا إلى ماليِ يعنيِ قدرةَ الأولىَ على إثارةِ أزماتٍ إنسانيةٍ وسياسيةٍ لأوروبَا في الوقتِ الذي تتحدىَ فيهِ مجالاتِ النفوذِ الأوروبيِ، خاصةً الفرنسيَ في أفريقِيا.[6]
منْ ناحيةٍ أخرى؛ يشارُ إلى أن موريتانيَا دخلتْ في اتفاقياتٍ عسكريةٍ وأمنيةٍ مع الناتو سنةَ 2022، وتم منحُها وضعَ الشريكِ الأساسيِ للحلف في منطقةِ الصحراءِ والساحلِ، ومن ثمَّ فإن مالي التي أصبحتْ محسوبةً على موسكو، تعتبرُ أن دخولَ موريتانيَا في اتفاقِ تعاونٍ عسكري مع حلفِ شمالِ الاطلسي (الناتو) ليس في صالحِها، ويزدادُ تباينُ الموقفِ بينَ الجارتينِ في كيفيةِ التعاملِ مع فرنسَا المستعمرِ السابقِ لكليهِما، إذ تعتبرُ نواكشوطُ أن باريسَ حليفْ مهمٌ يحظىَ بالكثيرِ منَ الثقةِ ويمكنُ الاعتمادُ عليه في التصديِ للعنفِ والحركاتِ المسلحةِ، بينمَا ترى باماكو أن فرنسَا عدوٌ للمنطقةِ وشعوبها.[7]
مستقبلُ العلاقاتِ بينَ نواكشوط وباماكو:
منَ المهمِ الإشارةُ الى أن التوتراتِ الحاليةَ بين موريتانَيا ومالي تحدثُ تحتَ مظلةِ علاقةٍ تتسمُ بالوحدةِ الدينيةِ والثقافيةِ والتداخلِ العرقيِ والقبليِ والترابطِ من خلالِ التاريخِِ المشتركِ والاعتمادِ المتبادلِ، اذْ تستضيفُ موريتانيا حاليًا حوالي 150,000 لاجئ من ماليِ، ومن المتوقعِ أن يصلَ هذا العددُ إلى 250,000 لاجئٍ في النصفِ الأولِ العامَ الجاريِ.
ومنَ الناحيةِ الاقتصاديةِ، تعتمدُ مالي غيرُ الساحلية على ميناءِ نواكشوط في جزءٍ مهمٍ من وارداتها وصادراتها من الخارجِ، وتمنحُها إدارةُ الميناءِ امتيازاتٍ خاصةَ للتفريغِ والتخزينِ، كمَا تستقبل مالي شاحنات محملة بالبضائعِ من الجزائر والمغرب عبرَ الطريقِ البريِ الموريتاني، فضلاً عن ذلكَ؛ يُعتبرُ مستوى المعيشة في نواكشوط جذاباً بشكلٍ خاصٍ للعمالِ الماليين في مهن مثلَ الحرفِ اليدويةِ والأعمالِ المنزليةِ.
منْ ناحيةٍ أخرى، يعتمدُ الرعاةِ الموريتانيونَ وتجارُ الماشيةِ في المنطقةِ الشرقيةِ من موريتانيا على الأراضيِ الماليةِ التي تتميزُ بخصوبةِ المراعيِ وكثافةِ الغاباتِ، كمَا تستوردُ موريتانيا أيضاً أعلافَ الماشيةِ وبعضَ المنتجاتِ الزراعيةِ من ماليِ، وهناكَ جاليةٌ موريتانيةٌ نشطةٌ في باماكو من التجارِ، ويستثمرُ معظمُهم في مختلفِ القطاعاتِ.[8]
ونظرا للمصالحِ المتبادلةِ بينَ البلدينِ فإنَّ مبدأَ المصلحة العامة يستدعيِ الحفاظَ على مناخٍ خالٍ من التوترِ والتهديداتِ الأمنيةِ، لكنَّ منطقَ السياسةِ والسيادةِ لا يعتمدُ على الاستقرارِ مقابلَ وجودِ مقتضياتِ الوحدةِ الترابيةِ والدفاعِ عن الأمةِ والوطنِ، ففي الوقتِ الذي تسعىَ فيه موريتانيا إلى الاستقرارِ وتحاولُ كسبَ نفوذٍ اقتصاديٍ من خلالِ اكتشافِ اليورانيوم والتحولِ إلى بلدٍ مُصدرٍ للغازِ، وليسَ من مصلحِتها التورطُ في حربٍ على حدودِها الشرقيةِ، تدركُ باماكو أن نواكشوط بمثابةِ امتدادٓ لمصالحِها الأمنية والاقتصادية وتحتاج إلى تجنبِ المنطقِ المتهورِ، ومن ثمَّ فإذا تعذرَ الحلُ الوديُ بينهَما، فإنَّ كلَ الاحتمالاتِ تصبحُ واردةً، بمَا في ذلكَ الصراع العسكري، ففي النزاعات السياسية يمكن أن تخرج الأمور عن السيطرةِ وتتحولُ الشرارةُ الصغيرةُ إلى حربٍ كبيرةٍ، وعلى الرغمِ منَ الزياراتِ المتبَادَلةِ وفتحِ قنواتِ الاتصالِ، إلا أنَّ ما حدثَ خلالَ الأيامِ القليلة الماضية يدل على أن مؤشراتِ الخلافِ والتوترِ آخذةً في التصاعدِ، خاصةً بعد أن سحبتْ باماكو تعيينَ سفيرِها في نواكشوط أواخرَ أبريلَ الماضي ولم تعينْ بديلاً له حتّى الآنَ، وفي هذا السياق، منَ المرجحِ أيضًا أن تستخدمَ باريسُ ورقةَ الصراعِ الثنائيِ بينَ موريتانيا ومالي لتأكيدِ نفوذِها على نواكشوط، وربمَا زيادةُ حدةِ الصراعِ والتصعيِد بين الدولتينِ، بالتاليِ زيادةُ رقعةِ الصراعِ في غربِ افريقِيا.[9]
المصادر:
[1] حبيب الله مايابي، سؤال وجواب.. تعرف على حقيقة الأزمة بين موريتانيا ومالي، الجزيرة، أبريل ٢٠٢٤. https://shorturl.at/fruAQ
[2] المرجع السابق
[3] سكينة ابراهينم، فاغنر تغضب موريتانيا ومالي تتدارك الخطأ.. ماذا حصل؟، العربية، أبريل ٢٠٢٤.
[4] الداود أدا، التدخل العسكري المالي في موريتانيا و زعزعة الامن بالساحل الافريقي، جريدة الصدى، مايو ٢٠٢٤. https://shorturl.at/jwGT8
[5] أماني الطويل، أبعاد الخلافات بين مالي وموريتانيا، اندبندنت عربية، أبريل ٢٠٢٤. https://shorturl.at/dtY59
[6] روسيا تملأ الفراغ الفرنسي في مالي بتعزيز حضورها العسكري، صحيفة الشرق الأوسط، أغسطس ٢٠٢٢. https://shorturl.at/imELM
[7] اماني الطويل، مرجع سابق.
[8] المرجع نفسه
[9] حبيب الله مايابي، مرجع سابق.