في ظِلِّ مشهدٍ سياسيٍّ وإقليميٍّ يضجُّ بتحوُّلات إقليمية متسارعة تُعيد رسْم خرائط التحالفات والتوازنات، وبعد عقود من القطيعة والخلافات العميقة بين حزب الله والمملكة العربية السعودية، فاجأ حزب الله السَّاحة بخطابٍ على لسان أمينه العام؛ الشيخ نعيم قاسم، يوم 19 سبتمبر الجاري، حمل دعوةً صريحةً إلى فتْح صفحةٍ جديدةٍ مع الرياض، وتجميد الخلافات التاريخية التي طغت على العلاقة بين الجانبين على مدار عقود، مؤكِّدًا أن سلاحه مُوَجَّهٌ حصريًّا ضد إسرائيل وليس ضد أي دولة عربية.
هذه الدعوة، التي بدت مفاجئة في توقيتها ونبرتهاتها، تأتي في لحظةٍ بالغة الحساسية بالنسبة للبنان وحزب الله على حدٍّ سواء.
فداخليًّا؛ يواجه الحزب تحديات اقتصادية وسياسية غير مسبوقة تضعه أمام ضغوط متزايدة من مختلف القوى اللبنانية.
وخارجيًّا؛ يجد نفسه في قلْب الضغوط الدولية المتصاعدة على الحزب بشأن ملف سلاحه، بالإضافة إلى التطوُّرات الأوسع في المشهد الإقليمي؛ حيث تقارب الرياض وطهران والتي أعاد تشكيل خارطة المصالح وقواعد الاشتباك والمصالح في الشرق الأوسط،غير أن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل ستترجم المبادرة فِعْلًا إلى خطوات عملية، أم أنها ستبقى مرهونةً بمدى جدية حزب الله واستعداده للتجاوب مع متطلباتها؟
أولًا: سياق العلاقات بين السعودية وحزب الله
اتسمت العلاقة بين حزب الله والمملكة العربية السعودية منذ تأسيس الحزب في الثمانينيات بالتقلُّب والتوتر، متأثرة بالسياقات الأيديولوجية والتنافس الإقليمي.
فقد ظهر حزب الله كحركة مقاومة مسلحة مدعومة من إيران، اعتمدت خطاب “المقاومة ضد إسرائيل” لتبرير شرعيتها السياسية والعسكرية، وانضمت إلى محور إقليمي تقوده طهران، في المقابل، كانت السعودية آنذاك تُمثِّلُ قوةً عربيةً محافظةً تسعى إلى كبْح نفوذ إيران المتنامي في المنطقة؛ ما أوجد فجوة أيديولوجية وسياسية واضحة بين الطرفين منذ البداية.
وقد جاءت محطة عام 2005 لتشكل منعطفًا حادًّا في العلاقة، إِثْرَ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني “رفيق الحريري”، الذي كان يُعتبر أبرز حلفاء الرياض، هذا الحدث أطلق موجةً من الانقسامات الداخلية في لبنان، وفتح المجال أمام اتهامات واسعة ضد حزب الله على الصعيديْن “المحلي والإقليمي”؛ ما عزَّزَ القطيعة السياسية بين الحزب والسعودية، ورسَّخَ في الوعْي السعودي صورة الحزب كأداة إيرانية فاعلة في الساحة اللبنانية.[1]
مع اندلاع الحرب السورية في 2011 ومشاركة حزب الله العسكرية إلى جانب النظام السوري، دخلت العلاقة مرحلة أكثر توتُّرًا، فقد اعتبرت الرياض تدخُّل الحزب جزءًا من أجندة إقليمية تقودها طهران وتُهدد مصالحها وأمنها القومي، وتزامن ذلك مع انتقادات سعودية علنية وتحركات دبلوماسية، عكست الانزعاج من الدور الذي يلعبه الحزب في المنطقة[2].
على الصعيد الدبلوماسي؛ انعكست هذه التوتُّرات بشكلٍ واضحٍ على مسار العلاقات الرسمية بين الطرفين خلال العقديْن الماضييْن؛ إذ شهدت المرحلة خطوات متبادلة تمثَّلَتْ في تقييد قنوات الاتصال وتجميد الدعم السعودي لقطاعات سياسية واجتماعية لبنانية؛ إضافةً إلى مواقف علنية من الرياض اقتربت في بعض مراحلها من تبنِّي تصنيفات للحزب أو لأجنحته في سياق مكافحة الإرهاب وتصنيفه كمنظمة ارهابية بجانب بعض الدول الخليجية الأخرى منذ عام 2016.[3]
إلا أنَّ الديناميكية لم تكن أُحَادية الاتجاه؛ ففي السنوات الأخيرة، أبدت السعودية اهتمامًا متجددًا بالسَّاحة اللبنانية، في محاولة لملْء فراغٍ إقليميٍّ تركته التحوُّلات الدولية والإقليمية، هذا التوجُّه تجسَّدَ في زيارات دبلوماسية رفيعة المستوى إلى بيروت، وفتْح قنوات حوار مع مؤسسات الدولة اللبنانية، لكن اللافت أن هذا الاهتمام يجري وفْق مقاييس جديدة مختلفة عن الماضي؛ إذ تركز الرياض على تعزيز حضور الدولة ومؤسساتها، مع إبقاء مسافة محسوبة تِجَاه القوى المرتبطة مباشرة بإيران، وفي مقدمتها حزب الله.
ثانيًا: الدلالات
لا يمكن اعتبار خطاب نعيم قاسم الأخير مجرد حدثٍ سياسيٍّ عابرٍ أو مبادرةٍ كلاميةٍ ضمن إطار العلاقات العامة؛ بل هو نصٌّ سياسيٌّ متشابكٌ يعكس تعدُّدية المستويات التي يتعامل بها حزب الله في لحظة استثنائية من الصراع الإقليمي؛ لتعكس تحوُّلات أعمق في حساباته الداخلية والإقليمية، ويمكن إبراز تلك الدلالات على النحو الآتي:
أولًا: يُمثِّلُ الخطاب إعادة تعريف لطبيعة سلاح الحزب؛ حيث يحرص على تأكيد أن هذا السلاح مُوَجَّهٌ بصورةٍ حصْرية نحو إسرائيل، لا ضِدَّ أيِّ طرفٍ عربيٍّ أو إسلاميٍّ، وهو ما يهدف إلى نزْع الطابع الطائفي عن ترسانته العسكرية وإعادة تكريسها في الوعْي العام، باعتبارها أداة “مقاومة” لا تهديد.
ثانيًا: ينطوي الخطاب على محاولةٍ لتحسين صورة الحزب داخليًّا وخارجيًّا، بعد سنوات من الاتهامات بالهيْمنة على الداخل اللبناني والتورُّط في النزاعات الإقليمية؛ فهو يسعى إلى إبراز صورة أكثر مرونة، تُخفِّفُ من حِدَّة الاستقطاب وتُعيد طرْح نفسه كفاعل سياسي وطني منفتح على محيطه العربي.
ثالثًا:يبرز الخطاب بوصفه مؤشرًا على بروز خطاب براغماتي جديد لدى حزب الله، يقوم على الموازنة بين الحفاظ على موقعه العقائدي والسياسي وبين التكيُّف مع التحوُّلات الإقليمية، وبخاصَّةٍ تغيُّر أولويات القوى العربية والإسلامية.
رابعًا: يعكس الخطاب محاولةً لإعادة تموْضع إقليمي للحزب؛ بحيث لا يُنظر إليه فقط كذراعٍ لإيران في لبنان، بل كقوة منفتحة على مسار المصالحات العربية، والانفتاح اللفظي على السعودية تحديدًا يحمل رمزية مضاعفة، باعتبارها الدولة الأكثر تأثيرًا في المشهد العربي والإسلامي.
خامسًا: يحمل الخطاب اعترافًا غير مباشر بثقل السعودية الإقليمي، خصوصًا بعد أدوارها الأخيرة في الملفات الكبرى، مثل الدفع باتجاه الاعتراف بحلِّ الدولتين ومبادراتها للتسويات في المنطقة، هذا الاعتراف الضمني يعكس إدراك الحزب أن الرياض باتت رقمًا صعبًا لا يمكن تجاوزه في أيِّ معادلة مستقبلية.
سادسًا: يتضمن الخطاب دلالة على السعْي إلى تخفيف حِدَّة الاستقطاب “السني – الشيعي”؛ إذ إن مخاطبة الرياض تحديدًا تعكس رغبة الحزب في تجاوز الانقسامات المذهبية وفتْح قنوات مع المرجعيات السُّنِّيَّة الأبرز.
سابعًا: أظهر الخطاب حزب الله كلاعب إقليمي قادر على تجاوز صورة “الميليشيا العقائدية”؛ ليصبح فاعلًا سياسيًّا قادرًا على الانخراط في تسويات وتحالفات جديدة، وتأتي هذه الصورة في وقتٍ حسَّاسٍ وسط تصاعُد الضغط الدولي لمحاصرة الحزب ودعوات تصنيفه كتنظيم إرهابي، ومن ثَمَّ؛ فإظهار انفتاح تِجَاه السعودية يُسْهِمُ في إبراز الحزب كعنصرٍ من عناصر تحقيق الاستقرار الإقليمي المحتمل بَدَلًا من اعتباره مصدر تهديدٍ دائمٍ.
وبذلك، تُمثِّلُ هذه الدلالات معًا إطارًا يكشف عن انتقال حزب الله من خطاب المواجهة الأيديولوجية المُغْلَق إلى خطاب أكثر تكيُّفًا مع التحوُّلات الاستراتيجية في البيئة الإقليمية والدولية.
ثالثًا: دوافع حزب الله وراء الخطاب
إذا كان خطاب نعيم قاسم قد حمل رسائل طمْأَنة متعددة الأطراف، فإن ما يقف خلْف هذ الانفتاح يكشف عن دوافع أكثر عُمْقًا تتصل بأزمة الحزب الداخلية وبالتحوُّلات الإقليمية والدولية الراهنة.
ويمكن تفكيك هذه الدوافع على النحو الآتي:
تصاعُد الضغط الدولي على سلاح الحزب: أحد أهمِّ العوامل التي دفعت الحزب إلى التلويح بالانفتاح على السعودية هو تصاعُد الضغوط “الدولية – والأمريكية” تحديدًا – لإزالة سلاحه أو دمْجه ضمن مؤسسات الدولة اللبنانية؛ إذ باتت هذه القضية محورًا ثابتًا في النقاشات الدولية حول مستقبل لبنان، ولم تعُدْ مجرد مسألة داخلية، وإدراكًا لحساسية هذه الأوضاع، يسعى الحزب إلى تقديم نفسه ككيانٍ سياسيٍّ مستعدٍّ للحوار بَدَلًا من أن يظهر كميليشيا متشددة؛ مما يقدم صورة أكثر مرونة قد تسمح بالمساومة على ملف السلاح مقابل دعم إقليمي أو اعتراف جزئي.
الانهيار الاقتصادي وتآكل الحاضنة الشعبية: تشهد البيئة الشيعية التي يعتمد عليها الحزب أزمة اقتصادية خانقة؛ إذ أصبحت الرواتب والمساعدات المُقدَّمة غير كافية لتلبية الاحتياجات الأساسية نتيجةً لانهيار العملة اللبنانية، هذه الظروف تُمثِّلُ تهديدًا لشرعية الحزب داخليًّا، وهو ما يدفعه نحو البحث عن أيِّ فرصةٍ لتحسين الوضع الاقتصادي للبنان، حتى لو كان ذلك عبر تخفيف التوتر مع السعودية لتمهيد الطريق أمام عودة الاستثمارات والمساعدات الخليجية، ومن ثَمَّ؛ المبادرة هنا تعكس إدراك الحزب أن قدرته على الصمود داخليًّا باتت مرتبطةً بشكل غير مباشر بمستوى الانفتاح العربي.
إعادة التموْضع بعد الحرب “الإسرائيلية – الإيرانية”:الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران لم تنتهِ بانتصارٍ حاسمٍ لطرفٍ واحدٍ، بل كشفت عن معادلة أكثر تعقيدًا؛ إذ تكبَّدَ الطرفان خسائر فادحة عسكرية واقتصادية، ورغم ذلك نجحت إيران في إظهار قدرتها على إلحاق أذى استراتيجي بإسرائيل؛ ما عزَّزَ مكانتها كقوة إقليمية لا يمكن تجاوزها، غير أن هذه المواجهة دفعت طهران إلى اختبار مسارات تهدئة مع الخليج، خصوصًا السعودية، ضمن براغماتية استراتيجية تجمع بين الاحتفاظ بالقوة والانفتاح الدبلوماسي.
ومن هنا؛ يمكن قراءة مبادرة حزب الله باعتبارها انعكاسًا لهذا التوجُّه الإيراني الأوسع، وهو ما أكَّدَ عليه “علي لاريجاني” في تصريحه حين أشاد بمبادرة الحزب تِجَاه الرياض، هذه الإشارة العلنية تُوضِّحُ أن الحزب لا يتحرك منفردًا، بل في إطار توجيه إيراني مباشر يضع العلاقة مع السعودية ضمن أولويات المرحلة الراهنة.
إدراك ثقل السعودية في المعادلة اللبنانية:لعبت المملكة دورًا تاريخيًّا في تعزيز النفوذ السُّنِّي ودعْم الاقتصاد اللبناني، كما أنها تمتلك ثقلًا إقليميًّا ودوليًّا لا يمكن تجاوزه في أيِّ حلٍّ مستقبليٍّ للبنان، وبالتالي؛ الانفتاح على السعودية بات ضرورة استراتيجية للحزب؛ بهدف تجنُّب العُزْلة الكاملة؛ إذ إن أيَّ إنقاذٍ اقتصاديٍّ أو تسوية سياسية لا يمكن تحقيقها دون دورٍ سعوديٍّ فعَّالٍ.
كسْر القيود الدبلوماسية والإعلامية: مع ازدياد العقوبات والتصنيفات الإرهابية التي تحدُّ من حرية حركة الحزب على الصعيد المالي والسياسي، فإن أي انفتاح – ولو في صورة خطابٍ مَرِنٍ تِجَاه السعودية – يمنحه فرصةً لتخفيف هذا الطَّوْق ولو جزئيًّا، عبْر الإيحاء بأنه قادرٌ على تبنِّي لغة براغماتية وليست عقائدية صِرْفة، هذا لا يلغي الضغوط، لكنه على الأقلِّ يخلق هامشًا سياسيًّا للحزب في مواجهة الحملات الدولية التي تستهدف شرعنته.
الاستعداد للتسويات السياسية القادمة: يتجه المشهد اللبناني نحو تسويات لا مفرَّ منها، سواء في ملف الإصلاحات الاقتصادية أو إعادة هيكلة النظام السياسي، ويدرك حزب الله بحاجته إلى دعم عربي وغربي لتحقيق هذه التسويات؛ لذلك، فإن فتْح قناة – ولو رمزية – مع السعودية قد يتيح له البقاء جزءًا من معادلة الحلِّ بَدَلَ أن يُصوَّرَ كأحد أكبر مُعوِّقَات التَّسْوية.
حدود الانفتاح:
إن مساعي حزب الله في الانفتاح تِجَاه السعودية، كما عبَّرَ عنها نعيم قاسم، لا يمكن اختزالها في مجرد تصريح سياسي عابر، بل تُمثِّلُ مؤشرًا على متغيرات أعمق تضغط على الحزب داخليًّا وإقليميًّا، بَدْءًا من الأزمة المتصاعدة حول سلاحه تحت ضغط دولي متنامٍ، مرورًا بالتحوُّلات في علاقة طهران بالرياض، وصولًا إلى واقع داخلي لبناني مأزوم اقتصاديًّا وسياسيًّا.
وعلى الجانب الآخر، تدرك السعودية أن التعامل مع حزب الله يرتبط بمعادلة إقليمية أشمل تتصل بإيران وبِنْيَة الأمن في المنطقة؛ ما يجعل أيَّ خطوةٍ للتقارُب محفوفةً بالمخاطر، لكنها تمنح الرياض في المقابل ورقة ضغط إضافية داخل لبنان.
ومع ذلك، فإن خطاب الحزب، رغم أهميته، لا يكفي وحده لتغيير مسارات راسخة في العلاقة مع السعودية، فالمشهد محكوم باعتبارات مُعقَّدة تبدأ من موقع المملكة الإقليمي وحساباتها مع إيران، بالإضافة إلى اختبار جِدِّيَّة الحزب وقدرته على ترجمة خطابه إلى التزامات عملية، وبقدرة السعودية على تقييم جدوى فتْح قنوات مع طرف لطالما مثَّلَ خصْمًا إقليميًّا مباشرًا لها، ومن ثَمَّ؛ فإن أيَّ خطوة نحو تقارُب حقيقي، ستظلُّ مرهونةً بمدى قدرة الطرفين على إيجاد معادلة دقيقة توازن بين المصالح والضغوط، بعيدًا عن الخطابات الرمزية.
وعليه؛ يمكن القول: إنه رغْم تعدُّد الاحتمالات، يبقى الثابت أن أيَّ تقارُب بين السعودية وحزب الله لن يقوم على حُسْن النوايا أو الخطابات التصالحية وحدها، بل على ميزانٍ حسَّاس من المصالح الواقعية والضغوط المتبادلة، وإذا كان الحزب قد قرأ لحظة سياسية استثنائية تدفعه نحو الانفتاح، فإن المملكة ستظلُّ حَذِرَةً ومترقبةً، تراقب مستقبل علاقتها مع إيران ومدى قدرة الحزب على تحويل كلماته إلى خطوات ملموسة، وفي ظلِّ هذا التشابُك، فإن ما يبدو كإشارة انفتاح قد يتحوَّلُ في الواقع إلى اختبار طويل ومُعقَّد، ستكون نتائجه حاسمة في إعادة تشكيل خريطة التحالُفات في المشرق العربي.
المصادر:
[1] “حزب الله” يُغازل السعودية .. فتح صفحة جديدة وإنشاء جبهة ضد إسرائيل، هسبريس، سبتمبر 2025.
