حسناء تمام كمال
بعد مرور ما يقرب من شهرين على الغزو الروسي لأوكرانيا، بدت مواقف الأطراف الدولية من الأزمة أكثر وضوحًا، ومواقف الفاعلين الدولية من الحرب الروسية الأوكرانية عامل هام في تحديد حسابات الربح والخسارة. هنا تبرز دور القوى الإقليمية الكبرى وموقفها من هذا الصراع ، على رأس هذه الأطراف تأتي الصين ؛ وذلك لما لها من علاقات إيجابية بين أطراف الأزمة المباشرين وغير المباشرين، والثقل الذي تتمتع به كفاعل في السياسة الدولية.
في بداية اندلاع الحرب صمتت الصين لم تبدي موقفًا؛ لتعطي نفسها مساحة لقراءة اتجاهات الرأي العام العالمي من ناحية ومعرفة مواطن قوة وضعف الأطراف وحدود رؤيتهم للملف. لكن لم يدم صمت الصين كثيرا فأعلنت موقفا رسميا من عملية دخول روسيا أوكرانيا وعلى لسان وزير خارجيتها “يوي تشنج” انتقدت العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، واعتبرت أن السبب الجذري للأزمة في أوكرانيا “يكمن في عقلية الحرب الباردة وسياسة القوة” لدى الغرب. وفي هذا الصدد بتتبع حسابات المصالح السياسة والاقتصادية نحاول استشراف مستقبل الموقف الصيني من الحرب في أوكرانيا ، وحدود تفاعلها.
أولًا: محددات الدور الصيني
الصين تسعى نحو تعزيز المصالح وتقليل خسائرها ، هذا هو المبدأ الأساسي الذي تحرك الصين وفقا له ، وهذه الغاية في ظل الواقع والمستجدات الراهنة يبقى مرهون بعدد من الفرص والتحديات أهما ما يلي:
ضمان مصالحها في إبقاء واشنطن بعيدا عن منطقة المحيطين الهندي والهادي: بالرغم من أن الغزو الروسي لأوكرانيا خلق العديد من التهديدات غير المتوقعة بالنسبة للصين،أبرزها تحديات تحديد موقف حاسم من الأطراف، والتحديات الاقتصادية المرتبطة بالعمليات وربطها بالحرب وإمكانية أن تكون العملة الصينية طرفًا في هذه الحرب ، بجانب تحديات السياسة الخارجية الصينية تجاه محيطها. لكنه أزال من على عاتق الصين عدد من التهديدات التقليدية؛ اذ خفف من التوتر الصيني الأمريكي في منطقة المحيطة بالاتجاه ناحية أوروبا، ومن ثم فالتحرك الصيني سيكون أخذا في الاعتبار كيفية الحفاظ على إبقاء واشنطن منشغلة بعيدة عن مناطق أمنها .
عدم الامتثال لتهديدات واشنطن في صياغة سياستها: أبدت الصين امتعاضها من التصريحات الأمريكية على التفاعل الصيني مع روسيا ، والتهديد بفرض عواقب وخيمة إذا وفرت الصين حلا للعقوبات الأميركية المفروضة على روسيا. وترفض الصين الموافقة على العقوبات المفروضة على روسيا بالرغم من الضغوط الأمريكية والتي كان أخرها اجتماع مطول في العاصمة الإيطالية بين مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، وكبير مسؤولي السياسة الخارجية الصينية يانغ جيشي، فالصين وفي عصر اهتزاز الأقطاب العالمية تريد أن تصاغ سياستها من دوافع مصالحها القومية، ومكانتها الدولية، والتحرر من ضغوط الطرفين في صياغة سياستها.
نتائج المفاوضات الجارية : التحرك سياسيا مرهون بالنتائج الأولية التي ستسفر عنها المفاوضات التي يجريها الطرفي الروسي الأوكراني، ومنها المفاوضات الرسمة الأخيرة التي جرت وجها لوجه في إسطنبول بتاريخ 29 مارس ، صدرت مؤشرات قليلة على إحراز تقدم ، أو تلك التي تجري من خلال وسطاء غير رسميين مثل الملياردير الروسي، “رومان أبراموفيتش”، الذي قام بدور وساطة في المحادثات الروسية الأوكرانية في تركيا ، ويجري جهة مستقلة بعد انتهاء جولة تركيا من خلال زيارة (لكييف)، ومن المرجح أن تعطي الصين فرصة لفاعلون إقليميون آخرون يخوضون المفاوضات مع الصين، على أن تحتفظ بوضع المراقب حال نجح هؤلاء الأطراف في إحداث تقدم يمكن البناء عليه. أما اذا لم يخرج الفاعلون بنتائج المرغوبة ،قد يكون للصين رأي آخر.
الحفاظ على علاقتها الاقتصادية بأوروبا الصديقة: لا يمكن إغفال المصالح الاقتصادية الصينية الأوروبية كأحد محددات الدور الصيني ، ويُعد الاتحاد الأوروبي شريك تجاري رئيس للصين ، فبحسب هيئة الجمارك الصينية، فإن عام 2021 شهد ارتفاع حجم التبادل التجاري بين الطرفين إلى 828 مليار دولار، منها 518 مليارا عبارة عن صادرات صينية، مقابل 310 مليارات قيمة الواردات الأوروبية، وبالتالي فسياسة الصين تجاه الصراع يبقى محكوما إلي حد كبير بمدى تأثير هذا القرار على العلاقات الاقتصادية مع الاتحاد ، التي لن تضعها الصين في مقامرة.
حجم التغير في ملفات الطاقة وحرب العملات: منذ سنوات صعد توجه روسي صيني لتقليل الاعتماد على الدولار والاعتماد على عملة البلدين في لتبادل التجاري، وكانت الصين أطلقت الصين نظامًا للدفع بكلتا العملتين استخدم في بيع النفط الروسي إلى الصين، كما توسعت الصين في توقيع اتفاقيات تبادل العمل مع كثير من الدول لتقليل التعامل بالدولار، بالإضافة إلى خفض البنك المركزي الروسي والصندوق السيادي الروسي التعامل بالدولار.
أدى الغزو الروسي إلى أوكرانيا إلي تجدد الطرح وظهور مطالب بالتوسع فيه ، وطرح تعاون صيني روسي للتعاون مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ودول منظمة شنغهاي الدعوة للتخلي على الدولار والدفع بالعملات الوطنية.
ثانيًا: حدود الدور الصيني المتوقع
وساطة : منذ اللحظات الأولى للغزو وتوجهت الأنظار ناحية الصين لما يمكن أن تقوم به من وساطة بين طرفين الأزمة ، لما لها من سمعة حسنة في تجارب الوساطة السابقة ، واعتبارها طرف يحظي بقول بين طرفي الأزمة ، ولما لها من ثقل كفاعل دولي يمكن أن يضغط ويناور لحل الأزمة .
وجهة النظر ذاتها لدى أطراف الأزمة أنفسهم فقد صرح مفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي “جوزيف بوريل”، أن الصين هي الطرف الأنسب للعب مثل هذا الدور أكثر من غيرها ، وكان لدى وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا وجهة النظر ذاتها فقد سبق ودعا لاستغلال نفوذها لوقف العملية العسكرية الروسية ضد بلاده ، وبالرغم من أن الصين لم تبدي مبادرة للتفاعل مع هذا الطرح ، لكن يبقى هذا الدور محل نظر.
تتخوف الصين من الانخراط المتزايد الذي يفرضه دور الوساطة ، فقد يدفع الصين إلى تبني نهج أكثر وضوحًا وصراحة من دعم مواقف الأطراف أو شجبها الأمر الذي يبقي غير مرغوب فيه في ظل الوضع غير المحسوم بين الأطراف. لكن رغم ذلك يبقى هذا الدور محل نظر بالنسبة للصين ، قد توافق عليه حال استمرار التصعيد بين الأطراف بالشكل الذي يمس مصالحها بالدرجة الأولي .
تيسير الحوار من خلال وسطاء آخرين: يمكن للصين أن تلجأ الصين إلى الترتيبات أو المنظمات الإقليمية، والأمم المتحدة ، وذلك للحث بتمهيد الأجواء نحو مساعي لتسوية الصراع بطرق سليمة ، سواء وساطة أو مفاوضات ، أو تيسير جلسات حوارية لكبار قادة الطرفين، على أن يكون هذا التحرك برعاية تنظيم ، بالشكل الذي يضمن تنحية الدور الصينية من الانخراط الكثيف المباشر.
مساعدات الإنسانية: في ظل الحالة الضبابية للمشهد، تؤكد الصين في تصريحات مسؤوليها إن الصين لا ترسل مساعدات عسكرية إلى موسكو لاستخدامها في حربها ضد أوكرانيا، وإنما مساعدات إنسانية، وذلك بحسب السفير الصيني لدى الولايات المتحدة. وشكل التدخل بالمساعدات الإنسانية هو شكل التواجد الذي يتناسب مع تطلعات تحييد الموقف، والذي يمكن أن تستمر الصين في تقديمه للتحرك بشكل محدود مصبوغ بالحيادية في إطار الموقف الضبابي. يمكن أن تلعب الصين الأدوار الثلاثة أو بعضم ، حسب رغبتها في الانخراط من عدمه.
ثالثًا: لماذا سيستمر نهج الصين الرمادي
على قدر أهمية الصين كفاعل دولي في تحديد اتجاه الحالة الصراعية وحسابات الربح والخسارة لكلا الطرفين ، إلا أن تحركها في هذا الملف يحدد بشكل كبير قيمتها كفاعل دولي، وقد يأتي بردود أفعال ارتدادية على التعامل معها في ملفات مختلفة ، وهو ما يجعل الصين أمام تحدي حقيقي ، في صنع سياساتها واتخاذ قرارات في التفاعل مع هذا الملف.
فلا يمكن الجزم بأن بيان الصين الرسمي من غزو روسيا هو انحياز لروسيا ، بذلك نكون أغفلنا طبيعة قوة العلاقات التي تجمع بين الصين وشركائها الأوروبيين والولايات المتحدة، سواء السياسية أو الاقتصادية. للصين مصالح سياسية واقتصادية مع كلا الطرفين ووكلائهم، واتخاذ صف أحد الأطراف على حساب الآخر يهدد هذه المصالح ، وهذا هو التفسير الرئيس لموقفها الحالي.
أن تغيرات جذرية في سياسة الصين بالانحياز الصريح والقطعي إلى أحد صفوف الطرفين ، يبقى مرهون بتصعيد كبير وخطير بين الطرفين ، أو خطوات عدائية مباشرة تطال الصين جراء الحالة الصراعية، هذا وأن لم يكن له مؤشرات حالية ، لكن لا يمكن استبعادة في ظل التطورات الفجائية التي أنتجها الحرب في أوكرانيا.
الصين يبقي تحركها مرهون في المقام الأول بتعزيز مكسبها السياسة والاقتصادية وتقليل خسائرها، وأنها ستتحرك بالشكل الذي يضمن لها هذا الهدف، بصرف النظر عن طرفي الأزمة، كما تدرك الصين أن طول أمد الحرب يبقى محفزًا لدور صيني أوسع ، وهنا يمكن فهم هذه الرمادية التي تتبعها والتي ربما تكون لدراسة و وضع سياستها بما يتناسب مع هذا الأمد الطويل. ولهذه الاسباب يتوقع أن تستمر الصين في سياستها الرمادية تجاه الملف، واستكمال النهج المتأني في اتخاذ القرارات و تحييد موقفها الرسمية المعلنة على الأقل.