يُقدمُ مقالُ “تركيا: التهديدَ الكبيرَ القادمَ لإسرائيل؟”، الصادر عن صحيفة “إسرائيل اليوم”، حجة مفادها أن تركيا، بقيادةِ الرئيسِ رجب طيب أردوغان، تُشكل خطرًا أمنيًا متزايدًا على إسرائيل، لا سيما من خلال نفوذها المُتزايد في سوريا، يعتمدُ المقال على تقاريرَ رسميةٍ، مثل نتائجِ لجنةِ ناجل، ويُسلّطُ الضوء على التطورات الجيوسياسية الأخيرة، بما في ذلك اتفاقية دفاع تركية سورية مُحتملة. تُقيّم هذه المراجعة المقال تقييمًا نقديًا من خلال تحليل نقاطه الرئيسية، مع توفير سياق أوسع للمنظور الأحادي الذي يقدمه الكاتب إيتاي إيلناي.
تعريفٌ بالكاتب وخلفيته الصحفية:
كتب المقال إيتاي إيلناي، وهو صحفي مُرتبط بـ “إسرائيل اليوم”، ورغم أن المقالَ يُثير مخاوفُ أمنيةً، إلا أنه لا يُقدّم معلومات مُفصّلة عن خبرة الكاتب في الجغرافيا السياسية أو الشؤون العسكرية في الشرق الأوسط. تُعرف “إسرائيل اليوم” نفسها على نطاقٍ واسعٍ بموقفها اليميني المُؤيد لنتنياهو، والذي غالبًا ما يتماشى مع سياسات رئيس الوزراء المُركّزة على الأمن، رغم أنها ليست تابعةً مباشرةً للحكومةِ الإسرائيلية، إلا أن خطها التحريري غالبًا ما يعكس منظورًا قوميًا قويًا، لا سيَّما في مسائل السياسة الخارجية.
كما دأبت “إسرائيل اليوم” على تغطية الشؤون التركية بأسلوب نقدي، مشددةً على دورها المُفترض في زعزعة الاستقرار في المنطقة، وقد سلّطت مقالات سابقة الضوء على دعم تركيا لحماس، وسياساتها التدخلية في سوريا، وخطاب أردوغان المعادي لإسرائيل، ويشير هذا التوجه إلى موقف تحريري أوسع نطاقًا ينظر إلى تركيا كخصم إقليمي رئيسي.
تقريرُ لجنة ناجل
في يناير 2025، أوصتْ لجنةُ فحصِ ميزانيةِ الأمنِ وبناءِ القوةِ المعروفة إسرائيلياً بـ”لجنة ناجل”، بتقريرها المقدم لنتنياهو، بأخذ ما أسمته اللجنة “التهديد التركي” في عين الاعتبار مع ازدياد نفوذ أنقرة في الداخل السوري، وأضاف التقرير أنه سيكونُ الوضعُ أكثرَ تعقيدًا إذا تحولت القوةُ السوريةُ إلى وكيلٍ تركيٍ بشكل فعّال في ظل تعدد العوامل التي تسهم في تصاعد الخصومة التركية-الإسرائيلية ويمكن تحليلها على النحو التالي:
أولًا: النفوذُ التركيُ المتزايد في سوريا: منذ اندلاع الحرب السورية في عام 2011، عززت تركيا حضورها في شمال سوريا من خلال دعم الثوار السوريين وتنفيذ عملياتٍ عسكريةٍ مثل درع الفرات” في 2016، “غصن الزيتون” في 2018، و”نبع السلام” في 2019. هذا التواجد العسكري أدى إلى تحول هذه المناطق إلى جزء شبه مستقل عن الحكومة السورية، مع نشر العلم التركي واستخدامِ العملةِ واللغةِ التركيةِ. في الآونة الأخيرة، أصبحت تركيا أكثرَ تورطًا في تعزيز نفوذها في سوريا عبر علاقاتٍ متزايدةٍ مع النظامِ الجديد في دمشق، مما قد يسهلُ لها إقامةَ “جسرٍ بري” بين تركيا وإسرائيل. ولقد حذر الدكتور حاي إيتان كوهين ياناروجاك، الخبير في شؤون تركيا في مركز موشيه ديان في جامعة تل أبيب، من وجودِ قواتٍ عسكريةٍ تركيةٍ على حدود إسرائيل بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر وخطورة هذا التواجد العسكري على الأمن القومي الإسرائيلي.
ولإحياء “نار القلق الإسرائيلي”، تعززت العلاقاتُ الاستخباراتيةُ التركيةُ-السورية بفعلِ زيارةِ مدير المخابرات التركية إبراهيم قالن لسوريا في ديسمبر 2024، ناهيك عن قيام الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع بزيارة رسمية إلى أنقرة في فبراير 2025 لمناقشة توقيع اتفاقية دفاع مشترك بين تركيا وسوريا، تشملُ إقامة قاعدتين جويتين تركيتين في وسط سوريا وتدريب الجيش السوري.
ثانيًا: خطابُ أردوغان المناهض لإسرائيل:سلط الكاتبُ الضوءِ على تصعيدِ خطابِ الحكومة التركية تجاه إسرائيل في أعقابِ حربِ السابع من أكتوبر. على سبيل المثال، صرح أردوغان: “يمكن لتركيا غزو إسرائيل كما فعلت في كاراباخ وليبيا” خلال اجتماع الحزب الحاكم في يوليو 2024. علاوةً على ذلك، قارن الرئيس التركي رئيس الحكومة الإسرائيلية بهتلر ودعا إلى “تقديم القيادة الإسرائيلية إلى العدالة” في أكتوبر 2024، كما وجّهَ أردوغان رسالةً للشعبِ التركيِ متسائلاً “من يستطيعُ أن يضمنَ أنه عندما ينتهون من تدمير غزة، لن يوجّهوا أنظارَهم إلى أنطاليا؟”، وهنا يجدرُ الإشارةُ إلى عجز المقال عن وضع الخطاب الرسمي التركي المعادي لإسرائيل في سياقه الشعبوي الصحيح. من الساذج اعتبار تصريحات أردوغان حول التحرك العسكري ضد إسرائيل جدية نظراً لعدة عوامل من ضمنها عدمُ وجودِ مصلحةٍ تركيةٍ مباشرةٍ وراء خطوةٍ مماثلةٍ وتكاليف الحرب الاقتصادية الباهظة في بلد يعاني بالفعل من أزمة اقتصادية طاحنة. بالإضافة إلى ذلك، يمكنُ ملاحظةُ زيادةٍ واضحةٍ في توظيفِ أردوغان لشعارات القضية الفلسطينية لزيادة نسب قبوله المحلي بعد خسارة حزب “العدالة والتنمية” لقطاعات كبيرة من الناخبين المحافظين، في انتخابات مارس 2024, الذين رأوا أن الحكومةَ لم تقدمْ الدعمَ الكافيَ للفلسطينيين، إذاً يعبّرُ خطاب أردوغان عن تجاوبٍ مع الحالةِ الداخليةِ التركية وليس تصعيداً محضاً ضد القيادة الإسرائيلية كما أظهر الكاتب.
ثالثًا: طموحاتُ أردوغان التوسعية: وفقاً لرأي الكاتب، يمكنُ فهمُ السياسةِ الخارجيةِ التركيةِ إبان حكم أردوغان من خلال المقال المنشور بمجلة معارخوت بعنوان “مفهوم الأمن التركي” بتاريخ أكتوبر 2021. في طيات هذا المقال، يرى العقيد أوري من مديرية الاستخبارات العسكرية أن سياسةَ أردوغان الخارجيةَ مستمدةٌ من المدرسةِ الفكريةِ لجماعة الإخوان المسلمين. بناءً على ذلك، تغيرتْ التفاعلاتُ التركيةُ مع محيطها الجغرافي من سياسة “صفر مشكلات” إلى تبنّى نهجٍ أكثرَ عدوانيةً في التورط في صراعات الشرق الأوسط عقب وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، ودلل الكاتب على هذه المقاربة التدخلية لتركيا بالحرب السورية عام 2011, الأزمة الليبية عام 2019 والحرب الأرمينية-الأذربيجانية عام 2020. بشكلٍ عام، يرى الكاتب أردوغان قائداً ذو طموحات عثمانية وإسلامية توسعية.
إضافةً إلى ما سلف ذكره بخصوص “ضم تركيا الفعلي” لشريطٍ حدوديٍ عريضٍ داخل الأراضي السورية، يجادل الكاتب بأن أردوغان لا يزالُ يطمحُ لتعزيزِ موقعهِ في الشمال السوري مشيراً إلى تصريحِ أردوغان عقب سقوط نظام الأسد: ‘لو كانت الحرب العالمية الأولى قد انتهت بشكل مختلف، لكان بإمكاننا أن نسميَ إدلب وحلب ودمشق محافظات تركية اليوم’، ودعا الكاتب الرئيس التركي إلى احترامِ قدسيةِ الحدودِ الدوليةِ، وهذا الطرحُ الأخيرُ يعبّرُ عن تناقضٍ واضحٓ في موقف الكاتب من القوانين الدولية خصوصاً مع تجاهله لاستيلاء إسرائيل على 665 كيلومتراً داخل الأراضي السورية منذ ديسمبر 2024.
بالإضافة إلى ذلك، يتجاهل الكاتب حقيقة أن تركيا لم تعدْ تتبنى عقيدةَ “العثمانية الجديدة” كركيزة لتحركاتها الخارجية وتحولت إلى رؤية “قرن تركيا” والتي تعززُ الاستقرارَ الإقليميَ وتصفير المشكلات مع جيرانها في عام 2022، ومن ثمَّ عملتْ أنقرة على تحسين علاقاتها بخصومها السابقين على غرار مصر والسعودية والإمارات، وفيما يخصُ الحالةَ السوريةَ، شددتْ الخارجية التركية في مناسبات عدة على ضرورة “الحفاظ على وحدة الأراضي السورية”، وهذا يعني أن المشروع التركي يعتمد على زيادة تأثير أنقرة في الدول الإسلامية وتأسيس تحالفات عسكرية واقتصادية وأيدولوجية دون خطوات توسعية مباشرة على عكس ما يؤيده الكاتب.
رابعًا: هشاشةُ العلاقاتِ التركيةِ – الإسرائيلية:وفقاً للباحثة نوى لازيمي من معهد ميسغاف للأمن الوطني، منذ تصدّعِ العلاقاتِ التركيةِ-الإسرائيلية إثر أحداث مافي مرمرة عام 2010، كانت إسرائيل تسيرُ بحذرٍ لإعادةِ تأهيل علاقتها مع تركيا، وبدأت هذه الجهود الدبلوماسية تؤتي ثمارها في عام 2022، ولقد تجسّدَ هذا التقاربُ في سلسلةٍ من اللقاءاتِ الدبلوماسية مثل زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ إلى أنقرة في مارس 2022 ومن ثم اجتماع أردوغان برئيس الوزراء الإسرائيلي حينها يائير لابيد على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2022 وصولاً إلى استضافة أردوغان لرئيس وزراء إسرائيل الحالي نتنياهو في سبتمبر 2023 بالبيت التركي في نيويورك، وهذه الزيارات عززت إمكانية حدوث انفراجة في العلاقات بين أنقرة وتل أبيب وعودتها لطبيعتها إلا أن تصاعدَ خطابِ أردوغان المناهض لإسرائيل وما ترتبَ عليه من تجميد التجارة مع إسرائيل وإيقاف الرحلات الجوية التركية إلى مطار بن غوريون أدى لانهيار مسار المصالحة التركية-الإسرائيلية.
ولعل تتّبع المقال لخطوات التقارب بين البلدين من المفترض أن يعكسَ برجماتيةَ الرئيس أردوغان وزيادةَ فرصِ حدوثِ تسويةٍ سياسيةٍ محتملةٍ، إلا أن الكاتب وظف هذا المسار في سياق عدم قدرة تل أبيب “على الثقة بتركيا” مدلالاً عليه باستعراضٍ للقوةِ العسكريةِ التركية، حيث ذكر الكاتب امتلاك تركيا لطائراتٍ مسيرةٍ هجومية وصواريخ باليستية متطورةٍ يصلُ مداها إلى 2000 كيلومتر ويمكنها الوصول إلى أي نقطة في إسرائيل فضلاً عن بدءِ أنقرة التفكير جدياً في تدشين برنامجها النووي الخاص، بينما تعد هذا القدرات المتطورة سبباً رئيساً في دفع أنقرة وتل أبيب لإصلاح علاقاتهما، إلا أن الكاتب يستخدم هذه المعلومات في إطار تصعيدٍ واضحٍ ضد السياسةِ الخارجية التركية مما يؤكد الطبيعة الأمنية البحتة التي تسود المقال.
خامسًا: تقديمُ مقارنةِ واقعيةٍ بين تركيا وإيران: رغم تأكيد التقرير على الثقل الذي تتمتعُ به تركيا في المشهد السوري، دعت الدكتورة كارميت فالنسي، رئيسة برنامج سوريا والباحثة البارزة في معهد دراسات الأمن القومي إلى عدم إعلان أحمد الشرع “دمية” بيد تركيا، في هذا السياق قدمت فالنسي مقارنةً بين نظام الأسد والذي عجز عن رسمِ سياسةٍ خارجيةٍ سوريةٍ مستقلةٍ خارج الخطوط العريضة التي حددتها طهران والنظام السوري الجديد الذي تشيرُ اتصالاتهُ الخارجيةُ إلى إرادةٍ سياسيةٍ في تحقيق نوع من الاستقلال الذاتي عن أنقرة، ولعل تدفقَ الوفودِ الدبلوماسيةِ على دمشق من الغرب بجانب تعزيز الشرع لعلاقاته مع دول عربية على غرار السعودية والأردن يدعم هذا الادعاء.
بالتالي، إن التصرفات التركية في سوريا تتسم ببراجماتية أكبر وفهم أوسع للعبة توازن القوى عن نظيرتها الإيرانية مما يخفض من فرص الصدام العسكري المباشر بين أنقرة وتل أبيب، لذلك تعد هذه المقارنة من النقاط المحدودة في المقال التي اتسمت بالواقعية وغاب عنها الحكم المسبق على تحركات أنقرة الخارجية.
خاتمة
في النهاية، نجحَ مقال “إسرائيل اليوم” في تزويدنا بتحليلٍ تاريخيٍ شاملٍ ودقيقٍ حول تطور العلاقات التركية-الإسرائيلية، خاصةً فيما يتعلقُ بتصاعد النفوذ التركي في سوريا وتأثيره على الأمن الإسرائيلي، من خلال تسليط الضوء على محطات تاريخية مهمة مثل عمليات تركيا العسكرية في شمال سوريا وتغيرات الخطاب التركي تجاه إسرائيل.
على النقيض، على الرغم من أن مقال “إسرائيل اليوم” يعرض تحليلاً صريحًا للمخاوف الأمنية المتزايدة لإسرائيل بسبب النشاط التركي في المنطقة، فإن النظر إلى تركيا فقط من زاوية التهديدات الأمنية قد يُغفل تعقيدات العلاقات بين البلدين، المقال لا يتناول بشكل كافٍ الطابع البراغماتي الذي قد يتسم به النهج التركي في المستقبل، خصوصًا بعد محاولات التقارب الأخيرة بين أنقرة وتل أبيب، من المهم أن يتم تقييم السياسة التركية في سياق أوسع يشمل العوامل السياسية والاقتصادية لتقديم صورة أكثر توازنًا وشمولية.
المصادر:
1- خاص- إسرائيل تسيطر على 665 كيلومتراً مربعاً في الجنوب السوري. إرم نيوز. 14/2/2025. متاح على الرابط التالي: https://shorturl.at/t00QW
2- سعيد الحاج. “قرن تركيا”.. رؤية إستراتيجية أم دعاية انتخابية؟ الجزيرة. نت. 13/11/2022. متاح على الرابط التالي: https://shorturl.at/BUQmn
3- إبراهيم فوزي. معاقبة أردوغان: لماذا خسر حزب العدالة والتنمية الانتخابات البلدية التركية 2024؟ مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة. 3/4/2024. متاح على الرابط التالي: https://shorturl.at/cOkxm
4- Itai Ilnai. Turkey: Israel’s next big threat? Israel Hayom. 24/2/2025. Available at: https://tinyurl.com/r9fykynb
