المقالات
مساعٍ أمريكية مُكثَّفة: كيف تطور واشنطن من إستراتيجيتها تجاه ليبيا؟
- مايو 12, 2024
- Posted by: Maram Akram
- Category: أوراق بحثية تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط
إعداد: رضوى الشريف
باحث متخصص في شؤون الشرق الأوسط
لم يكُنْ الملف الليبي من أوْلويات السياسة الأمريكية خلال السنوات الماضية؛ حيث انشغلت واشنطن بملفات أُخرى، مثل المواجهة مع الصين وكوريا الشمالية وإيران، ثم جاءت الحرب “الروسية- الأوكرانية”، في فبراير 2022، وأخيرًا العدوان الإسرائيلي على غزة، في أكتوبر 2023، ولكن في الأشهر الأخيرة، أصبح يتجه الحضور الأمريكي في ليبيا إلى مرحلةٍ جديدةٍ، عنوانها البارز تعزيز النفوذ الدبلوماسي والأمني وسط مساعٍ روسية للتغلْغُلِ في ليبيا.
بشكلٍ عامٍ ،يمكن القول: بأن العلاقات “الأمريكية- الليبية” مرَّت بثلاث مراحل منذ استقلال ليبيا عام 1951، الأولى: المرحلة الملكية التي استمرت حتى عام 1969، والثانية: المرحلة الثورية بقيادة الراحل العقيد “معمر القذافي” الذي أطاح بالملكية وأسس الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العُظْمى، التي استمرت حتى ثورة فبراير 2011، التي أطاحت بنظام القذافي، ودخلت ليبيا بعدها في حالة اضطرابٍ سياسيٍّ وعسكريٍّ وتنازُعٍ على السلطة، استمر حتى اليوم، رغم توقُّف العمليات المسلحة.
اتّسمت العلاقات بين الولايات المتحدة وليبيا طوال فترة حكم القذافي بالتوتُّر؛ بسبب ميوله اليسارية وتحالُفه مع الاتحاد السوفيتي، ومغامراته غير المحسوبة في دعْم الأنظمة والمنظمات اليسارية في أفريقيا وخارجها، ومع انطلاق أحداث ما يُعرف بـ”الربيع العربي” عام 2011، علّقت الولايات المتحدة أعمال سفارتها في طرابلس، في مارس 2011، وطلبت من السفارة الليبية في واشنطن تعليق أعمالها، لتعاود السفارتان استئناف أعمالهما، في سبتمبر2011، بعد سقوط نظام القذافي، ولكن في سبتمبر 2012، تعرَّضت القنصلية الأمريكية في بنغازي إلى هجومٍ مُسلَّحٍ؛ أدَّى إلى مقتل عدة أفراد من البعثة، من بينهم السفير الأمريكي، وفي يوليو 2014، علّقت السفارة الأمريكية أعمالها، وانتقلت إلى تونس، في مارس 2015؛ بسبب الصراعات المسلحة بين الفصائل الموالية للسلطة الشرعية وقوات اللواء خليفة حفتر، ومُنْذُ ذلك الحين، ما تزال تعمل السفارة الأمريكية في ليبيا من تونس.
ترك فكّ الارتباط هذا عن الملف الليبي، في ظلّ إدارة دونالد ترامب (2017-2021) مجالًا واسعًا أمام جهات أُخرى لملء الفراغ، لا سيما روسيا وتركيا، اللذان قاما بتعزيز نفوذهما في ليبيا خلال السنوات الماضية، ولكن مع المستجدات الطارئة على السَّاحةِ الدولية نتيجة الحرب “الروسية- الأوكرانية” وأزمة الطاقة، وأخيرًا الحرب على غزة، كُلّ هذا جعل الإدارة الأمريكية الحالية تُعيد ترتيب أوْلوياتها من جديد، بإعادة التركيز مرَّةً أُخرى على ليبيا، عن طريق التدخُّل المباشر في الشؤون الليبية لتعزيز وجودها، بدلًا من استخدام الوساطة الأوروبية.
تعرض هذه الورقة أبرز ملامح الانخراط الأمريكي المتزايد على الساحة الليبية في الأشهر الأخيرة، وكيف تعكس رؤية واشنطن تجاه الملف الليبي؟
مظاهر الانخراط الأمريكي المتنامي في ليبيا
تتنوع مظاهر الانخراط الأمريكي على الساحة الليبية في الأشهر الأخيرة على مختلف الأصعدة التي يمكن عرْضها كالآتي:
أولًا: الصعيد السياسي
وصلت الدبلوماسية الأمريكية “ستيفاني خوري” إلى طرابلس؛ لتباشر مهامها كرئيسة بالوكالة للبعثة الأممية، بعد استقالة المبعوث السابق “عبد الله باتيلي”، في 17 أبريل الماضي، معلنًا يأْسه من إمكانية التوصُّل إلى حلٍّ للأزمة الليبية، بالاعتماد على الآليات السياسية، وفي أوائل مارس الماضي، أُعلن عن تعيين “خوري” المنحدرة من أصول عربية لبنانية، في منصب نائبة للممثل الخاص للشؤون السياسية في ليبيا في بعثة “يونسميل”، خلفًا للدبلوماسي السابق الزيمبابوي “ريزيدون زينينغا”، الذي شغل هذا المنصب، منذ ديسمبر 2022، [1]وأفاد مراقبون حينذاك، بوجود ضغوطٍ أمريكيةٍ وراء عملية الإطاحة بـ” زينينغا”، الذي نقل إلى بعثة الأمم المتحدة في الصومال، ولفتوا إلى أن تعيين “خوري” بمثابة مراوغة أمريكية؛ للتحايل على المجتمع الدولي؛ لذلك تَعْقِدُ واشنطن الآمال على “خوري”؛ لتعزيز عملية مراقبة الملف الليبي، والتحكُّم فيما تشهده الدولة الواقعة بشمال أفريقيا.
كما أن تعيين “خوري” يحلّ – ولو مؤقتًا – مشكلة الخلاف الذي قد يطرأ على مجلس الأمن، بخصوص تعيين مبعوثٍ جديدٍ بدلًا عن “باتيلي”، ويعطي الدبلوماسية الأمريكية مجالًا واسعًا لقراءة الملف الليبي من جديدٍ بدقةٍ أكثر، والاطلاع على مختلف حيثياته، لا سيما في هذه الفترة التي تعتبر حاسمة وفارقة في مسار الأزمة، في ظل فشل المجتمع الدولي في حلحلة الصراع، وحتى في فهْم ما يدور في رؤوس الفرقاء.
كما يعكس اختيار “خوري” التي ترأَّس البعثة الأممية بالإنابة خلال الفترة القادمة، رغبةً أمريكيةً في تمرير العديد من سياساتها في ليبيا، وإفساح المجال من جديد أمام واشنطن؛ كي تتحكم بمُجْريات الأمور في البلد، ومواجهة النفوذ الرُّوسي الآخذ في التصاعُد داخل ليبيا خلال الآونة الأخيرة.
ويُعدُّ منصب نائب رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، مُنْذُ استحداثه بموجب مقترحٍ أمريكيٍّ، موقعًا وظيفيًّا إستراتيجيًّا بالنسبة إلى واشنطن، تعمل من خلاله على مراقبة الملف الليبي عن قُرْب؛ حيث تشبه الظروف التي أعلن فيها “باتيلي” عن استقالته ظروف استقالة المبعوث الأممي السابق لليبيا السلوفاكي “يان كوبتيش”؛ حيث تولَّت الأمريكية ” ستيفاني وليامز” مهامه، وقادت بصرامة عملية سياسية لمحاولة إنهاء الانقسام السياسي، الذي نشأ في ظروفٍ مشابهةٍ لظروف الانقسام الحالي.
ثانيًا: الصعيد الدبلوماسي
بعد ما يقارب من عشْر سنوات من مغادرة البعثة الأمريكية بنغازي، بدأت تُكثِّفُ واشنطن مساعيها في الأشهر الأخيرة؛ لإعادة دبلوماسيتها إلى ليبيا مرَّةً أُخرى، خاصَّةً أن الدبلوماسية عن بُعْد، جعلت من الصعب على المسؤولين الأمريكيين مراقبة الأحداث على الأرض، وبناء العلاقات الضرورية مع الجهات الفاعلة المحلية.
وفي عام 2012، تعرَّض المجمع الدبلوماسي للولايات المتحدة الأمريكية في مدينة بنغازي إلى هجومٍ من طرف مسلحين، أسفر عن مقتل السفير كريس ستيفنز وثلاثة دبلوماسيين آخرين، وفي 2014، قرَّرت واشنطن إجلاء موظفيها تحت حراسةٍ عسكريةٍ مُشدَّدةٍ إلى مالطا، ولاحقًا إلى تونس؛ حيث يُشكِّلُون ما بات يُعرف بـ”المكتب الخارجي لليبيا”.
وطوال هذه المدة، لم يكن الملف الليبي من أوْلويات السياسة الأمريكية؛ حيث انشغلت واشنطن بملفات أُخرى، مثل المواجهة مع الصين وكوريا الشمالية وإيران، ولكن عاد اهتمام واشنطن بملف ليبيا مرَّةً أُخرى، على خلفية تسريبات إعلامية تحدثت عن تحرُّكات وتحضيرات روسية؛ من أجل نشْر فيالق عسكرية جديدة في بعض البلدان الأفريقية، من بينها ليبيا؛ بهدف تعويض مجموعة فاغنر، بعد مقتل مسؤولها السابق، يفغيني بريغوزين.
كم يمكن القول هنا: بأن واشنطن تسعى أيضًا للحاق بالركب؛ حيث قام العديد من شركائها، بإعادة فتْح سفاراتهم في السنوات الأخيرة، بما في ذلك إيطاليا في عام 2017، وفرنسا في عام 2021، والمملكة المتحدة في عام 2022.
وفي إطار مساعيها لإعادة فتْح سفارتها مرَّةً أُخرى، أفادت شبكة “المونيتور”، بأن وزارة الخارجية الأمريكية قدَّمت إخطارًا رسميًّا إلى الكونجرس الأمريكي، في شهر مارس الماضي، لبدْء عمليةٍ تستغرق عامًا إلى عاميْن، يتم بموجبها إنشاء مُنْشَأَةٍ دبلوماسيةٍ مُؤقَّتةٍ في العاصمة الليبية طرابلس، وتضمن الإخطار بمطالب مالية قُدِّرت بـ 57.2 مليون دولار؛ لتمويل وجودٍ دبلوماسيٍّ أكثر قوة في ليبيا، بما في ذلك تكاليف الممتلكات والسفر والمعدات والأمن في منشأتها الواقعة في الضواحي الغربية لطرابلس.[2]
وتُشدِّدُ وزارة الخارجية على أن خُطَّةَ تشغيل سفارتها، التي استغرق إعدادُها عاميْن، تشتمل على ضماناتٍ مُحدَّدةٍ بوضوحٍ؛ لضمان سيْر العمل الدبلوماسي بأمانٍ وفعاليةٍ، وقد أطلعت الوزارة ونسّقت بشكلٍ وثيقٍ مع لجان الكونغرس ذات الصلة بشأن الترتيبات اللوجستية والأمنية في بالم سيتي، وهو مجتمع فاخر في حي جنزور بطرابلس؛ حيث تستأجر الولايات المتحدة حاليًا عقارات، ويستضيف المجمع المترامي الأطراف أيضًا مزيجًا من شركات النفط والغاز والمنظمات غير الحكومية والبعثات الأجنبية الأخرى، بما في ذلك بعثات الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.[3]
ثالثًا: الصعيد الأمني
تُمثِّلُ التحرُّكات الأمريكية على الصعيد الأمني خلال الفترة الأخيرة مظهرًا من أهم مظاهر الانخراط المباشر في البلاد؛ حيث أفادت مصادر صحفية، أن حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، تلقَّت إملاءات من الولايات المتحدة الأمريكية، تتعلق بالتشكيلات المسلحة في مناطق الغرب الليبي، بدأت بعدها الحكومة بتنفيذ خطة أمنية؛ لتوحيد صفِّ هذه الجماعات المسلحة في العاصمة الليبية طرابلس ومناطق غرب ليبيا، مستهلة ذلك بزيادة قوة وكفاءة التشكيلات المسلحة العاملة ورفْع جاهزيتها، وصولًا إلى توحيدها ككيانٍ واحدٍ، بدعم وإشراف من مستشارين أمريكيين.[4]
ونشرت مصادر ليبية تقريرها بعد تصريحات مثيرة للجدل، أطلقها رئيس الحكومة في طرابلس، عبد الحميد الدبيبة، نهاية شهر يونيو 2023، مشيرًا فيها إلى أن “المسلحين في المنطقة الغربية هم في مقامٍ واحدٍ مع الأجهزة الأمنية والجيش”، وأن الفصائل المسلحة بدأت تتدرب على السلاح والتعامُل مع المواطنين في الشرطة والجيش، و بهذه التصريحات نفى “الدبيبة” جميع الإشاعات التي كانت منتشرة حول خطة واشنطن لتوحيد صفّ الجماعات المسلحة في المنطقة الغربية لليبيا، وحوّلها إلى حقيقةٍ وواقعٍ سياسيٍّ وعسكريٍّ على جميع الأطراف السياسية في المشهد الليبي.
ليتبعها رصْد وسائل الإعلام، جون بوزارث، نائب مدير علميات أفريقيا في شركة “Amentum” الأمنية الأمريكية، برفقة مستشارين في طرابلس، خلال شهر فبراير الماضي، وفي 17 مارس الماضي، كشفت الإذاعة الفرنسية عن أنباء بوجود شركة ” أمنتوم ” الأمريكية في طرابلس؛ بهدف توفير التدريب العسكري للجماعات المسلحة؛ من أجل دمْجها في القوات الرسمية للدولة. [5]
وتُعدُّ شركة “أمنتوم” الأمريكية الخاصَّة والناشطة في المجال الأمني، ثاني أكبر مقاول في قطاع الدفاع في أمريكا، وجرى إنشاؤها في العام 2020، وستخلف الشركة العسكرية “دينكورب” التي عملت أيضًا مع السلطات الأمريكية، وسبق لها أن قدَّمت التدريب لقوات الأمن في العراق وأفغانستان وغيرها، وفْق الإذاعة الفرنسية الحكومية.
الدوافع الكامنة وراء الانخراط الأمريكي المتنامي في ليبيا
يمكن القول: بأن سياسة الولايات المتحدة في ليبيا تتمحور حول ثلاث قضايا أساسية وهي كالآتي:
أولًا: التصدِّي للنفوذ الرُّوسي المتزايد على السَّاحة الليبية
مواجهة الوجود الرُّوسي المتزايد في ليبيا تحديدًا، وأفريقيا على وجه العموم، يُمثِّل أحد مُحدِّدات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه ليبيا، التي تميَّزت بزيادة النَّشاط في السنوات الأربع الأخيرة، وتحديدًا بعد التدخُّل الرُّوسي المباشر، في منتصف عام 2019، من خلال إرسال طائرات حربية روسية إلى مطار الجفرة العسكري في وسط ليبيا، وما سبقه من تزايد لوجود قوات فاغنر، التي تسجّل وجودًا عسكريًّا متناميًا في دول أفريقية، مثل تشاد ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وبوركينافاسو وجنوب السودان.
وحتى بعد مقتل قائد الفاغنر “يفغيني بريغوجين”، في أغسطس 2023، تمَّ رصْد تحرُّكات روسية عديدة في ليبيا، خلال الأشهر الأخيرة، تهدف إلى الانتهاء من تشكيل مجموعة قتالية جديدة تتلقَّى تعليماتها مباشرة من وزارة الدفاع في موسكو؛ للقيام بعمليات في 5 دول أفريقية، تحت اسم “الفيلق الرُّوسي”، وهذه الدول هي (بوركينا فاسو، وليبيا، ومالي، وجمهورية أفريقيا الوسطى، والنيجر).[6]
وفي الأشهر الماضية، سرّبت بعض المصادر الإخبارية عن مخططات روسية لإنشاء قاعدة عسكرية على المنفذ البحري في شرق ليبيا، وعلى الرغم من نفْي المسؤولين الرُّوس لذلك، فإن الوصول إلى منفذٍ بحريٍّ على سواحل المتوسط في شرق ليبيا، يُعتبر جانبًا إستراتيجيًّا للتحرُّكات الرُّوسية، هذه التحرُّكات في منطقة المتوسط وشمال أفريقيا، تعكس أهميتها في تأثيرها المحتمل على جنوب أوروبا، بالإضافة إلى الفُرَص اللوجستية الكبيرة التي توفرها ليبيا في هذه المنطقة الحيوية لأوروبا والولايات المتحدة.
ثانيًا: وضْع الطاقة
مع بداية الألفية الجديدة، وظهور مفهوم “أمن الطاقة والصراع بين روسيا وأوروبا” حول تأمين إمدادات النفط والغاز، وإيلاء الولايات المتحدة اهتمامًا كبيرًا لهذا الملف، أضيف البُعْد الأمني للأهمية الاقتصادية، وبعد الثورة الليبية والفوضى الأمنية التي حلَّت بالبلاد والانقسام التي لاتزال تشهده إلى الآن، أصبحت تتعلق أهمية ليبيا الجيوسياسية بالأمن بمفهومه الشامل، والذي يُشكِّلُ أمن الطاقة أحد محاوره الأساسية؛ فتأمين إمدادات النفط والغاز يُشكِّلُ هاجسًا أمنيًّا قويًّا، وتدور حوله الكثير من المواقف والسياسات الخارجية والداخلية، وهنا يكْمُنُ جُزْءٌ من خطورة الدور الرُّوسي في ليبيا من منظور “أوروبي- أمريكي”؛ فقبل الحرب “الروسية- الأوكرانية” كانت تعتمد أوروبا على روسيا في استيراد ما يقارب 30% من احتياجها من النفط، و 40% من احتياجها من الغاز. [7]
ولكن بعد الحرب “الروسية- الأوكرانية” سعت أوروبا بشكلً جادٍّ في البحث عن مصادر أُخرى؛ لتنويع وارداتها منهما، وبين سعْي أوروبا لتنويع مصادرها، وسعْي روسيا لتطويق أوروبا، تبرز أهمية دول أفريقيا والشمالية، خصوصًا تلك التي تمتلك احتياطيات كبيرة ومنافذ مُطِلّة على شواطئ أوروبا الجنوبية.
لذا يُشكِّلُ ملف الطاقة أحد أهمِّ الطُّرُق الأساسية التي تفرض بها روسيا نفوذها، وهو ملفٌ يطغى فيه البُعْدَان “الأمني، والسياسي” على البُعْد الاقتصادي، وفي ظلِّ الصراع والانقسام الحاصل في ليبيا اليوم، وجدت روسيا لنفسها مكانًا -عبْر دعم المشير حفتر في المنطقة الممتدة عبْر حوضيْ “سرت، ومرزق”، اللذان يزْخَران بمخزوناتٍ كبيرةٍ من النفط والغاز؛ حيث يضمن هذا التمركُز التواجد بالقرب من أهم حقول النفط المنتجة، والتواجُد وسط المخزونات النفطية والغازية التي حتى لم تُستخرج بعد.
وبناء عليه، تركّز الولايات المتحدة كقوى منافسة على وضْع الطاقة في ليبيا؛ بسبب الصراع الجيوسياسي الحالي بين الغرب وروسيا، وتسعى واشنطن إلى القيام بعودةٍ قويةٍ إلى ليبيا من بوَّابة الاستثمارات في القطاع النّفْطِي؛ حيث تريد ضمان بقاء قطاع الطاقة في ليبيا محصنًا ضد أيِّ اضطراباتٍ كبيرةٍ قد تنْجُمُ عن الاقتتال السياسي الجاري أو الانقسامات المؤسسية أو عدم الاستقرار العام في ليبيا.
ثالثًا: مكافحة الإرهاب
استندت واشنطن باستمرارٍ إلى محاربة الإرهاب كأساسٍ لكيفية تعامُلها مع المنطقة، ويزداد التخوُّف من عودة ظهور التهديدات الإرهابية في المناطق الجنوبية والغربية، فقد رُصِدَتْ مجموعاتٌ وعناصرُ جهادية، ووقعت اشتباكات في بعض الأحيان، في خلال الأشهر الأخيرة، وتشهد مناطق في طرابلس ازديادًا في تواجُد الجماعات المتطرفة، لا سيما في منطقة جنزور ومدينتَيْ “الزاوية، وصبراتة”، التي تقع كُلُّها غرْبَ طرابلس، ويزداد الوضْع سُوءًا؛ بسبب تركيا ووكلائها الإسلاميين في غرب ليبيا، الذين يسعوْن إلى إعادة تحديد المشهد الأمني بطُرُقٍ يمكن أن تُرسِّخَ الوجود العسكري التركي في ليبيا.
وحتى مع تداعيات الانقلاب العسكري في النيجر على ليبيا ومنطقة الساحل الأفريقي وسعْي موسكو لتأسيس الفيلق الأفريقي ليحلّ محلّ الفاغنر في عِدَّة دول أفريقية، من ضمنها ليبيا وأفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو والنيجر، تدفع هذه المتغيرات الولايات المتحدة الأمريكية للعمل على تطوير إستراتيجيات جديدةٍ تُواكب التطورات الحاصلة في المنطقة.
استنتاجات ختامية
- مازال الملف الليبي مَحَطَّ أنظار القُوى العُظْمَى في العالم، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، فبعد أن اتّجهت الإدارة الأمريكية الحالية لتقليل التواجُد والتفاعُل مع مشكلات الشرق الأوسط وأزماته، عملت الأزمة الليبية على جذْبها مرَّةً أُخرى إلى المنطقة، خاصَّةً في ظلِّ اهتمام دول أُخرى كروسيا وتركيا والصين وغيرهم بهذا الملف.
- تعمل روسيا مُنْذُ مقتل قائد فاغنر “يفغيني بريغوجين “على تشكيل مجموعةٍ قتاليةٍ جديدةٍ تتلقَّى تعليماتها مباشرة من وزارة الدفاع في موسكو؛ للقيام بعمليات في 5 دولٍ أفريقيةٍ تحت اسم “الفيلق الروسي”، وتستغلُّ موسكو الوضْعَ الهشَّ في ليبيا؛ لكي تجعلها كـ “مفتاحٍ” للدخول إلى دول الساحل والصحراء في القارة الأفريقية.
- يؤدي عدم استقرار دول الساحل الأفريقي التي استعانت بقوات فاغنر الرُّوسية، والتي لاتزال تُعاني من الحروب الأهلية والإرهاب والحركات الانفصالية، إلى دفْع هذه الدول للبحث عن شريكٍ أمنيٍّ وسياسيٍّ آخرَ، يُحقِّقُ التوازُن المطلوب، وبالتالي كان على الولايات المتحدة الأمريكية تطوير إستراتيجيتها لإحداث التوازن الأمني، والحدّ من النفوذ الرُّوسي في هذه الدول.
- تتقاطع ليبيا مع ملفات أُخرى تحتلُّ أوْلويةً لدى واشنطن، مثل ملف الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، وتنامي النفوذ الرُّوسي في المنطقة، واستقرار حِلْف الناتو، بالإضافة إلى إمدادات النّفْط والغاز؛ الأمر الذي يجعل واشنطن تُكثِّفُ من تحرُّكاتها في ليبيا مرَّةً أُخرى؛ من أجل الضغط على جميع اللاعبين على قبول الترتيبات الجديدة تحت القيادة الأمريكية.
- إن كافَّة مُحدِّدات الشراكة الإستراتيجية الأمريكية مع المؤسسات الليبية على المستوى السياسي والاقتصادي والتنموي، تصُبُّ في اتجاه مواجهة النفوذ الرُّوسي في ليبيا عامَّة والجنوب بشكلٍ خاصٍ؛ حيث يُشكِّلُ الجنوب الليبي نُقْطَةً مهمةً في الإستراتيجية الأمريكية؛ من أجل إحراز تقدُّمٍ في دول الساحل الأفريقي.
- ليبيا “مُعرَّضة لخطر أن تكون ساحةً لتصفية الحسابات” بين القُوى العُظْمى؛ حيث تسعى الدول الغربية في التدخُّل لمواجهة النفوذ الرُّوسي في ليبيا، لكنهم سيجدون مُعْضِلَةً في التعامُل مع “الميليشيات” بالمنطقة الغربية، التي تتصرف مثل “الدويلات” في نطاق نفوذ كُلٍّ منها.
المصادر:
[1] Guterres appoints Stephanie Khoury as Deputy Special Representative for Political Affairs in UNSMI, Libyan News Agency, March 2024, available at : https://lana.gov.ly/post.php?lang=en&id=303134
[2] Inside the plan to send American diplomats back to Libya, AL- Monitor, March 2024, Available at: https://www.al-monitor.com/originals/2024/03/inside-plan-send-american-diplomats-back-libya
[3] مرجع سابق
[4] شركة أمنية أمريكية تشرف على عملية توحيد الميليشيات المسلحة في الغرب الليبي، موقع نبض، فبراير 2024، متاح على الرابط: https://shorturl.at/uKLPR
[5] Libya changes focus of international security partnership from Türkiye to US, United World, April 2024, available at: https://uwidata.com/33946-libya-changes-focus-of-international-security-partnership-from-turkiye-to-us/
[6] هكذا بات “الفيلق الروسي” بديلا لـ”فاغنر” في أفريقيا، اندبنتدنت بالعربية، مايو 2024، متاح على الرابط: https://shorturl.at/gvC13
[7] الحرب الروسية الأوكرانية والأمن الطاقي: السياق والتداعيات، مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، يناير 2024، متاح على الرابط: https://www.idsc.gov.eg/Article/details/8945