أعلنَ رئيسُ مجلس الدولة الصيني “لي تشيانغ” في 19 يوليو الجاري عن بدءِ أعمالِ بناءِ مشروع سدٍّ ضخمٍ للطاقة الكهرومائية على نهر يارلونغ تسانغبو في التبت، باستثماراتٍ تُقدّر بنحو 1.2 تريليون يوان (حوالي 167.8 مليار دولار أمريكي). يتكونُ المشروعُ من خمسِ محطاتٍ كهرومائيةٍ متسلسلةٍ، ويقع بالقرب من ولاية أروناتشال براديش الهندية. ويثير المشروع، الذي يُعد الأضخم من نوعه عالميًا، نقاشًا واسعًا بشأن انعكاساته على تدفقات المياه في الهند وبنغلاديش الواقعتين على مجرى النهر. [1]
خلفية عن المشروع:
كانت الصين قد أقرت في 25 ديسمبر الماضي خُططَ بناءِ السدّ على الروافد السفلى لنهر يارلونغ تسانغبو، مع توقعاتٍ بأن يصبحَ عند اكتماله أكبر مُنشأةٍ للطاقة الكهرومائية في العالم. ومن المقرر أن تصلَ قدرتهُ الإنتاجيةُ إلى نحو 300 مليار كيلوواط/ساعة سنويًا، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف سعة “سد الخوانق الثلاثة” الحالي في الصين. وتخطط بكين لإنجاز المشروع بحلول عام 2033 بطاقةٍ مُستهدفةٍ تبلغ 60 ألف ميجاوات، على أن تُخصص الكهرباء المنتجة لتغطية احتياجاتٍ محليةٍ في التِبِت ونقل الفائض إلى مناطق أخرى داخل الصين.[2]
الأبعاد الجيوسياسية
يمثّلُ مشروع سد يارلونغ تسانغبو نقطةَ توترٍ محتملةً بين الصين والهند، نظرًا لمرور النهر عبر منطقة أروناتشال براديش المتنازع عليها، والتي تُعد مصدرًا رئيسيًا للمياه في شمال شرق الهند. ورغم تأكيد بكين أن السد لن يخلّف آثارًا سلبيةً على تدفقات المياه باتجاه المصب، فإن المخاوف الهندية والبنغالية تظلُ قائمةً، خصوصًا فيما يتعلق بتأثير المشروع على الأمن المائي والإنتاج الزراعي. [3]
يتحول النهر بعد مغادرته التِبِتْ إلى نهر براهمابوترا، عابرًا ولايتي أروناتشال براديش وآسام في الهند قبل أن يصلَ إلى بنغلاديش. هذا المسار يجعل كلا الدولتين من أكثر الأطراف المعنية بالمشروع، إذ تخشى الهند من أن يؤديَ التحكّم في تدفقات المياه أو عمليات التخزين الضخمة إلى فيضاناتٍ مفاجئةٍ أو نقْصٍ في المياه[4]، وهو ما ارتبط بتجارب سابقة في أحواض أنهارٍ أخرى، مثل نهر الميكونج. وقد أشارت نيودلهي إلى إمكانية تسريع مشاريعها الكهرومائية في أروناتشال براديش بقدرةٍ تصل إلى 10 جيجاوات لموازنة النفوذ المائي الصيني. [5]
أما بنجلاديش، فترى في النهر شريانًا حيويًا للزراعة والإمدادات المائية، خصوصًا في مواسم الجفاف. ويحذّر خبراء محليون من أن أي تغييراتٍ في تدفقات النهر أو عمليات تخزين المياه قد تؤدي إلى تراجع خصوبة الأراضي في دلتا النهر وزيادة مخاطر تآكل التربة، ما ينعكسُ سلبًا على الأمن الغذائي. كما أن المخاوفَ تتصاعد من إمكانية استخدام البنية التحتية للسدّ كورقةِ ضغطٍ في النزاعات الإقليمية. [6]
تاريخيًا، شهدت العلاقات الصينية الهندية حوادث تعليق مشاركة البيانات الهيدرولوجية. أبرز الأمثلة على ذلك أزمة دوكلام الحدودية عام 2017، التي استمرت 73 يومًا، حيث علّقت الصين مؤقتًا تزويد الهند ببياناتِ نهر براهمابوترا. برّرت بكين هذا الإجراءُ بضرورة تحديث محطات القياس، لكنها في الوقت نفسه واصلت مشاركة البيانات مع بنغلاديش، ما أثارَ تساؤلاتٍ حول نواياها الفعلية في سياق التوتر الحدودي. وتُظهر هذه الواقعة نمطًا أوسع يشير إلى أن نقصَ الشفافية في تبادل البيانات الهيدرولوجية يعكّرُ الثقةَ بين دول الأحواض المشتركة، ويزيدُ من احتماليةِ اتخاذِ سياساتٍ احترازيةٍ وتصاعد التوترات السياسية المرتبطة بالمياه العابرة للحدود. [7]
وقد أشارت التقارير إلى أن الهند فقدتْ القدرةَ على تفسير مصادر الفيضانات الموسمية، وهو ما أدى إلى كوارثَ كبيرةٍ أسفرت عن مقتل العشرات وتشريد مئات الآلاف.[8]
على الرغم من التحسّن النسبي في العلاقات بين بكين ونيودلهي عَقِبَ قمة نوفمبر 2024، يمثّلُ مشروعُ سدّ يارلونغ تسانغبو اختبارًا جديدًا لمدى قدرة الطرفين على إدارة القضايا الخلافية عبر قنواتٍ دبلوماسيةٍ مستقرةٍ. فالهند تنظر إلى المشروع بوصفهِ خطوة قد تغيّر معادلات الأمن المائي في ولاياتها الشمالية، وتضيفُ ورقةَ ضغطٍ صينية في أي مفاوضاتٍ حدوديةٍ مستقبليةٍ.
مخاوف متعددة
أثارَ دُعاةُ حماية البيئة مخاوف بشأن بناءِ سدودٍ واسعة النطاق في مضيق يارلونغ تسانغبو الهش بيئيًا، حيث تُعد المنطقةُ محميةً طبيعيةً وطنيةً تُصنّف من بين أغنى مناطق التنوع البيولوجي في الصين. ويُحذّر النقاد من أن مثل هذا البناء قد يُسبب أضرارًا لا رجعةَ فيها للنظام البيئي ويُشرّد المجتمعات المحلية.[9] ويشير بعض الخبراء إلى أن أي تغيير ٍمفاجئٍ في تدفقات المياه أو إفراجٍ طارئٍ للمياه من جانب الصين قد يتسببُ في فيضاناتٍ مدمرةٍ تؤثر على ملايين السكان في شمال بنغلاديش.[10]
يُعد نهر يارلونغ تسانغبو، شريانًا مائيًا استراتيجيًا يعتمد عليه 80 مليون شخص في الهند وبنغلاديش بشكلٍ مباشرٍ، بما يجعله موردًا أساسيًا للأمن الغذائي والاقتصادي في المنطقة. فمثلا يعتمد اقتصاد بنغلاديش الزراعي بدرجةٍ أكبر على هذا النهر، إذ تغطي تدفقاتُه أكثر من 60% من احتياجاتها المائية. في المقابل، تعتبرُ الصين ندرة المياه تهديدًا وطنيًا. فمن غير المُرجّح أن تُقدمَ الدول أي تنازلاتٍ بشأن احتياجاتها المائية في النهر، بل ستتخذُ موقفًا مُحافظًا للغاية في أي مفاوضاتٍ بشأن المياه. لذا، ليس من المُستغرب أن تتصاعدَ حدّةُ التنافس بين الدول المُشاطئة للسيطرة على تدفقات المياه. [11]
ويزدادُ قلقُ بنغلاديش من سدّ الطاقة الكهرومائية المتوقّعِ في الهند على نفس النهر بقدرة 10 جيجاوات وسعة تخزين مياه كبيرة، وهناك تكهناتٌ بأن السدَّ الهندي سيكون له تأثيرٌ مباشرٌ كبيرٌ على بنغلاديش، حيث إن الحصةَ الأكبرَ من النهر تأتي من داخل الحدود الهندية، بينما يأتي 30 إلى 40٪ فقط من التبت.[12]
موقف الهند:
أعربت وزارة الخارجية الهندية عن قلقها من المشروع الصيني، وأكدت أنها تقدمتْ بمذكرةِ احتجاجٍ رسميةٍ عبر القنوات الدبلوماسية، مشددةً على ضرورة أن تراعي الصين مصالح دول المصب. وطالبت نيودلهي بكين بالالتزام بالشفافية وتبادل المعلومات المتعلقة بتأثيرات السد، وعدم اتخاذِ قراراتٍ أُحاديةِ الجانب يمكن أن تضرَ بمصالح الهند وباكستان.[13]
وصرّحت الحكومة الهندية بأنها تراقب التطورات المرتبطة بالمشروع “عن كَثَب”، مع اتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة لحماية مصالحها الحيوية وسكان ولايات الشمال الشرقي، خصوصًا أسّام وأروناتشال براديش. وأكدت وزارة الموارد المائية أن الخبراءَ الهنود يتابعون بشكلٍ دوريٍ تأثيراتِ أي مشاريعَ صينيةٍ على تدفق المياه.[14]
ضمن ردودها الاستراتيجية، تدعم الهند خطط إنشاء مشاريع كهرومائية على نهر “سيانغ” وهو اسمٌ آخرُ لنفس النهر “براهمابوترا” داخل أراضي الهند، كخطوةٍ موازنةٍ لمشاريع الصين، مع طرْحِ دعواتٍ من خبراءَ وسياسيين هنود للتفاوض حول معاهدةٍ شاملةٍ لتقَاسمِ مياه الأنهار العابرة للحدود، على غرار معاهدات المياه الإقليمية.[15]
موقف بنجلاديش:
منذ مارس الماضي، أعربت حكومة بنغلاديش عن قلقٍ بالغٍ بشأن مشروع السدّ العملاق الذي تبنيه الصين على نهر يارلونغ تسانغبو والذي يُعرفُ في بنجلاديش باسم (نهر جامونا)، والذي يشكّل الامتداد الأعلى لنهر براهمابوترا في الهند. ووجّهت وزارة الموارد المائية في طلبًا رسميًا إلى بكين للحصول على وثائقَ فنيةٍ، تشملُ دراساتِ الأثر البيئي، تقييم التغير المناخي، وتحليل المخاطر المحتملة للسد، إلا أن السلطات الصينية لم تردّْ على تلك المطالب.[16]
الموقف الصيني
تؤكدُُ الصين أن المشروع خضعَ لتقييمٍ بيئيٍ دقيقٍ، وأنه لن يؤثر سلبًا على البيئة الطبيعية أو الاستقرار الجيولوجي أو الوضع الهيدرولوجي في دول المصب. كما تعهد وزير خارجية الصين باتخاذِ إجراءاتٍ تضمنُ سلامة البيئة وحماية دول المصبّ، مشيرًا إلى التعاون القائم مع الدول المعنية في تبادل البيانات الهيدرولوجية، والوقاية من الكوارث، والاستجابة لحالات الطوارئ. وتبرزُ هنا أهميةُ آلية الحوار التي أنشأتها بكين ونيودلهي عام 2006 للتعامل مع قضايا الأنهار العابرة للحدود، والتي شهدتْ أحدثَ اجتماعاتها الافتراضية في مايو 2022. [17]
التداعيات الإقليمية
يمثّلُ مشروع سد يارلونغ تسانغبو خطوةً بارزةً في مسار الصين لتعزيز نفوذها المائي كدولةِ منبعٍ، إذ يُثير بناءُ سدٍّ بهذا الحجم – دون اتفاقياتٍ ملزمةٍ مع دول المصب – تساؤلاتٍ حول مستقبل إدارة المياه المشتركة في المنطقة. ورغم مشاركة الصين في آليات تعاون مثل لجنة نهر الميكونج، إلا أن خطواتِها الأحاديةَ على نهر براهمابوترا تقلّل من ثقة الدول الشريكة في فاعلية هذه الأطر، وتُظهر الحاجة إلى أُطرٍ أكثرَ صلابةً تضمن مراعاة مصالح جميع الأطراف.
كما يُنظرُ إلى مشاريع السدود الصينية باعتبارها أداةَ تأثيرٍ جيوسياسيٍ، خاصةً بالنسبة للدول التي تعتمدُ بشكلٍ كبيرٍ على التدفقات المائية القادمة من الصين. وفي الوقت الذي تستخدم فيه بكين مشاريع براهمابوترا لتعزيز مكانتها التفاوضية مع الهند وبنغلاديش، تُثير هذه الخطواتُ قلقَ دول الميكونج من إمكانية تكرار هذا النموذج على نهر الميكونج.
مصداقية الموقف الهندي
يطرحُ موقف الهند من مشروعِ السد الصيني على نهر يارلونغ تسانغبو إشكالياتٍ متعلقةً باتساقِ مبادئها في إدارة المياه العابرة للحدود. فبينما تعترض نيودلهي على القرار الأحادي الصيني، انسحبت مؤخرًا من معاهدة مياه السند مع باكستان (1960)، وهي من أقدم اتفاقياتِ التعاونِ المائي في المنطقة. جاء هذا الانسحاب دون تقديمِ إطارٍ بديلٍ، ما يجعل موقفها القانوني عند مطالبة الآخرين بمراعاة مبدأ التشاور وعدم الإضرار غير قويٍ.
ويكشف هذا التباينُ أن الهند تميل إلى تبنّي مقارباتٍ مختلفةٍ وفق موقعها من النهر – دولة منبع أو مصب. ولتعزيز موقفها التفاوضي، تبدو الهند بحاجةٍ إلى تطوير سياسةٍ أكثر اتساقًا تقوم على احترام القانون الدولي للأنهار المشتركة، والسعي إلى صياغةِ أُطرِ تعاونٍ جديدةٍ، بما يحقق توازنًا أكبر بين المصالح الإقليمية.
غياب الأولوية الدولية للأمن المائي
على الرغم من أن قضايا المياه العابرة للحدود تمثّل محورًا استراتيجيًا للتنمية والأمن الإقليمي، فإنها لم تحظَ بعد بالأولويةِ على الأجنداتِ الدولية مقارنةً بالقضايا الاقتصادية أو العسكرية. يتضحُ هذا الأمر في آسيا، حيث تتوسع مشاريع السدود العملاقة مثل براهمابوترا والميكونج دون وجودِ اتفاقياتٍ ملزمةٍ أو آلياتٍ فعّالةٍ للتنسيق بين الدول المعنية.
ويتيحُ هذا الوضع للصين مساحةً أوسع للتحرك وفق مبدأ السيادة على منابع الأنهار، في ظل غيابِ تحالفاتٍ أو آلياتِ ضغطٍ قويةٍ من الدول المشاطئة. كما أن القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تركّز على التنافس مع الصين في مجالات التجارة والتكنولوجيا والأمن، بينما تتعامل مع ملف المياه باعتباره أقل إلحاحًا.
مع ذلك، يمكن للدبلوماسية الدولية أن تستثمرَ هذا الملفَ كأداةٍ لبناءِ شراكاتٍ جديدةٍ. إذ إن دعم مشاريع حماية البيئة، وتعزيز تبادل البيانات الهيدرولوجية، وتطوير نظم إنذار مبكر للكوارث، قد يشكل أرضية للتعاون بدلاً من أن يتحول ملف المياه إلى بؤرة صراع.
ختامًا:
تكشفُ المُعطياتُ أن مشروعَ سدِّ يارلونغ تسانغبو ليس مجردَ مشروع طاقة كهرومائية، بل يمثّل ورقةً استراتيجيةً تُضاف إلى أدوات الصين في تعظيم نفوذها الإقليمي. في المقابل، يضع هذا المشروع الهند وبنغلاديش أمام معادلةِ أمنٍ مائيٍ معقّدة، ويأتي ذلك في ظل هشاشةِ الأطر القانونية الدولية وضعْفِ التعاون الإقليمي، وتَزايدِ التوترات الإقليمية عقب انسحاب الهند الأحادي من معاهدة مياه السند مع باكستان، في خطوةٍ اعتُبرت تقويضًا لقواعد إدارة المياه المشتركة، ما يقلل من قدرتها على بناءِ خطابٍ مبدئيٍ قويٍ ضد الخطوات الصينية. هذه الديناميات المتشابكة تعزز من احتمالية تحوّل ملف المياه إلى أداة ضغطٍ استراتيجيةٍ. وعليه، يصبحُ من الضروري دعمُ أي مساراتٍ دوليةٍ تهدف إلى تعزيز الالتزامات القانونية الخاصة بالمياه وحماية أمنها الإقليمي.
