تُعدُّ مصر أحد الفاعلين الرئيسيِّين في ملف إعادة الإعمار في المنطقة العربية؛ حيث تبنّت هذا الدور كإحدى الأدوات المستحدثة في سياستها الخارجية؛ لمواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية المحيطة بها، وتعزيز استقرارها الإقليمي، وعلى الرغم من التحديات الاقتصادية التي تواجهها، فإن القاهرة لم تتوانَ عن تقديم دعْمها للدول العربية التي شهدت دمارًا واسعًا نتيجة النزاعات والصراعات؛ إدراكًا منها لأهمية إعادة البناء في ترسيخ الأمن والاستقرار، سواء على المستوى الوطني أو القومي العربي.
ومع تصاعُد الحديث عن إعادة إعمار غزة بعد الحرب الإسرائيلية التي استمرت لأكثر من 16 شهرًا، يبْرُزُ الدور المصري مُجدَّدًا بوصفه حَجَرَ الزَّاوية في جهود إعادة إعمار القطاع؛،وهو ما يتماشى مع رؤية مصر الإستراتيجية تجاه غزة، التي تنبع من منطلقات أمنية ووطنية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأمن القومي المصري والعربي، وفي هذا السياق، تطرح القاهرة خططًا شاملةً لإعادة الإعمار، مستندةً إلى خبراتها المتراكمة في هذا الملف، والتي برزت بوضوحٍ في إعادة إعمار العديد من الدول العربية، مثل العراق، ليبيا، والسودان.
واستنادًا إلى أهمية هذا الدور الحيوي، يستعرض هذا التقرير أبرز المحطَّات التي شكَّلت فيها مصر عنصرًا فاعلًا في جهود إعادة الإعمار، مُسلِّطًا الضوء على خبراتها المتراكمة، وشركاتها الرائدة، وآليات التنفيذ الفعَّالة للمشروعات المعنِيَّة بإعادة البناء؛ ما يؤهلها لقيادة مساعي إعمار غزة خلال المرحلة المقبلة.
الدور الريادي لمصر في ملف إعادة الإعمار:
لعبت مصر دورًا مِحْوَريًّا في جهود إعادة الإعمار بالدول العربية التي شهدت نزاعات وصراعات، مستندةً إلى خبراتها الهندسية الواسعة، وشركاتها الرائدة، وعلاقاتها الإستراتيجية، وتأتي هذه الجهود في إطار رؤيتها الهادفة إلى تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي، انطلاقًا من التزامها بدعم الأمن القومي العربي، وقد تجلَّى هذا الدور بوضوحٍ في العديد من دول المنطقة، لعل أبرزها على سبيل المثال لا الحصر؛ العراق، وليبيا، وسوريا، وغزة.
الحالة الليبية: قامت الحكومة المصرية بتفعيل أدواتها الاقتصادية، من خلال دعم ليبيا، والتركيز على مشاريع إعادة الإعمار، خاصَّةً في بنغازي؛ حيث تمَّ توقيع نحو 6 عقودٍ تنفيذيةٍ و14 اتفاقيةً ومذكرة تفاهم اقتصادية، في عام 2021، تتعلق بمجالات النقل والمواصلات والصحة والقوى العاملة، بالإضافة إلى الاستثمار في الكهرباء والرَّبْط الدولي للاتصالات والتدريب وبناء القدرات، وفي مدينة درنة الليبية التي تعرضت لأضرار كبيرة؛ نتيجة إعصار دانيال المدمر الذي حدث في سبتمبر 2023، كانت مصر من الدول الرائدة في جهود إعادة إعمار المدينة؛ إذ بدأت مراسم توقيع العقود الأولى للمشاريع الخاصة بهذا المجال، منذ يناير 2024.[1]
وقد انصبت هذه المشاريع لصالح مصر؛ حيث ساعدت على تنشيط سوق العمل المصري، من خلال توفير فرص عمل لملايين العمالة المصرية واستقطاب آلاف الأطنان من مواد البناء، مثل حديد التسليح والطوب والإسمنت؛ ما يعزز قطاعات الإنتاج لهذه المواد ويساهم بالتالي في انتعاش الاقتصاد المصري، وبالنظر إلى القُرْب الجغرافي بين القاهرة وطرابلس -التي تعتبر جناحًا غربيًّا لمصر- فإن استقرارها ونموها الاقتصادي يسهمان بشكلٍ كبيرٍ في تعزيز الاستقرار النسبي ليس فقط داخل مصر ولكن أيضًا بالمنطقة بأسرها، علاوةً على مكافحة بُؤَر الإرهاب والميليشيات الناشئة عن مناطق الصراع.[2]
الحالة العراقية،تدخل الشركات المصرية في مجال إعادة الإعمار بالعراق؛ حيث تعمل حوالي ثلاث شركات مقاولات كبيرة على تنفيذ مشاريعها، من خلال فروعها المتنوعة في بغداد، تشمل هذه الشركات شركة المقاولون العرب وأوراسكوم وبتروجيت، وقد نجحت شركة حسن علام، التابعة لوزارة قطاع الأعمال العام، في تأهيل ثلاثة جسور تقع في منطقة الموصل، وبفضل النجاحات التي حقَّقتها الشركة، قام الجانب العراقي بتوقيع عقود جديدة لإعادة تأهيل أحد أهم الجسور في مدينة الموصل، بتكلفة تقارب 240 مليون جنيه، وتضمَّنَ ذلك أيضًا عدة مشروعات للبنية التحتية في محافظات الأنبار والموصل وصلاح الدين، فضلاً عن تنمية وتطوير القطاعين الصناعي والتجاري بصفة عامة، عبر أربعة قطاعات رئيسية: البِنْية التحتِيَّة الأساسية والقطاعات الإنتاجية والاجتماعية والشاملة.[3]
كما أسهمت المرونة المصرية في تعزيز تواجدها الواسع داخل العراق، من خلال آلية “النفط مقابل إعادة الإعمار”؛ حيث حصلت مصر على النفط مقابل تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار، خاصَّةً تحت حكومة الكاظمي، وفي عام 2019، توصل البلدان إلى اتفاقٍ يتيح لمصر تصدير مواد بناء إلى العراق، بقيمة تصل إلى مليار دولار سنويًّا، بالإضافة إلى عمل الشركات المصرية بمناطق، مثل صلاح الدين والأنبار ونينوى وسامراء، وعلى الرغم من التأثير الذي شهدته العديد من المشاريع حاليًا؛ بسبب الحكومة العراقية الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني، فقد أكَّدت الأخيرة منذ بداية تولِّيها للسلطة استمرار العمل على مشاريع إعادة الإعمار مع مصر، وخلال زيارته لمصر في يونيو 2023، وقَّع السوداني مع الرئيس السيسي إحدى عشرة اتفاقيةً تتعلق بإعادة الإعمار.[4]
الحالة السورية:استطاعت مصر توظيف دبلوماسية الكوارث، عبْر دعم كُلٍّ من”تركيا، وسوريا”، وذلك بعد الزلزال المدمر الذي ضرب البلدين، في فبراير 2023، عبْر توجيه المساعدات الإغاثية لشعبيْ البلديْن، والتضامن مع دمشق، وأنقرة بكافَّة السُّبُل الممكنة، وفي مارس 2023، شاركت مصر في المؤتمر الدولي للمانحين، الذي عُقد في بروكسل، تحت شعار “معًا من أجل الشعبيْن التركي والسوري”، وأكَّدت مصر على أهمية تسريع جهود إعادة الإعمار في كُلٍّ من سوريا وتركيا، لكن لم يتم بدْء أيّ مشاريع فعلية هناك لأسباب سياسية محلية ودولية تتعلق بالعقوبات المفروضة على سوريا، بالرغم من عودة دمشق إلى عضوية جامعة الدول العربية، وقد أعلن رئيس جهاز المخابرات الخارجية الروسية “سيرجي نارشكين”، في مايو 2023، أن السعودية والإمارات ومصر “تستعد للعب دور بارز” في إعادة بناء سوريا، مشيرًا إلى التغيُّرات الكبيرة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، والتي تعارض المصالح الأمريكية؛ بما فيها الدعم الروسي والعموم العربي لإعادة إعمار البلاد[5]، فالجدير بالذكر في هذا الصدد، أن العقوبات الأوروبية والأمريكية ضد النظام السوري جعلت التعامل مع مؤسساته الحكومية والخاصَّة، وأيضًا الشخصيات السياسية والعسكرية ورجال الأعمال المقربين منه، محفوفًا بالمخاطر، وهذا ما يعيق مشاركة مصر وغيرها في عمليات الإعمار إلى الآن.[6]
في حالة قطاع غزة،تمتلك مصر تاريخًا طويلًا من المساهمات في جهود إعادة الإعمار، لا سيما بعد العمليات العسكرية التي شهدها القطاع على مرِّ السنين، وقد لعبت مصر دورًا جوهريًّا في تأهيل “البنية التحتية، والمساكن، والطُّرُق”، بالإضافة إلى تقديم المعونة الإنسانية لسكان المنطقة، ويمكن تفصيل ذلك كما يأتي:
بعد الهجوم الإسرائيلي على غزة عام 2014، فعلت مصر بعض المبادرات لدعم جهود إعادة الإعمار، تضمَّنت الأنشطة المصرية تزويد القطاع بمواد البناء، مثل الإسمنت والحديد، عبر معبر رفح، فضلًا عن التنسيق مع المنظمات الدولية؛ لضمان استعادة ما تمَّ تدميره بسبب الحرب.
وفي أعقاب العدوان الإسرائيلي على غزة، في مايو 2021، أعلن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عن تخصيص 500 مليون دولار، كمبادرة مصرية لدعم عملية إعادة الإعمار بعد النزاع الذي أصاب القطاع، شمل هذا الدعم إرسال مُعدَّات هندسية كبيرة، مثل الحفارات والجرَّافات؛ للمساعدة في إزالة الأنقاض وبناء وحدات سكنية جديدة؛ لتعويض المنازل المتضررة وتطوير شبكة الطُّرُق والجسور؛ بما فيها مشروع تطوير شارع الكورنيش شمال القطاع، والتي بلغت نسبة الإنجاز فيه حوالي 70%، كذلك تمَّت إعادة تأهيل العديد من مرافق البنية التحتية؛ بما فيها شبكات الكهرباء والمياه، بمشاركة شركات مصرية متخصصة، التي شاركت بتنفيذ عمليات الإعمار، وقد أنجزت مصر بالفعل معظم المشروعات المُعلن عنها بالقطاع قبْل هذا الدعم الجديد، ولكن ما يُلاحظ هو حجم التمويل الذي أعلنت عنه مصر، والذي لم يتلقَ أيَّ دعمٍ مماثلٍ من دول عربية أو أجنبية خلال تلك الفترة.
بالإضافة لذلك، قامت مصر حتى أغسطس 2023، بإتمام خطة الإعمار، والتي قامت على عدة مراحل، انتهت أولها بإزالة ركام المباني المدمرة، وتكوَّنت المرحلة الثانية من 6 مشاريع، تمثَّلت في إنشاء ثلاث مدن سكنية جديدة؛ أكبرها في مدينة الزهراء (وسط القطاع)، و”دار مصر2″ غرب جباليا (شمالي القطاع)، و ، و”دار مصر3″ بمدينة بيت لاهيا (شمال شرق القطاع)، بِمشروعٍ يتضمَّنُ إنشاء117 عمارةً سكنيةً وحوالى3500 وحدةٍ سكنيةٍ أُخرى، بالإضافة لمحلات تجارية مُزوَّدة بالبنية التحتية والمرافق العامة اللازمة، ووصلت نسبة الإنجاز في المدن السكنية إلى نحو 55%.[7]
كما عملت مصر على التنسيق مع الفصائل الفلسطينية، مثل حماس والسلطة الوطنية الفلسطينية؛ لضمان تنفيذ مشاريع الإعمار بسلاسة، إلى جانب التنسيق مع الأمم المتحدة والجهات المانحة؛ لضمان تدفق المواد اللازمة.
مقومات التفوق المصري في مشروعات إعادة الإعمار:
تحتلُّ مصر موقعًا متميزًا في مجال إعادة الإعمار ضمن الدول العربية التي واجهت الحروب والنزاعات؛ حيث تمتلك كافَّة العوامل التي تجعلها الشريك الأنسب لتنفيذ المشاريع الكبيرة، ومن خلال استعراض العوامل التي تمنحها هذه الأفضلية، يمكن تفصيل دورها وفْق النقاط التالية:
– الخبرة الهندسية والبنائية الواسعة: تتمتع مصر بتاريخٍ طويلٍ في مشاريع البناء والتشييد؛ حيث قامت على مرِّ العقود بتطوير بِنْيةٍ تحتيةٍ متينةٍ داخل البلاد، والتي تشمل مشاريع ضخمة، مثل العاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين الجديدة، بالإضافة إلى شبكة الطُّرُق والكباري القومية ومشاريع الإسكان الاجتماعي، هذه التجربة منحت الشركات المصرية خبراتٍ عمليةً قيِّمةً في التعامل مع مشاريع ذات تعقيدات متعددة وميزانيات كبيرة؛ ما يجعلها مؤهلةً للمنافسة بشكلً قويٍّ في الدول التي تحتاج جهود إعادة الإعمار.[8]
بالإضافة إلى ذلك، نجحت مصر في تصدير خبراتها خارج حدودها؛ حيث نفَّذت مشروعات إنشائية مهمة في أفريقيا والخليج والدول العربية المتضررة؛ ما عزَّزَ سمعة الشركات المصرية، وجعلها الخيار الأول في مجالات تطوير البنية التحتية.
– وجود شركات مصرية رائدة في إعادة الإعمار: تضُمُّ مصر مجموعة من كُبْرَى شركات المقاولات والهندسة على مستوى الشرق الأوسط، التي شاركت بفعالية في تنفيذ مشاريع داخل وخارج البلاد، لا سيما شركة المقاولون العرب؛ والتي تمتلك أكثر من 70 عامًا من الخبرة، وقد ساهمت بشكلٍ كبيرٍ في إعادة إعمار العراق وليبيا، عبر بناء الطُّرُق والجسور والمرافق الحكومية، بالإضافة الى شركة أوراسكوم للإنشاءات؛ والمختصة بمشروعات البنية التحتية والطاقة وقد عملت على إنشاء محطات الكهرباء والمياه بالدول العربية، فضلًا عن شركة السويدي إليكتريك، والتي تملك معرفةً واسعةً بتنفيذ مشروعات الطاقة وشبكات الكهرباء لكُلٍّ من ليبيا والعراق والسودان، وصولًا الى شركة بتروجيت وإنبي؛ اللتان تعتبران رائدتين بقوةٍ ضمن قطاع النفط والغاز، وساهمتا بإعادة تأهيل البنية التحتية النفطية بالعراق وليبيا.[9]
حيث تمتاز هذه الشركات بكوادر فنية وهندسية مُدرَّبة، تستخدم تقنيات حديثة لتنفيذ مشروعاتها بكفاءةٍ عاليةٍ؛ حتى ضمن بيئات ما بعد النزاعات.
– توافر العمالة المدربة والماهرة:تعتبر مصر واحدةً من الدول القليلة التي تتمتع بوفرة من العمالة المدربة، والتي تملك خبراتٍ عميقةً في مجالات الإنشاءات والبنية التحتية؛ فهناك مئات الآلاف من المهندسين والفنيِّين المصريِّين القادرين على العمل في مشاريع إعادة الإعمار بالدول العربية.
إضافةً إلى ذلك، تحتوي مصر على نظامٍ تعليميٍّ وتدريبيٍّ متطورٍ في مجالات الهندسة والمقاولات، عبْر مؤسسات تعليمية مرموقة، مثل جامعة القاهرة وجامعة عين شمس والجامعة الأمريكية بالقاهرة؛ ما يضمن استمرار تدفُّق الكوادر المؤهلة لسوق العمل، بالإضافة لذلك، تقدم مصر قوة عمل بتكاليف تنافسية مقارنةً بدول أخرى؛ ما يجعل منها خيارًا اقتصاديًّا للدول الساعية لإعادة الإعمار بميزانيات محدودة.
– العلاقات السياسية والإستراتيجية المتينة مع الدول العربية: تحافظ مصر على علاقات دبلوماسية قوية مع العديد من البلدان العربية، خصوصًا تلك التي شهدت أزمات واضطرابات، مثل ليبيا والعراق وسوريا واليمن، وتلعب هذه الروابط دورًا حيويًّا في تسهيل دخول الشركات المصرية إلى الأسواق المعنية؛ حيث تُبرم اتفاقيات تعاون بين الحكومات؛ لضمان سيْر مشاريع إعادة الإعمار بسلاسة.
على سبيل المثال، كما ذُكر سابقًا، عقدت مصر اتفاقيات مع الحكومة العراقية؛ لتنفيذ مشروعات تتعلق بالبنية التحتية والإسكان، وأيضًا دشَّنَتْ شراكات مع الحكومة الليبية لإعادة تأهيل المدن المدمرة هناك، ومن ثمَّ، يوفر هذا التعاون السياسي للشركات المصرية ميزةً تنافسيةً تفوق الشركات الأجنبية التي قد تواجه تحديات في الحصول على تراخيص للعمل.
– القدرة على تنفيذ مشاريع متنوعة:يتميز عمل الفئات المصرية بقدرتها على القيام بمشاريع إعادة الإعمار، عبر مختلف القطاعات وليس محصورًا فقط في التشييد والبناء، وتمتاز الشركات المصرية بخبرتها الواسعة في مجالات متعددة، تشمل البنية التحتية، مثل بناء الطُّرُق والجسور والموانئ والمطارات، كما هو الحال في العراق وليبيا، بالإضافة إلى الإسكان والتنمية العمرانية؛ حيث تمَّ إنشاء وحدات سكنية جديدة لإعادة توطين النازحين كما حدث في ليبيا، فضلًا عن؛ مجال الكهرباء والطاقة؛ حيث تمَّ تطوير شبكات الطاقة ومحطات توليد الكهرباء كالمشاريع المتميزة للسويدي إليكتريك في العراق، وصولًا إلى؛ إعادة تأهيل المنشآت النفطية بمشاركة “بتروجيت وإنبي”، ضمن جهود إصلاح قطاع النفط بالعراق وليبيا، كما تتضمن الصحة والتعليم عبْر تأهيل المستشفيات والمدارس وإرسال بعثات طبية وتعليمية، كما فعلت مصر مع اليمن والسودان.
هذا التنوُّع يجعل مصر شريكا إستراتيجيًّا للدول المحتاجة لإعادة الإعمار؛ إذ بإمكانها تقديم حلول شاملة تُلبِّي جميع احتياجات البناء والتنمية المتجددة.
– التكامل الاقتصادي والاستفادة من اتفاقيات التعاون العربي:تساهم مصر في مجموعة من الاتفاقيات الاقتصادية العربية التي توفر لها مزايا تنافسية؛ لتنفيذ مشاريع إعادة الإعمار، من بين تلك الاتفاقيات؛ تأتي اتفاقية السوق العربية المشتركة، التي تُسهِّلُ حركة الشركات المصرية والعمالة إلى الدول العربية، بالإضافة إلى بروتوكولات التعاون الاقتصادية والتجارية مع كُلٍّ من العراق وليبيا والسودان؛ ما يُعزِّزُ فُرَص الاستثمار وتبادل التجارة[10].
فمثل هذه الاتفاقيات، تُمَكِّنُ الشركات المصرية من دخول الأسواق العربية دون عقبات قانونية أو بيروقراطية؛ ما يمنحها أفضليةً على المؤسسات الأجنبية التي قد تواجه صعوبات في تصدير منتجاتها أو إقامة المشاريع في هذه البلدان.
– التسهيلات المالية والدعم الحكومي المصري:تلعب الحكومة دورًا مؤثرًا فيما يتعلق بدعم الشركات الوطنية التي تعمل بالخارج، عبر تقديم تسهيلات مالية وائتمانية، تشمل منْح قروضٍ ميسرةٍ للشركات المنفذة للمشروعات بالدول العربية، كما يتمُّ تعزيز المشروعات عبْر شراكات حكومية؛ حيث تهدف مصر إلى تأمين تمويل عددٍ منها، بالتعاون مع المؤسسات المالية العربية والدولية، مثل الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي والبنك الإسلامي للتنمية.
إلى جانب ذلك، تشجع الحكومة المصرية شركاتها على توسيع أنشطتها بالسوق العربية، من خلال توفير ضمانات مصرفية ولوجستية، تساهم بصورةٍ فعَّالةٍ في دخول تلك الشركات مشاريع إعادة الإعمار بمستوياتٍ تنافسيةٍ عاليةٍ.
الخطة المصرية لإعادة إعمار غزة
تمضي مصر بخطواتٍ جادَّةٍ نحْو تولِّي مسؤولية إعادة إعمار غزة في الفترة المقبلة؛ إدراكًا منها للأهمية الإستراتيجية والحيوية التي يمثلها القطاع بالنسبة للأمن القومي المصري والعربي؛ فتاريخيًّا تعتبر فلسطين بمثابة الجبهة الشمالية لمصر، وغزة بالذات تُمثِّلُ عنصر الأمان لشبه جزيرة سيناء.
في هذا السياق، أعلنت مصر عن مشروعٍ شاملٍ، يهدف إلى إعادة إعمار قطاع غزة؛ حيث يرتكز على إصلاح الأوضاع دون تهجير السكان، ويشمل هذا المشروع تنفيذ مشاريع بنيةٍ تحتيةٍ ضخمةٍ بتمويلٍ محليٍّ ودوليٍّ، ويأتي ضمن جهود مصر للحفاظ على استقرار المنطقة ورفْض تهجير الفلسطينيِّين؛ وذلك ردًّا على طُرُوحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بتهجيرهم إلى مصر والأردن وربما دول أخرى، وامتلاك غزة وتحويلها لما سمَّاه “ريفيرا الشرق الأوسط”، وتتضمن الخطة مراحل متعددة لتحسين الظروف المعيشية والاقتصادية في غزة، ويمكن توضيح ملامح الخطة فيما يأتي:
إعادة الإعمار مع الحفاظ على السكان وتشكيل لجنة وطنية فلسطينية:تُشكِّلُ النقطة الأساسية في الخطة المصرية الالتزام بإعادة إعمار غزة مع المحافظة على سكانها في أماكنهم، بالإضافة إلى رفْض أية خطط دولية أو إقليمية تتعلق بتهجيرهم؛ لضمان إدارةٍ فعَّالةٍ وعادلةٍ لهذه العملية، تشمل الخطة أيضًا تشكيل إدارة فلسطينية محايدة، بعيدًا عن الانقسامات بين حماس والسلطة الفلسطينية، بالإضافة إلى تعزيزها بقواتٍ مدربةٍ من مصر ودول عربية؛ للإشراف على جهود إعادة الإعمار وإدارة القطاع خلال الفترة الانتقالية، وضمان الأمن الداخلي أثناء فترة إعادة الإعمار.[11]
مراحل التنفيذ: إزالة الأنقاض وبناء المساكن والبنية التحتية: ستستغرق هذه الخطة ثلاث مراحل، قد تصل مدة تنفيذها إلى 5 سنوات؛ تبدأ الأولى خلال أول ستة أشهر؛ بحيث تشمل إزالة الأنقاض وتأمين الخدمات الأساسية، مثل إنشاء مستشفيات ومدارس متنقلة وتوفير مساكن طارئة للمتضررين، أمَّا المرحلة الثانية، التي تمتدُّ لـ 18 شهرًا؛ فهي سترتكز على بناء وحدات سكنٍ جديدةٍ وفْقَ مواصفات حديثة وإصلاح شبكات المياه والكهرباء وتحديث الطرق والجسور؛ ما سيساهم في تحسين مستويات الحياة وتعزيز الاستقرار في القطاع.[12]
إمدادات تمويلية ودعم دولي وإقليمي لمشاريع كبرى:سيتمُّ تمويل مشاريع الإعمار بتعاونٍ عربيٍّ ودوليٍّ، بمشاركة 50 شركةً دوليةً متخصصةً في مجال التشييد والبناء؛ بهدف إنشاء وحداتٍ سكنيةٍ آمنةٍ، خلال فترة عام ونصف، ضمن المناطق الثلاث المحددة في القطاع، سيتمُّ ذلك من خلال صندوق مخصص لإعادة الإعمار، تشمل هذه المشاريع تطوير البنية التحتية الحيوية؛ بما في ذلك إصلاح شبكات الطُّرُق والمياه والكهرباء، فضلًا عن بناء مرافق صحية وتعليمية حديثة؛ ما يساهم في تعزيز الاقتصاد المحلي وتوفير فرص عمل جديدة لسكان غزة.[13]
ضمانات أمنية وإجراءات لحماية عمليات الإعمار: بالنظر إلى الوضع الأمني المضطرب في القطاع، تتضمن الخطة المصرية اقتراحات لتأمين مشاريع إعادة الإعمار، عبْر نشر قوات عربية؛ للحفاظ على استقرار المناطق المستهدفة، وحماية المشروعات من أيِّ تهديدات محتملة؛ كما سيكون هناك تنسيق مع القوى الإقليمية؛ لتيسير تدفُّق المساعدات والحدِّ من تعطُّل الأنشطة الإنشائية.
بالإضافة إلى ما سبق، تشمل الخطة إقامة منطقة عازلة وحاجز على الحدود المصرية مع غزة؛ لمنْع حفْر الأنفاق.[14]
الخاتمة:
في ختام هذا الطَّرْح، يتضح أن مصر، بما تمتلكه من خبراتٍ واسعةٍ في إعادة الإعمار، تُمثِّلُ ركيزةً أساسيةً في جهود إعادة بناء الدول المتضررة من النزاعات، فقد أثبتت نجاحها في تنفيذ مشروعات كبرى في ليبيا والعراق وسوريا؛ ما يجعل دورها في إعادة إعمار غزة أكثر أهميةً وإلحاحًا، في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي وتفاقم الحاجة إلى جهود الترميم وإعادة البناء، فامتلاك القاهرة لمقومات هندسية متقدمة، وشركات مقاولات عملاقة، وعلاقات دبلوماسية متينة، إلى جانب التزامها التاريخي بدعم القضية الفلسطينية، بالإضافة الى جهودها الحثيثة لحشْد الموارد اللازمة لإعادة إعمار القطاع، وترقُّبها لاستضافة مؤتمر دولي من أجل حشْد الدعم لغزة، كل ذلك يُعزِّزُ من قدرتها على قيادة مصر لهذه المرحلة الحاسمة.
ومع اقتراب انعقاد القمة العربية المرتقبة، تبدو الفرصة سانحة لتوحيد الجهود العربية وتشكيل رؤية متكاملة لعملية إعادة الإعمار، تستند إلى التجربة المصرية الناجحة، وتستثمر في إمكانيات الدول العربية الأخرى، تأتي هذه الخطوات تماشيًا مع تقديرات الأمم المتحدة التي تشير إلى أن تكلفة إعادة بناء غزة قد تفوق 53 مليار دولار، وهو ما يستدعي تعزيز التعاون الإقليمي والدولي لإنجاح المشروع، ومن ثمَّ؛ فإن تحقيق توافق إقليمي على هذا الملف قد يكون نقطة تحوُّلٍ كُبْرَى، ليس فقط في إعادة بناء غزة، بل في تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي وضمان مستقبل أكثر استدامةً للشعب الفلسطيني والمنطقة بأسْرها.
المصادر:
[1] إعمار ليبيا.. قرية البداية من بنغازي بنياد مصرية سكاي نيوز عربية، 2022.
[2] جميلة حسين وآخرون، وثيقة مقترحة:التهديدات الإستراتيججية للأمن القومي المصري وآليات التحرك، مركز شاف للدراسات المستقبلية وتحليل الأزمات، فبراير ٢٠٢٤.
