المقالات
مطالبات متزايدة بتطبيقها: هل الفيدرالية الحل الأمثل للأزمة السورية أم أداة لتقسيم البلاد؟
- سبتمبر 22, 2025
- Posted by: ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط

إعداد: شيماء عبد الحميد
باحثة متخصصة في شؤون الشرق الأوسط
في ضوء التحديات والأزمات المعقدة التي تواجه الإدارة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع، عاد ملف الأقليات والمطالبة بحكم فيدرالي لا مركزي إلى الواجهة مجددًا، باعتباره النظام الأكثر توافقًا مع المشهد السوري الراهن، فيما تمسكت الحكومة السورية بمركزية القرار والإدارة، وقد أثار هذا التباين في الرؤية حول مستقبل الدولة السورية وشكل نظامها خلال الفترة المقبلة، الكثير من التساؤلات حول إمكانية تطبيق الفيدرالية في البلاد، وانعكاسات ذلك على تماسك ووحدة أراضي الدولة السورية:
أولًا؛ مطالبات متزايدة بنظام لا مركزي في سوريا:
كُثر الحديث في الآونة الأخيرة عن إقامة نظام فيدرالي لا مركزي في سوريا، باعتباره النظام الأمثل لطبيعة المجتمع السوري الذي يتميز بتنوع عرقي وديني وطائفي، وهذا الطرح لا يُقدم للمرة الأولى، بل ظهرت فكرة تطبيق الفيدرالية في سوريا خلال حقبة الانتداب الفرنسي في عشرينيات القرن الماضي، عندما قسمت فرنسا، سوريا إلى دويلات طائفية وإثنية، مثل دولة العلويين ودولة الدروز.[1]
والآن تعود الفكرة مجددًا إلى الواجهة، وذلك من خلال مطالبة الأقليات السورية بحكم ذاتي، ونظام لا مركزي، لتفادي عيوب النظام المركزي الذي احتكر السلطة طوال سنوات حكم عائلة الأسد، بحيث يتم تقسيم سوريا إلى أربع دويلات؛ الأولى هي الدولة العلوية التي تسيطر على الساحل الغربي للبلاد، والدولة الكردية، وهي تضم أماكن سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، والدولة الدرزية في الجنوب السوري، والدولة السُنية في الوسط، والتي ستكون تحت سيطرة الإدارة السورية الحالية برئاسة أحمد الشرع.
وفي هذا السياق؛ برزت أصوات سورية تطالب بخيارات متعددة، تتمحور جميعها حول فكرة واحدة وهي إقامة نظام لا مركزي، وذلك على عكس النظام المركزي الذي تؤسس له إدارة الشرع منذ توليها الحكم، وهذا يتضح في إجراءات مؤتمر الحوار الوطني والإعلان الدستوري وتشكيل الحكومة ومجلس الشعب، والتي وصفتها الأقليات السورية وعلى رأسها “قسد” بأنها إجراءات شكلية تتجه نحو احتكار السلطة وإقصاء الآخرين عن دورهم في العملية السياسية، ويمكن إيجاز ذلك على النحو التالي:
أ. تمسك “قسد” بإقامة حكم ذاتي لا مركزي؛ يتمتع الأكراد بحكمًا ذاتيًا منذ العام 2014؛ حينما أعلنوا عن إقامة الإدارة الذاتية في الشمال والشمال الشرقي للبلاد، والتي أنشأت بدورها مجالس إقليمية وهياكل حكم محلية، وكذلك قوات أمن محلية ونظام لإدارة الخدمات.
وعندما تولت إدارة الرئيس أحمد الشرع حكم البلاد، خاضت مفاوضات مع قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية الكردية، بغرض توحيد جميع الأراضي السورية تحت سيطرتها، وبالفعل أسفرت تلك المحادثات عن توقيع اتفاق بين “قسد” والإدارة السورية في 10 مارس الماضي، ينص على دمج كل المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرقي سوريا ضمن إدارة الدولة السورية المركزية، بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز.[2]
ولكن رغم توقيع الاتفاق، إلا أنه لم يُنفذ حتى الآن وتجمدت محداثات الطرفين، وذلك على خلفية تمسك الأكراد بإقامة نظام لا مركزي، باعتباره شرط أساسي لاندماجهم في حكومة سوريا الجديدة، وهو ما ترفضه إدارة الشرع، والتي تتمسك بإقامة نظم مركزي موحد.
مؤتمر الحسكة نقطة فاصلة:
قُدم طرح “قسد” بشأن تنفيذ الفيدرالية في سوريا كبديل للنظام المركزي، خلال مؤتمر الحسكة الذي عقدته قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في 9 أغسطس 2025، بهدف تطوير موقف موحد بشأن إرساء نظام اللامركزية في سوريا، تحت شعار: مؤتمر وحدة موقف مكونات شمال شرق سوريا.[3]
شارك في المؤتمر أكثر من400 شخص من الشخصيات السورية البارزة، ومنهم الزعيم الروحي لطائفة الموحدين الدروز حكمت الهجري، ورئيس المجلس العلوي الأعلى في سوريا غزال غزال، كما شاركت عشائر عربية وتركمانية، ونشطاء من المنطقة. وقد نص البيان الختامي للمؤتمر على التالي:
أكدت المكونات السورية المشاركة على التحرك بشكل مشترك، حيث اتحدت إرادة ممثلي الكرد والعرب والسريان والآشوريين والتركمان والأرمن والشركس والمجتمعات الأخرى، للتعبير عن التزامهم المشترك بخط وطني وديمقراطي شامل، قائم على التنوع والشراكة والمواطنة المتساوية.
ضرورة تحديد المسؤولين عن الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية في السويداء واللاذقية بغض النظر عن هويتهم.
وحدة سوريا وسلامتها لا يمكن ضمانهما إلا عبر نموذج الإدارة الذاتية الحالي؛ وذلك لأنه يُعد تجربة تشاركية يمكن تطويرها والنهوض بها، وتشكل مثالًا حيًا للحكم المجتمعي الديمقراطي.
ضرورة إعداد مسودة دستور تقوم على بنية لامركزية، بدلًا من مسودة الدستور المؤقت التي أعلنها الرئيس الشرع؛ وذك لعدم تلبيتها مطالب السوريين في الحرية والكرامة.
ويجدر الإشارة إلى؛ يحمل هذا المؤتمر كثير من الدلالات المهمة؛ لأنه لم يمثل الطائفة الكردية فقط، وإنما شهد مشاركة افتراضية عبر “الفيديو كونفرانس” من قبل الشيخ الدرزي حكمت الهجري، ورئيس المجلس الإسلامي العلوي، وهو ما اعتبرته الحكومة السورية أنه اصطفاف داخلى بين مطالب الأقليات الكردية والدرزية والعلوية بشأن خيار الإدارة اللامركزية في مواجهة خيار المركزية الذى تتمسك به حكومة الشرع.[4]
ب. المطالبة الدرزية بالانفصال؛ منذ أن تولى أحمد الشرع رئاسة البلاد، والطائفة الدرزية التي تقطن الجنوب السوري، تطالب بنظام لا مركزي، يمنحها حكمًا ذاتيًا منفصلًا عن إدارة دمشق.
وما زاد الوضع سوءًا، هو الأحداث التي شهدتها محافظة السويداء في يوليو الماضي، حيث اندلعت اشتباكات دموية بين الدروز وقبائل بدوية عربية مسلحة، مما أسفر عن مقتل وإصابة المئات من المدنيين، ثم تصاعد احتدام المشهد الأمني في المحافظة عندما قررت الحكومة السورية إدخال قواتها إلى السويداء لفرض الأمن وفض الاشتباك ووقف إطلاق النار، وهو ما رفضته الطائفة الدرزية التي اعتبرت هذا التحرك محاولة من حكومة دمشق للسيطرة على المحافظة، مطالبة القوات السورية بالمغادرة وبالحماية الأممية من الانتهاكات الطائفية التي يتعرض لها الدروز، وبناءًا عليه؛ شنت إسرائيل هجمات عسكرية على الدولة السورية، بما في ذلك استهداف مبنى وزارة الدفاع السورية، زاعمة أن هذا التحرك جاء بغرض تقديم الحماية الإنسانية للدروز.
وقد أدت هذه الأحداث إلى زيادة المطالبات الدرزية بالانفصال والاستقلال عن حكومة دمشق، وتحول الأمر من المطالبة بحكم ذاتي إلى دعوات علنية للانفصال التام والاستقلال عن الإدارة السورية المركزية التي يقودها أحمد الشرع، بل وترافقت تلك الدعوات بتحركات على أرض الواقع لتمهيد الطريق للانفصال، والتي من بينها:
– تشكيل الحرس الوطني في السويداء؛ باعتباره الذراع العسكري الدرزي، والذي يضم في عضويته 31 فصيلًا عسكريًا من فصائل الجنوب السوري المسلحة، وذلك بهدف: ملء الفراغ الأمني الذي تشهده محافظة السويداء منذ سقوط النظام السوري السابق برئاسة بشار الأسد، ضمان عدم انزلاق المنطقة إلى الفوضى بعد غياب الأجهزة الرسمية، توحيد الصفوف من خلال جمع الفصائل المحلية تحت قيادة واحدة بدلًا من التشتت والتنافس، ضبط السلاح لمنع أي حالة فوضى قد تنتج عن انتشار السلاح العشوائي، إضفاء طابع مؤسسي ومنظم على العمل العسكري والأمني في المحافظة، كخطوة تمهيدية لدمج هذه القوات ضمن أي هيكل أمني للدولة المستقبلية، بما يضمن توحيد الصفوف، وتحقيق استقرار مستدام في السويداء.[5]
كما أوضح البيان التأسيسي للحرس الوطني الموحد، أن مهامه تتركز على عدة محاور رئيسية؛ تشمل: ضبط الأمن الداخلي، حفظ الاستقرار في المدن والقرى، منع الانفلات الأمني، التصدي لأي أعمال إجرامية، حماية الحدود والمناطق البرية مع البادية لمنع تسلل العناصر المسلحة أو تهريب السلاح والمخدرات، مكافحة الإرهاب والتصدي لأي تنظيمات متطرفة تحاول التمدد نحو السويداء وخصوصًا فلول تنظيم داعش والتنظيمات المشابهة، والتنسيق الإقليمي والدولي في مجال تبادل المعلومات الاستخباراتية والعمليات العسكرية ضد التنظيمات الإرهابية.
– تشكيل لجان درزية لإدارة محافظة السويداء؛ حيث أعلنت الرئاسة الروحية للطائفة الدرزية، في أواخر يوليو 2025، تشكيل ما يُسمى بـ”اللجنة القانونية العليا” و”لجان الإدارة المحلية في السويداء”، وفي الأسبوع الأول من أغسطس الماضي؛ قررت تشكيل مجلس تنفيذي جديد للمحافظة، وتعيين قائد للأمن الداخلي.
ووفقًا للناطقة باسم اللجنة القانونية العليا في السويداء صفاء جودية؛ فإن مهام هذه اللجان تتمثل في قيادة الإدارات، وتسيير المرافق الخدمية لتلبية احتياجات المواطنين.
وجدير بالذكر أن؛ اللجنة القانونية العليا في السويداء، قد أعلنت رفضها الكامل لخارطة الطريق السورية- الأمريكية- الأردنية المعلنة مؤخرًا لتسوية أزمة السويداء، مؤكدة أن ما جرى في يوليو الماضي يُعد “جرائم ضد الإنسانية لا يمكن معالجتها إلا عبر مسار دولي عادل، يضمن محاسبة الجناة وحق أبناء السويداء في الحرية وتقرير المصير”.
– المطالبات العلنية بالانفصال تحت شعار “حق تقرير المصير”؛ في واقعة غير مسبوقة، خرج مئات المتظاهرين من أهالي محافظة السويداء إلى ساحة الكرامة، يوم 16 أغسطس 2025، ليطالبوا بانفصال المحافظة عن الدولة السورية، وبالاستقلال الإداري والسياسي التام، وذلك تحت شعار “حق تقرير المصير”.
في الإطار ذاته؛ تشهد محافظة السويداء، حملة جمع توقيعات خطية على عريضة تناشد المجتمع الدولي دعم إجراء استفتاء شعبي لأهالي المحافظة حول حقهم في تقرير المصير، سواء كان بالاستقلال التام عن الدولة السورية، أو التمتع بالإدارة الذاتية أو اللامركزية، وتُعد هذه الخطوة استكمالاً لحملة توقيع إلكترونية أطلقتها مجموعة من الناشطين أبناء السويداء في الداخل والخارج، لحشد تأييد لمطلب حق تقرير المصير.
حيث جرى افتتاح 19 مركز في المحافظة لجمع التوقيعات الخطية، فيما شارك في الحملة أكثر من ألفي متطوع، بينما تولى الأمن الداخلي، المُعين من الشيخ حكمت الهجري، مهمة حفظ الأمن أثناء الحملة.
ج. التحركات العلوية؛ في أعقاب أحداث العنف التي شهدها الساحل السوري في مارس الماضي، وأسفرت عن مقتل ما يقرب من 1500 مدني، وإصابة آلاف أخرين، معظمهم كانوا من الطائفة العلوية، بدأ العلويين بالمطالبة بحكم ذاتي منفصل عن الحكومة السورية المركزية.[6]
وفي هذا الإطار؛ أعلن عدد من الشخصيات السياسية العلوية، يوم 28 أغسطس 2025، تشكيل “المجلس السياسي لوسط وغرب سوريا”؛ والذي وصفه البيان التأسيسي بأنه “كيان سياسي يعبر عن منطقة الساحل السوري، وبما يشمل محافظات اللاذقية وطرطوس وحمص وأجزاء من ريف حماة”، وفيما يلي نص البيان:[7]
أصبح الجميع يدرك خطورة استخدام القوة، والفيدرالية هي استبدال القوة بالقانون، ولذلك؛ المجلس ينادي بالفيدرالية لأنها تعني تطبيقًا وتوزيعًا للصلاحيات.
سيقوم إقليم وسط وغرب سوريا المقترح، على أسس مدنية علمانية، تراعي التعددية السياسية والمجتمعية، وترتكز إلى القانون الدولي لحقوق الإنسان والمواثيق والعهود الدولية، ليكون نموذجًا لسوريا المستقبل الديمقراطية.
تتمثل رؤية المجلس في: التأكيد على قرار مجلس الأمن رقم 2254، لتشكيل هيئة انتقالية خلال فترة لا تتعدى الـ18 شهرًا، إضافة إلى جميع بنوده، ومنها منع التنظيمات الإرهابية من المشاركة في حكم سوريا، وصياغة دستور ديمقراطي جديد، وإجراء انتخابات عامة حرة تحت إشراف أممي.
شكل نظام الحكم لسوريا العلمانية هو: الشكل الاتحادي الفيدرالي، والذي يُعد الصيغة الأمثل لبناء دولة مدنية ديمقراطية مستقرة، قادرة على صون حقوق مواطنيها، وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة، ومن ثم؛ يرفض المجلس حكومة اللون الواحد التي شكلتها سلطة الأمر الواقع.
يطرح المجلس رؤية لتحقيق العدالة الانتقالية، والتي تتضمن مجموعة من الإجراءات التي يجب سرعة اتخاذها؛ ومنها: الإفراج عن المغيبين قسرًا والمختطفين، إلغاء تجنيس الإرهابيين، إحالة الجرائم في البلاد إلى المحكمة الجنائية الدولية، تشكيل محكمة خاصة بسوريا، متابعة تنفيذ قرارات مجلس الأمن المتعلقة بملاحقة قادة التنظيمات الإرهابية، إنشاء هيئة مستقلة للتحقيق في ملف المفقودين، إعادة الموظفين المفصولين تعسفيًا وضمان المساواة الوظيفية، وضبط ملف الجنسية، ومنع التهجير القسري.
يؤكد المجلس أنه سيشترك في الخطوة التالية مع باقي الأقليات السورية حسب توافر الرغبة لديها، ومن ثم؛ يمكن الاتفاق على الشكل النهائي لشكل وإدارة نظام الحكم في البلاد.
وبالنظر إلى السياق الراهن؛ يمكن اعتبار الإعلان عن تشكيل هذا المجلس، تحولًا في التفكير السياسي العلوي، قد يشكل بداية لمسار أوسع من إعادة التوازن بين المكونات السورية في مرحلة ما بعد بشار الأسد، وبالتالي؛ عودة الحديث عن الدولة العلوية إلى الواجهة مجددًا.
د. مطالبات أمريكية- إسرائيلية علنية؛ منذ سقوط النظام السوري السابق، والانتهاكات الإسرائيلية للسيادة السورية تتصاعد؛ إذ قامت تل أبيب باستهدافات جوية متكررة لمواقع داخل البلاد، واحتلت مساحات واسعة من الجنوب السوري، وذلك في وقت روجت فيه لفكرة الفيدرالية كحل طويل الأمد للصراع السوري، حيث:[8]
طالب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بجعل الجنوب السوري منطقة منزوعة السلاح، مؤكدًا أن “إسرائيل لن تسمح لهيئة تحرير الشام أو الجيش السوري الجديد، دخول المنطقة الواقعة جنوبي دمشق، وتطالب بإزالة كافة الأسلحة من القنيطرة ودرعا والسويداء، وعدم دخول قوات الحكم الجديد إليها”.
أكد وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، أن “استقرار سوريا لن يتحقق إلا بتحويلها إلى سوريا فيدرالية، تضم مناطق حكم ذاتي مختلفة، وتحترم طرق الحياة المختلفة”.
في السياق ذاته؛ صرح المبعوث الأمريكى إلى سوريا توماس باراك، يوم 24 أغسطس 2025، بأن “خيارات الحكومة الحالية في إدارتها للدولة السورية على أسس مركزية شديدة، لم تعد صالحة في ظل توتر العلاقات مع بعض الأقليات”، مشددًا على أن “خيارات الإدارة اللامركزية هي الأكثر عقلانية التي بإمكانها معالجة تأزم العلاقة بين الحكومة في دمشق وبين الأكراد في الشمال والدروز في الجنوب”.[9]
موقف الإدارة السورية من تلك المطالبات:
رفضت إدارة الشرع جميع الخطوات والدعوات الانفصالية، أو تلك التي تظهر رغبة في إقامة نظام لا مركزي، يتضمن توزيع للمهام والصلاحيات، كما قامت باتخاذ مجموعة من الخطوات التي تمهد الطريق لنظام مركزي موحد، يسيطر على كل الأراضي السورية بلا استثناء، والتي من بينها:
أ. التأكيد الرئاسي على مركزية ووحدة القرار؛ أكد الرئيس أحمد الشرع، في أكثر من مناسبة، على رفض أي دعوات للانفصال أو الحكم الذاتي، حيث:
أعلن في تصريحات أدلى بها يوم 29 ديسمبر 2024، أي بعد أيام قليلة من توليه السلطة في سوريا، صراحةً موقفه المعارض للفيدرالية، قائلًا “لا تقسيم لسوريا بأي شكل، ولا فيدرالية”.
وفي يناير الماضي، صرح الشرع مجددًا بأنه “لا ينبغي للأكراد المطالبة بالفيدرالية في الوقت الحالي، لأن المجتمع السوري ليس مستعدًا لفهم هذا النموذج، بل يعتبره جزءاً من مشروع تقسيم سوريا”.
وفي لقاء مع وجهاء من محافظة إدلب، عُقد يوم 14 أغسطس الماضي، أكد الرئيس السوري أن المرحلة الحالية تستهدف “عودة النازحين ومحاسبة المتجاوزين ومنع محاولات التقسيم أو إنشاء كانتونات”، واصفًا المطالبين بالتقسيم بأنهم “حالمون وجهلة سياسيًا”، مشددًا على أن مشاريع التقسيم أو التدخلات الإقليمية غير قابلة للتطبيق، بسبب طبيعة المجتمع السوري وكثافة السكان في الجنوب.
وفي 26 أغسطس الماضي، عاد الشرع ليؤكد أن الحلول الممكنة في سوريا تشمل جميع الخيارات المطروحة باستثناء الانفصال، موضحًا أن “اللامركزية المنصوص عليها في الدستور، تمثل بديلًا عمليًا يحفظ خصوصية المكونات ويصون وحدة البلاد، على عكس الفيدرالية التي يُنظر إليها في الوعي السوري كخطوة على طريق التقسيم، وهو أمر لن يجد قبولًا شعبيًا،” داعيًا إلى تسوية وطنية، وشراكة سياسية بعيدة عن المحاصصة والانقسامات.
ب. رفض النظام الفيدرالي؛ حيث صرح المتحدث باسم وزارة الداخلية السورية نور الدين البابا، أن طرح إدارة البلاد الحالية هو “إقامة دولة واحدة موحدة مركزية”، يمكنها أن تضم نظام لا مركزي إداري، تقرره لاحقًا القوانين الصادرة عن الجهات المختصة، أما بالنسبة لموضوع التقسيم والفدرلة، فهو طرح مرفوض تمامًا.[10]
ج. إدانة مؤتمر الحسكة المطالب بالفيدرالية؛ حيث اعتبرته حكومة دمشق، انتهاكًا للاتفاقيات السابقة وخاصةً الاتفاق الموقع بين الإدارة و”قسد” في 10 مارس الماضي، وتهديدًا للوحدة الوطنية، مؤكدة في بيان لها، رفضها القاطع لأي محاولات لفرض واقع تقسيمي أو إنشاء كيانات منفصلة بمسميات الفيدرالية أو الإدارة الذاتية من دون توافق وطني شامل، مشددة على أن “لا يمكن لقيادة قسد أن تستأثر بالقرار في منطقة شمال شرقي سوريا، إذ تتعايش مكوّنات أصيلة كالعرب والأكراد والمسيحيين وغيرهم، وبالتالي، مصادرة قرار أي مكون واحتكار تمثيله، أمر مرفوض، وذلك لأن لا استقرار ولا مستقبل من دون شراكة حقيقية وتمثيل عادل لجميع الأطراف”.
د. التوصل لاتفاقات مع الأقليات السورية؛ حاولت إدارة الشرع إجهاض المطالب الداعية لنظام لا مركزي، وذلك من خلال عقد مجموعة من اللقاءات والاتفاقات التي تمهد لدمج جميع الأقليات السورية تحت لواء الحكومة المركزية في دمشق، ويُذكر في ذلك؛ اتفاق الحكومة مع “قسد”، واللقاءات التي عقدها الرئيس الشرع مع كبار وجهاء الطائفة الدرزية في محافظات الجنوب، وخارطة الطريق التي أطلقتها دمشق حديثًا لحل أزمة السويداء.
ثانيًا؛ ماذا وراء دعوات الانفصال والتقسيم؟:
يمكن إجمال الجهات الداعمة لفكرة الفيدرالية واللامركزية السورية في ثلاث؛ إسرائيل بالأساس، الولايات المتحدة، والأقليات الكبرى وهم “قسد” في الشمال والشمال الشرقي، الدروز في الجنوب، والعلويين في الساحل الغربي للدولة السورية، ولا شك أن دوافع الأطراف الثلاثة الكامنة خلف المطالبة بهذا النوع من الحكم، تختلف فيما بينهم، ويمكن إيجاز تلك الدوافع على النحو التالي:
تأمين مصالح الأمن القومي الإسرائيلي؛ بحكم الموقع الجغرافي، فإن سوريا تمثل أهمية كبيرة بالنسبة لأمن إسرائيل، ولهذا؛ تدفع تل أبيب نحو تقسيم سوريا بكل الطرق، وذلك لأن هذا التفسيم يفيدها على مختلف الجوانب والأصعدة، حيث[11]:
تنظر إسرائيل إلى سوريا باعتبارها تهديد جيو-أمني محتمل، وخاصةً في عهد النظام السابق برئاسة بشار الأسد، والذي كان حليفًا استراتيجيًا لإيران، والتي تعتبرها تل أبيب العدو اللدود والخطر الأكبر بالنسبة للأمن القومي الإسرائيلي، والذي سمح بانتشار المليشيات العسكرية الموالية لطهران على أراضي الدولة السورية، مما مثل تهديد مباشر للأمن الإسرائيلي، ولذلك؛ مع اندلاع الثورة السورية ضد الأسد في 2011، سارعت تل أبيب إلى دعم الثورة ومطالبها بإسقاط النظام، وذلك بغرض التخلص من التحالف الإيراني- السوري القائم على الحدود السورية الإسرائيلية.
بعد أن سقط نظام الأسد، تسعى إسرائيل إلى ضمان أمنها القومي بشكل دائم، وتأمين حدودها من ناحية الجبهة السورية، وذلك من خلال السيطرة على المنطقة العازلة بين الدولتين، وإقامة منطقة منزوعة السلاح في الجنوب السوري، ولخدمة هذا الهدف؛ سارعت إسرائيل إلى احتلال المنطقة العازلة بينها وبين سوريا وإعلان تعليق العمل باتفاق فض الاشتباك الموقع في 1974، كما احتلت مواقع استراتيجية في المنطقة الجنوبية وأهمها قمة جبل الشيخ والتي تمكن تل أبيب من كشف كلًا من الأردن ولبنان وسوريا، فضلًا عن استمرار هجماتها العسكرية على الأراضي السورية.
يُضاف إلى ذلك؛ موقف إسرائيل تجاه محافظة السويداء، وتدخلها جراء الأزمة التي شهدتها المحافظة خلال يوليو الماضي، وإعلان مشروع “ممر السويداء الإنساني”، والذي يقوم على فكرة تقديم مساعدات إنسانية إلى الدروز المتواجدين في السويداء، تحت شعار الحماية الإنسانية للطائفة الدرزية، ولكن في حقيقة الأمر؛ يأتي تحرك تل أبيب نحو دروز سوريا مدفوعًا برغبة إسرائيلية في شرعنة وجودها غير القانوني في الجنوب السوري، وتوغلاتها البرية المستمرة منذ سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024.
تخدم كل تلك التحركات، مجموعة من الأهداف والمصالح الاستراتيجية الإسرائيلية؛ والتي من أهمها:
تأمين الحدود الشمالية لإسرائيل، وتحييد الجبهة السورية عن تهديد الأمن الإسرائيلي.
التوسع في الجنوب السوري وخدمة مشروع “إسرائيل الكبرى”.
منع أي تموضع لقوات معادية قرب الجولان، وإعادة تشكيل التوازنات في المثلث الجنوبي لسوريا.
إحياء خطط التقسيم الطائفي التي طالما كانت جزءًا من العقيدة الأمنية الإسرائيلية، وفي مقدمتها “خطة ينون”، التي وضعها الصحافي الإسرائيلي عوديد ينون في أوائل الثمانينيات، والتي تهدف إلى تفكيك الدول العربية والإسلامية الكبرى إلى كيانات طائفية وعرقية صغيرة يسهل التحكم بها، مما يضمن تفوق إسرائيل على جوارها العربي، والقضاء على أى تهديد إستراتيجى مستقبلي.[12]
تعزيز الأمن المائي الإسرائيلي من خلال السيطرة على موارد استراتيجية من المياه والطاقة، مثل نهر اليرموك والسدود السورية القريبة من الحدود.
خدمة مشروع “الشرق الأوسط الجديد”؛ منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية الغاشمة على غزة، ومسؤلو الحكومة الإسرائيلية يكررون الحديث دائمًا عن تغيير التوازنات في المنطقة وإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط من جديد، وهو ما يتسق مع الحدود الجديدة التي رسمتها تل أبيب لنفسها في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد، والذي يقوم على التوسع الإسرائيلي وضم أجزاء من بعض دول جوارها العربي، ومن ثم؛ تحقيق حلم “إسرائيل الكبرى”.
وبناءً عليه؛ راحت إسرائيل تمارس سياسة توسعية، مستغلة ظروف الحرب في قطاع غزة، والدعم الأمريكي السافر الذي تحظى به من إدارة الرئيس دونالد ترامب، وفي هذا السياق؛ قامت إسرائيل بتحركات إستيطانية مكثفة في الضفة الغربية، وأطلقت مؤخرًا عمليتها البرية لضم قطاع غزة ، قامت بعملية عسكرية محدودة في الجنوب اللبناني، ورغم اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في نوفمبر الماضي، لا تزال إسرائيل تتمسك بخمس مواقع لبنانية تحتلهم في جنوب لبنان، كما لا تزال تتوغل في الجنوب السوري، وسيطرت على المنطقة العازلة التي تفصل بينها وبين سوريا، وعلى مناطق بجنوب البلاد، بل وتدعم الرغبة الانفصالية التي يطالب بها دروز سوريا، وتدعم كذلك انفصال الأكراد في الشمال السوري.
وبالتالي؛ الرغبة الإسرائيلية في تقسيم سوريا، والمطالبة بإقامة نظام لا مركزي فيها، ما هو إلا أداة ستستخدمها تل أبيب من أجل تقسيم دول المنطقة على أساس العامل الطائفي أو العرقي، ومن ثم؛ إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، بما يتوافق مع الخريطة الجديدة التي تم رسمها للشرق الأوسط في إطار مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، ومشروع “إسرائيل الكبرى”، ومن هنا؛ يجب إدراك أن التحركات الإسرائيلية لن تقتصر على سوريا أو لبنان فقط، وإن مشروع التقسيم على أساس طائفي وعرقي سيشمل دول أخرى في المنطقة مثل العراق والأردن.
رغبة الأقليات العرقية والطائفية في الحفاظ على ما حققته من نفوذ ومكتسبات؛ من أهم الدوافع التي تحرك الأقليات السورية الكبرى نحو النظام الفيدرالي اللامركزي، هو الرغبة في الحفاظ على المكتسبات والنفوذ الذي حققته تلك الأقليات خلال فترة الحرب الأهلية التي اندلعت منذ العام 2011.
وبالتالي؛ لا ترغب “قسد” في الاندماج بمؤسسات الدولة التابعة للإدارة السورية الجديدة في إطار نظام مركزي موحد، حتى لا تفقد ما حققته من مكتسبات سواء سياسية؛ إذ تسيطر على ما يقرب من ربع مساحة سوريا، أو عسكرية؛ حيث تمتلك أسلحة ثقيلة متطورة خاصةً وأنها تحظى بدعم أمريكي، أو اقتصاديًا؛ إذ تقع أهم حقول النفط والغاز السوريين في مناطق الشمال والشمال الشرقي التي تسيطر عليها “قسد”.
وعلى النحو ذاته؛ فإن الطائفة الدرزية التي تسيطر على الجنوب السوري، ترغب في الانفصال عن إدارة دمشق، حتى تظل محتفظة بالنفوذ السياسي الذي تتمتع به في المحافظات الجنوبية وخاصةً درعا والسويداء، كما ترفض تسليم سلاحها ودمج فصائلها المسلحة في الجيش السوري الجديد؛ زاعمةً أنها تخشى أي أعمال انتقامية من الإدارة السورية الجديدة أو من قبل الأقليات العرقية الأخرى، كما أنها تسيطر على معظم الأراضي والمحاصيل الزراعية التي تحتاجها الإدارة السورية سواء للإستهلاك أو للتصدير كمصدر للدخل.
أما العلويون؛ فهم يتركزون في مناطق الساحل السوري وبشكل خاص محافظتي اللاذقية وطرطوس، وتمتلك تلك المناطق مقومات اقتصادية مهمة للغاية؛ مثل الزراعة والسياحة والموانئ البحرية في اللاذقية وطرطوس، وهما من أهم الموانئ في سوريا، ويمثلان شريانًا حيويًا للتجارة الخارجية والاستيراد والتصدير، وبالتالي؛ ترغب الطائفة العلوية بالحصول على حكم ذاتي لا مركزي، كي تحتكر تلك المقومات الاقتصادية، وحتى لا تكون تحت سيطرة الحكم السوري السُني الذي تمثله إدارة الرئيس أحمد الشرع، خاصةً وأن الطائفة العلوية هي طائفة شيعية، كما أنها الطائفة التي كان يأتي منها الرئيس السابق بشار الأسد.[13]
تقوية المحور الأمريكي الإسرائيلي على حساب المحور الإيراني الروسي؛ تقسيم سوريا وتغيير خريطة حدودها، يخدم المصالح الأمريكية والإسرائيلية على حساب المصالح الإيرانية والروسية والتركية؛ حيث:
حاولت روسيا أن تعزز وجودها في منطقة الساحل السوري كبديل عن منافذها الأوروبية، ولكن سقوط نظام الأسد، وتقسيم الدولة السورية، ووضع الساحل السوري خارج نطاق السيطرة التي تتمتع بها الإدارة السورية، يقوض سيطرة حكومة دمشق على الساحل والموانيء السورية الواقعة في هذه المنطقة، ومن ثم؛ إفشال المسعى الروسي، وحرمان إدارة دمشق من المكتسبات الاقتصادية الكامنة في منطقة الساحل.[14]
تعزيز النفوذ الأمريكي في سوريا، من شأنه أن يقوض النفوذ الصيني الذي تنامى خلال عهد النظام السوري السابق؛ حيث باتت بكين شريك تجاري مهم بالنسبة لدمشق، كما تشارك كثير من الشركات الصينية في إعادة إعمار البلاد، فضلًا عن انضمام سوريا إلى مبادرة الحزام والطريق في العام 2022.
الدعم الأمريكي- الإسرائيلي لـ”قسد”، وتأييد تمتعها بحكم ذاتي منفصل عن إدارة الشرع، من شأنه أن يقوض المصالح التركية في سوريا، ويهدد أمن أنقرة القومي بشكل مباشر، من خلال وجود كيان كردي مستقل على حدودها الجنوبية.
انفصال الجنوب السوري عن الحكومة السورية المركزية في دمشق كما ترغب إسرائيل، يفقد إيران تهديدها للأمن القومي الإسرائيلي وتهديد الحدود الشمالية الإسرائيلية، كما يحرم طهران من التموضع في الجولان السوري المحتل، فضلًا عن أنه يقوض تهريب إيران للسلاح والمخدرات في مثلث الجنوب السوري والذي يضم لبنان وسوريا والأردن، وكل ذلك من شأنه تقزيم النفوذ الإيراني، وتهديد مصالحها الاستراتيجية في سوريا، إلى جانب عرقلة مشروعها الإقليمي، والذي كانت سوريا هي نواته الرئيسية.
ثالثًا؛ هل الفيدرالية هي النظام الأمثل للحالة السورية؟:
بغض النظر عن الدوافع المختلفة التي تقف وراء الدعوات التي تنادي بإقامة نظام فيدرالي لا مركزي في سوريا، بإعتباره النظام الأمثل لعملية الإصلاح السياسي والاقتصادي الذي تسعى إليه الدولة السورية في مرحلة ما بعد بشار الأسد، يبقى السؤال الأساسي هو؛ هل حقًا الفيدرالية هي الحل للأزمة السورية، أم أنها ستكون بداية لتقسيم وإنهيار وحدة الأراضي السورية، وقد انقسمت الآراء في هذا الشأن إلى اتجاهين؛ وهما:
الاتجاه الأول؛ يرى أن إقامة نظام حكم فيدرالي لا مركزي، هو الحل الأمثل لمعالجة الأزمة السورية بوضعها الراهن، ويرتهن هذا الاتجاه إلى مجموعة من المعطيات والفرضيات؛ والتي من أهمها:
أ. التنوع والتعدد العرقي والطائفي الذي يميز المجتمع السوري؛ تتميز سوريا بتنوع طائفي وعرقي غني، تتوزع فيها عدة مكونات رئيسية تشمل العرب السنة، العلويين، الأكراد، الدروز، والمسيحيين، مما يجعل تطبيق النظام المركزي الشامل والموحد، أمرًا صعبًا للغاية، نظرًا لأن لن يكون بمقدوره استيعاب واحتواء كل تلك العرقيات والقوميات المختلفة.
ب. عدم الثقة في الإدارة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع؛ الخلفية السياسية الإسلامية الجهادية التي يأتي منها الشرع، تجعل باقي الأقليات العرقية تشعر بالتوجس والخوف من أن يكون هناك تمييز عرقي ضدها، وما يعزز هذا الشعور؛ ما شهدته بعض المناطق التي تتواجد بها أقليات عرقية مختلفة عن التيار السُني الحاكم الآن في سوريا، ويُذكر منها أحداث العنف التي وقعت في منطقة الساحل السوري حيث يتواجد العلويين في مارس الماضي، وأحداث محافظة السويداء في يوليو الماضي، وحادثة تفجير كنيسة مار إلياس في دمشق، فضلًا عن الاشتباكات الحالية بين قوات “قسد” والقوات التابعة للإدارة السورية.
وما يزيد من مخاوف الأقليات الأخرى؛ هو أن جميع الإجراءات التي اتخذتها الإدارة السورية الحالية منذ توليها السلطة في ديسمبر الماضي وحتى الآن، هي محل جدل وخلاف، بل لا تحظى بتأييد جميع أطياف الشعب السوري، ومن تلك الإجراءات: تسريح 400 ألف موظف حكومي بشكل تعسفي، أزمة منح رتب عسكرية عليا لمقاتلين أجانب، الإعلان الدستوري والذي لاقى انتقادات واسعة من قبل بعض الأقليات وعلى رأسهم الأكراد، والنظام المؤقت لتشكيل مجلس الشعب والذي لاقى أيضًا انتقادات على خلفية أنه يكفل لرئيس الدولة تعيين ثلث عدد أعضاء المجلس، فضلًا عن قرار تأجيل إجراء الانتخابات النيابية في 3 محافظات سورية، وسيطرة قيادات هيئة تحرير الشام على المناصب القيادية العليا في البلاد.[15]
كل هذه الإجراءات تثير المخاوف من أن الإدارة السورية الجديدة تسير في طريق إرساء نظام شمولي، موحد، مركزي، انتقائي، استبعادي إذ يقوم على مكون واحد وهو السُنة دون غيرهم من المكونات، وهو ما جعل البعض يرى أن إدارة الشرع تكرر الآن أخطاء النظام السوري السابق برئاسة بشار الأسد.
ج. فشل تجربة النظام المركزي الموحد خلال عهد النظام السابق؛ شهدت سوريا وعلى مدار سنوات طويلة، نظامًا موحدًا مركزيًا شموليًا، وهو ما كان لها كثير من التبعات السلبية التي أدت في نهاية المطاف إلى إندلاع الحرب الأهلية السورية، ومن بينها:[16]
إثارة الاحتقان المجتمعي، وتعميق الشعور بالغبن والمظلومية لدى شرائح واسعة من السوريين، خصوصًا في المناطق المهمشة.
ضعف الشعور بالانتماء للدولة، نتيجة السياسات أحادية الجانب، والتحكم بمقدرات الشعب وثرواته، إضافة إلى إثارة الشعور بإقصاء العرقيات السورية المختلفة عن المشاركة في رسم مستقبل بلادهم.
تفشي الفساد والبيروقراطية في مؤسسات الدولة.
تفاوت التوزيع الاقتصادي؛ حيث تحظى المدن الكبرى بالاستثمار والتنمية، في حين تعاني المناطق الريفية والحدودية من الفقر وقلة الفرص.
د. الفيدرالية تضمن مبدأ العدالة المجتمعية على مختلف الأصعدة؛ الفيدرالية هي فن توزيع السلطة وإدارتها، وتقوم على مبدأ “الوحدة في التنوع”، وبالتالي؛ لا تؤدي إلى التقسيم أو الانفصال، بل على العكس، فهي تسعى للحفاظ على وحدة الدولة عبر الاعتراف بالواقع الاجتماعي والسياسي ومحاولة احتواء التنوع القائم، وانطلاقًا من هذا؛ فإن إقامة نظام فيدرالي لا مركزي في سوريا، من شأنه أن يحقق المكاسب التالية:[17]
تعزيز شعور الانتماء والمشاركة السياسية، مما يعيد بناء الثقة مع الدولة، ويقلل من النزعات الانفصالية لدى الأقليات السورية المختلفة.
تحقيق العدالة في توزيع الموارد الاقتصادية، مما يقلل من التهميش الذي عانت منه بعض المناطق.
دعم التعافي وتسريع عملية إعادة الإعمار، من خلال الاستجابة السريعة للاحتياجات المحلية.
استيعاب التنوع، من خلال تطبيق سياسات محلية تراعي الثقافة واللغة والخصوصية المجتمعية.
الحد من النزاعات، من خلال توفير قنوات سياسية للمجموعات المختلفة، تضمن بدورها تمثيل الأقليات.
الاتجاه الثاني؛ يرى أن الفيدرالية هي بداية لتقسيم الدولة السورية ولإندلاع حرب أهلية في البلاد مرة أخرى، ولذلك؛ يدفع هذا الاتجاه نحو ضرورة قيام نظام مركزي موحد، يخضع لسيطرة ورقابة الإدارة الحالية برئاسة الرئيس أحمد الشرع، ويقوم هذا الرأي على مجموعة من المعطيات؛ من أبرزها:
أ. الفيدرالية قد تؤدي إلى إثارة الصراع على توزيع الموارد والثروات الاقتصادية؛ حيث تتفاوت المحافظات السورية بين بعضها البعض من حيث الإمكانات الاقتصادية التي تتمتع بها كل محافظة، فمثلًا؛ الغالبية العظمى من ثروات سوريا النفطية تتركز في مناطق الشمال الشرقي السوري، أي تحت سيطرة وقبضة “قسد”، فيما تتركز أهم الموانيء البحرية في منقطة الساحل الغربي السوري، أي تحت سيطرة العلويين، بينما تقع أهم الأراضي الزراعية ومحاصيلها في الجنوب، تحت رعاية الدروز، وبالتالي؛ إذا حصلت كل طائفة أو عرقية من تلك الثلاث، على حكم ذاتي، يمهد لاحتفاظها بتلك الإمكانات الاقتصادية، والانتفاع منها دون غيرها، ستنشأ أزمة توزيع الموارد بين الأقليات المختلفة في سوريا، مما قد يصل إلى حالة من الحرب الأهلية الداخلية في البلاد، ومن ثم؛ الفيدرالية ومع صعوبة تحقيق التوزيع العادل للموارد، قد تؤدي إلى حرب أهلية في سوريا.
ب. التداخل الديموغرافي المعقد للدولة السورية؛ أي محاولة لتقسيم سوريا إلى كيانات مستقلة، أو أقاليم حكم ذاتي، بناءً على الأساس الطائفي أو العرقي؛ مثل دويلة الأكراد في الشمال والدروز في الجنوب والعلويين في الغرب، ستؤدي إلى حالة اقتتال داخلي غير مسبوقة، وهجرة قسرية لن تُحمد عقباها؛ وذلك نظرًا للتداخل الديموغرافي الذي تتمتع به طبيعة الدولة السورية، بمعنى أن لا منطقة تسيطر عليها جماعة أو عرقية واحدة فقط، بل تتداخل التركيبات السكانية في معظم المحافظات.[18]
فعلى سبيل المثال؛ الجنوب السوري يتمركز فيه الدروز والسُنة، والساحل ليس علويًا بالكامل، وشرق الفرات ليس كرديًا بحتًا، والمنطقة الوسطى تشكل أيضًا تنوعًا دينيًا وعرقيًا لا يمكن فصله.
ج. الفيدرالية قد تهدد بإندلاع حرب أهلية بين القوميات السورية؛ النموذج المقترح للنظام الفيدرالي السوري يقوم على أساس طائفي وعرقي؛ حيث الشمال للأكراد والجنوب للدروز والساحل الغربي للعلويين، وهذا يجعل اللامركزية وسيلة لتدمير وحدة الأراضي السورية، وقد يأتي بنتائج عكسية تتمثل في حدوث صراعات وحروب داخلية بين الأقليات العرقية المختلفة.
بل أن الأمر قد يصل إلى ما هو أبعد من ذلك؛ وهو أن هذا النظام قد يكون وسيلة لتدخل قوى إقليمية ودولية متعددة في الشأن الداخلي السوري، خاصةً وأن كل أقلية عرقية من العرقيات السالف ذكرها تدعمها قوى مختلفة؛ فمثلًا الدروز يحظون بدعم إسرائيل، الأكراد يحظون بدعم الولايات المتحدة، فيما تحظى إدارة الشرع بدعم تركيا، ولا شك أن كل ذلك سوف يعزز الانقسامات، ويزيد من تعقيد المشهد الأمني السوري.
د. الرفض العربي والشعبي لفكرة النظام اللامركزي؛ رغم وجود تأييد لفكرة الفيدرالية من جانب جزء كبير من الشعب السوري، إلا أن هذا لا يعني أن هناك توافق شعبي حول مطلب اللامركزية في سوريا، إذ هناك بعض الفصائل والعرقيات الرافضة للفكرة، فهؤلاء يعتبرون الفيدرالية ما هي إلا مخطط غربي لتقسيم الدولة السورية وضم أراضي منها، خاصةً وأن طرح إقامة اللامركزية في دمشق، يحظى بتأييد كبير من واشنطن وتل أبيب، وهو الأمر الذي أثار الكثير من الشبهات حول جدوى هذا النظام، والدوافع الحقيقية التي تقف وراء الدعم الذي يقدمه التحالف الأمريكي- الإسرائيلي لهذا النظام.
وفي الإطار ذاته؛ هناك رفض قاطع من الدول العربية لفكرة تقسيم الدولة السورية، أو تحويلها إلى أقاليم منفصلة تتمتع بحكم ذاتي، لأن ذلك يحمل الكثير من التحديات الأمنية التي ستترتب على هذا التقسيم، وعلى رأسها إنتقال عدوى التقسيم للدول العربية الأخرى التي تتميز بتعدد العرقيات والطوائف، مثل العراق ولبنان.
هـ- هشاشة مؤسسات الدولة السورية وتعدد الفواعل العسكرية؛ خلفت سنوات الحرب الطويلة التي شهدتها سوريا منذ العام 2011، بنية تحتية ممزقة، وسلطة مركزية ضعيفة، وفواعل أمنية وعسكرية متعددة، وحالة الترهل والضعف في مؤسسات الدولة، وفي ظل هذا الوضع، قد يؤدي تطبيق النظام الفيدرالي إلى نتائج عكسية، نظرًا لعدم وجود بُنى قانونية وإدارية قوية، تكون مهيأة لتطبيق هذا النموذج في سوريا.[19]
وإجمالًا؛ تواجه سوريا خطرًا حقيقيًا يهدد وحدة أراضيها، ويتمثل في الضغوط المتزايدة التي تمارسها الأقليات العرقية والطائفية على الإدارة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع، والتي تطالب بقدر من الاستقلالية، سواء من خلال نظام لا مركزي، أو الانفصال التام عن حكومة دمشق، والتمتع بحكمًا ذاتيًا.
ومع كثرة الدعوات المطالبة باللامركزية في النظام السوري الجديد، تباينت الآراء والاتجاهات حول ما إذا كانت الفيدرالية هي الحل الأفضل بالنسبة للمشهد السوري الراهن، أم أنها ستكون البداية لتقسيم البلاد، وإنهيار وحدة أراضي الدولة السورية.
وأيًا ما كان شكل النظام الذي سيتشكل في سوريا خلال الفترة القادمة، فلا بد من صياغة استراتيجية متكاملة الأركان، توازن بين حقوق وحريات جميع مكونات الشعب السوري، وتحفظ سيادة ووحدة الدولة السورية، وتستوعب التنوع العرقي والطائفي والديني الذي يشهده المجتمع السوري، وبما يحفظ وحدة سوريا وأمنها، ولا شك أن هذه الاستراتيجية ينبغي أن تأتي في إطار دستوري مرن، ودمج أمني تدريجي، وتوزيع عادل للموارد.
وأخيرًا؛ هناك مجموعة من المعطيات التي يجب أخذها في الإعتبار عند الحديث عن شكل نظام الحكم الواجب إتباعه في سوريا، سواء كان مركزي أو فيدرالي لا مركزي، ومن أهمها: الإرادة السياسية وقدرة الحكومة السورية على استيعاب التنوع العرقي والطائفي القائم بالبلاد، مدى نجاح أو فشل الإدارة السورية في توحيد المليشيات العسكرية في جيش سوري موحد، التفاهمات التي تتصل بالقوى الإقليمية والدولية المؤثرة في الداخل السوري وعلى رأسها تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة، وإدراك أن خطر التقسيم الذي يلوح في الأفق السوري، ما هو إلا جزء من مشروع أكبر يُسمى “الشرق الأوسط الجديد”، والذي يتضمن حدود مغايرة عن الحدود المعتمدة في خريطة الشرق الأوسط الحالي، وهو ما يُعرف بـ”اتفاق سايكس- بيكو الجديد”.
المصادر:
[1] أزمة الفيدرالية في سوريا .. خيار لامركزي أم تهديد للوحدة الوطنية؟، موقع صدى البلد، 21/8/2025، متاح على الرابط: https://www.elbalad.news/6673147
[2] طارق علي، الوحدة أم التقسيم: إلى أين تبدو سوريا أقرب اليوم؟، اندبندنت عربية، 17/3/2025، متاح على الرابط: https://www.independentarabia.com/node/619866/%D8%B3%D9%8A%D
[3] رمضان بورصة، سوريا الآن تواجه أخطر سيناريو، الجزيرة القطرية، 14/8/2025، متاح على الرابط: https://www.ajnet.me/opinions/2025/8/14/%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A
[4] صافيناز محمد أحمد، سوريا: الشرع والخيارات الصعبة فى مواجهة “قسد” و”الدروز”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 27/8/2025، متاح على الرابط: https://acpss.ahram.org.eg/News/21489.aspx
[5] إعلان تشكيل المجلس السياسي لوسط وغرب سوريا: “الفيدرالية بديل للقوة”، يورونيوز عربية، 28/8/2025، متاح على الرابط: https://arabic.euronews.com/2025/08/28/syria-federalism-political-council-
[6] طارق علي، الوحدة أم التقسيم: إلى أين تبدو سوريا أقرب اليوم؟، اندبندنت عربية، 17/3/2025، مرجع سابق.
[7] “الفيدرالية حل نهائي”.. الإعلان رسمياً عن “المجلس السياسي لوسط وغرب سوريا”، موقع إرم نيوز، 27/8/2025، متاح على الرابط: https://www.eremnews.com/news/arab-world/s0hwvyk
[8] ساعر: سوريا المستقرة هي سوريا الفيدرالية، جريدة المدن اللبنانية، 25/2/2025، متاح على الرابط: https://www.almodon.com/arabworld/2025/02/25/%D8%B3%D8%A7%
[9] صافيناز محمد أحمد، سوريا: الشرع والخيارات الصعبة فى مواجهة “قسد” و”الدروز”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 27/8/2025، مرجع سابق.
[10] مطالب كردية بسوريا فدرالية: حل أم بداية تقسيم؟، دويتشه فيله، 11/7/2025، متاح على الرابط: https://www.dw.com/ar/%D9%85%D8%B7%D8%A7%D9%84%D8%A8
[11] ماهر عصام المملوك، هل ستُبقي إسرائيل والقوى الكبرى على خارطة “سوريا الكبرى” كما نعرفها؟، بوابة الشرق الأوسط الجديدة، 20/7/2025، متاح على الرابط: https://greatmiddleeastgate.com/%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D8%B7%D
[12] إلهامي المليجي، يحمل تداعيات إستراتيجية عميقة.. الممر الإنسانى إلى السويداء: بوابة إغاثة أم تدخل إسرائيلى؟، بوابة الأهرام العربي، 25/8/2025، متاح على الرابط: https://arabi.ahram.org.eg/News/148914.aspx
[13] غسان تقي، فدرلة سوريا، موقع الحرة، 3/9/2025، متاح على الرابط: https://alhurra.com/3970
[14] ماهر عصام المملوك، هل ستُبقي إسرائيل والقوى الكبرى على خارطة “سوريا الكبرى” كما نعرفها؟، بوابة الشرق الأوسط الجديدة، 20/7/2025، مرجع سابق.
[15] طارق علي، الوحدة أم التقسيم: إلى أين تبدو سوريا أقرب اليوم؟، اندبندنت عربية، 17/3/2025، متاح على الرابط: https://www.independentarabia.com/node/619866/%D8%B3%D9%8A%D
[16] عبدالله مكسور، الفيدرالية في سوريا.. جدل المعنى ومأزق التصوّر، موقع تلفزيون سوريا، 14/4/2025، متاح على الرابط: https://www.syria.tv/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%8A%D8%AF%D8%B
[17] قصي جهاد زهر الدين، اللامركزية السوريّة… نقاش حار في بلد متنوع، صحيفة السوري، 12/8/2025، متاح على الرابط: https://www.aajeg.com/supplements/%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A
[18] أغيد حجازي، الفيدرالية في سوريا.. خيار قابل للتطبيق أم وصفة للتقسيم؟، موقع ultrasyria، 9/3/2025، متاح على الرابط: https://ultrasyria.ultrasawt.com/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%8A%D8%A
[19] باسل المحمد، اللامركزية في سوريا.. حل تحمله الثورة أم فخ تفرضه الفوضى؟، موقع تلفزيون سوريا، 21/4/2025، متاح على الرابط: https://www.syria.tv/%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A7%D9%85%D8%B