في تطوُّرٍ ملحوظٍ في مسار الحرب السودانية، أعلن الجيش السوداني، في يوم الحادي عشر من يناير الجاري، استعادة مدينة “ود مدني” عاصمة ولاية الجزيرة، بعد أكثر من عامٍ من قيام قوات الدعم السريع، بإحكام قبضتها على هذه المدينة، وخلال سيطرتها عليها، ارتكبت هذه القوات مجازر وحشية وجرائم إبادة جماعية ضد الأهالي؛ أدَّت إلى مقتل آلاف المواطنين العزل ونهْب ممتلكاتهم، وبفضل هذه الخطوة، استعاد الجيش السيطرة على المنطقة المحورية في وسط السودان؛ ما أدَّى إلى تغيير ديناميكيات الحرب في السودان وتأمين اليد العليا للجيش الذي يُخطِّطُ في الفترة المقبلة مواصلة تقدُّمه نحْوَ الخرطوم والسيطرة عليها.
خريطة سيطرة الجيش السواني على مدينة “ود مدني”
بدأ هجوم الجيش على مدينة “ود مدني”، في 8 يناير الجاري، خلال عمليةٍ عسكريةٍ كبيرةٍ شنَّها الجيش بالتعاون مع حركاتٍ مسلحةٍ حليفةٍ له، وتقدَّمت القوات المهاجمة باتجاه المدينة من عدة محاور، هي محور “ميجر 5” ومحور “الخياري” من جهة الشرق عند مدينة الفاو في ولاية القضارف، ومحور مدينة “المناقل” الذي تحرَّك أيضًا من جهتيْن، ومحور “ود الحداد” في غرب ولاية الجزيرة، وهي قوات قادمة من ولاية سنار المجاورة.
وفي السياق ذاته، عبَّر الجيش والفصائل المتحالفة معه إلى قلْب المدينة، من خلال الجسر الرئيسي “جسر حنتوب”، الذي يعبر النيل الأزرق من شرق المدينة، دون خوْض أيِّ معارك مع قوات الدعم السريع التي كانت تسيطر المدينة عليها، منذ ديسمبر2023م، ومع تصاعُد العمليات العسكرية في الجزيرة لم تدخل قوات الدعم السريع في أيِّ اشتباكات عسكرية جِدِّيَّة أو معارك كبيرة في معظم المواقع التي كانت تقع تحت سيطرتها، واستطاع الجيش والقوات المتحالفة معه بقيادة فصيل “درع السودان”، تحقيق انتصارات تكتيكية في جهات الشرق والغرب والجنوب؛ حيث أزال الجيش خلالها تجمُّعات قوات الدعم السريع، في عدد من البلدان الصغيرة والقرى في تلك المناطق، ثمَّ توالت انسحابات قوات الدعم السريع شمالًا، ما عدا عمليات محدودة في جهتيْ “سنار والمناقل” ومعارك كرّ وفرّ في بلدات أم القرى، وود المهيدي، والشبارقة على تخوم مدينة ود مدني عاصمة إقليم ولاية الجزيرة[1].
ردّ فعل قوات الدعم السريع من سيطرة الجيش على المدينة
اعترف قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، بهزيمة قواته وخسارتها “ود مدني”، قائلًا: إن قواته خسرت جولة ولم تخسر معركة، وأكَّد أن قواته ستعمل على استعادة المدينة مرة أخرى، كما اعترف المستشار القانوني لقائد قوات الدعم السريع ” محمد المختار” بخسارة معركة الجزير؛ حيث ظهر في مقطع فيديو، يقول: ” خسرنا معركة ولم نخسر الحرب “، وأضاف، الحرب كرٌّ وفرٌّ وقبْل أن يعود، قال: معركتنا ستظلُّ مستمرةً ولن نتراجع.
الأهمية الإستراتيجية لمدينة “ود مدني”
تحتلُّ مدينة “ود مدني” أهميةً إستراتيجيةً كبيرةً؛ إذ إنها تربط بين خمس ولايات سودانية، وتتمتع بمكانة اقتصادية مهمة ، كما أنها عاصمة ولاية الجزيرة التي تقع في وسط البلاد، وثاني أكبر المدن السودانية؛ من حيث الكثافة السكانية، وأقرب المدن للعاصمة الخرطوم، وتربط بمحاور رئيسية ولاية النيل الأبيض بالغرب والقضارف بالشرق والخرطوم بالشمال، وتضُمُّ ثاني أكبر مستودعات للوقود بعد العاصمة الخرطوم، التي تعمل على تغذية وسط وغرب السودان، إلى جانب مشروع الجزيرة الزراعي، الذي يُشكِّلُ رافدًا اقتصاديًّا أساسيًّا للبلاد، في ظلِّ وجود منطقة المناقل الصناعية.
ولذلك فإن استعادة هذه المدينة ستكون لها أهمية كبيرة، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي؛ حيث إنها تضُمُّ عددًا كبيرًا من النازحين، سواء داخل السودان أو في دول الجوار، للعودة مرَّةً أُخرى إلى ديارهم، ويأمل قادة الجيش السوداني، أن تُمثِّلَ السيطرة على مدينة “ود مدني” نقطة تحوُّلٍ في الصراع الدائر مع قوات الدعم السريع، وأن يتمكن الجيش من فرْض سيطرته على المزيد من المناطق، والاستفادة من الزَّخَم المعنوي الحالي.
تأثير تغيُّر الولاءات على تحقيق النصر في مدينة “ود مدني”
يقاتل بجانب الجيش السوداني قوات درع السودان، التي يقودها القائدُ المنشقُّ من الدعم السريع ” أبو عاقلة كيكل”، الذي يُعدُّ كلمة السِّر في تمكين الجيش من السيطرة على مدينة “ود مدني”؛ حيث شنَّت قواته هجومًا مباغتًا على قوات الدعم السريع، قبْل يوم من السيطرة على مدينة “ود مدني”، استطاعت على أثره استعادة بلدات مهمة في الطريق إلى “ود مدني” أهمها بلدة أم القرى شرق “ود مدني”، بعد انسحاب قوات الدعم السريع منها، وواصلت تلك القوات توغُّلها في العُمْق بالسيطرة على بلدات وقرى أخرى.
والجدبر بالذكر، أن قوات درع السودان، نشأت في ديسمبر 2022م، تحت قيادة الجيش في منطقة سهل البطانة بولاية الجزيرة، بوصفها ردّ فعْل لاتفاقية سلام جوبا، التي مثَّلت صُلْحًا بين الحكومة المركزية وحركات مسلحة من غرب السودان بشكلٍ أساسيٍّ، وكان الغرض من نشأتها هو إعادة التوازن مع الحركات المسلحة المُوقِّعَة على سلام جوبا.
وفي أغسطس 2023م، فاجأ “كيكل” الجميع وأعلن انحيازه إلى قوات الدعم السريع بهدف مناصرة قضايا الهامش ومحاربة الإسلاميِّين، فسارعت قوات الدعم السريع بمنح “كيكل” رتبة لواء، وعقب ذلك، ظهر “كيكل” في مدينة “ود مدني”، 18 ديسمبر 2023م، معلنًا تحريرها من سيطرة الجيش وتسليمها لميليشيا الدعم السريع، بعد أن لعبت قواته دورًا رئيسيًّا في السيطرة على المدينة الإستراتيجية؛ لكونه يعرف جغرافيا المنطقة جيِّدًا، ثمَّ حقَّق “كيكل” مفاجأةً أُخرى، بإعلانه في أكتوبر 2024م، الانسلاخ مرَّةً أُخرى بكامل قواته عن الدعم السريع والانحياز للجيش، وقاتل إلى جانبه حتى استرداد المدينة، يوم السبت 11 يناير الحالي[2].
مناطق سيطره الجيش السوداني وقوات الدعم السريع
يسيطر الجيش السوداني على ولايات البحر الأحمر وكسلا والقضارف والشمالية وسنار بالكامل، وعلى نحو 90 % من ولاية نهر النيل، على الجانب الآخر، تسيطر قوات الدعم السريع على نحو 6 ولايات، تقع معظمها في إقليم دارفور ويتقاسم الطرفان المتحاربان السيطرة على العاصمة الخرطوم وولايات الجزيرة والنيل الأبيض وكردفان.
سيناريوهات المشهد السوداني القادم
عند النظر إلى تطوُّرات الأحداث الأخيرة في السودان، نجد أن المشهد السوداني المقبل سوف يحكمه السيناريوهات الآتية:
السيناريو الأول: تطوُّر ميزان القوة لصالح الجيش السوداني
إن نجاح الجيش السوداني في دخول مدينة “ود مدني” وسيطرته عليها بالكامل، بالإضافة إلى سيطرته في اليوم التالي على مجمع الرواد السكني، وظهور انشقاقات في الدعم السريع، يضع في التقدير إمكانية دخول الجيش باقي المدن وهزيمة قوات الدعم السريع، كما أن إعلان الخارجية الأمريكية إقرار عقوبات مبدئية ضد حميدتي، قائد الدعم السريع في أكتوبر 2024م؛ الأمر الذي بدأ على إثْره ظهور الانشقاقات السابق ذكرها، كما أنه أثَّر بشكلٍ سلبيٍّ على حميدتي بشخصه، وعلى قواته وقادته الميدانيِّين التابعين له؛ خوفًا من أي ضرر يلحق بهم، ومن المتوقع في الفترة المقبلة أن يتمكن الجيش السوداني من اقتحام العاصمة الخرطوم وتحرير القصر الرئاسي من قبضة قوات الدعم السريع.
السيناريو الثاني: انتصار مؤقت للجيش وتمكُّن الدعم السريع من استعادة المناطق
في ظل نظرة حميدتي قائد قوات الدعم السريع، بأن الصراع في السودان مصيري ينتهي بالقضاء عليه، فقد يحاول في الفترة المقبلة شنّ هجمات عسكرية؛ لمحاولة استعادة المناطق المفقودة، خاصَّةً إذا تمكن من حشْد تحالفات محلية أو حشْد موارد جديدة، ومن الممكن أن يعتمد على حلفائه بالخارج المستفيدين من إطالة أَمَدِ الأزمة السودانية في إمداده بالأسلحة والعتاد؛ لإضعاف قوة الجيش السوداني، وقد يعمل أيضًا على استهداف خطوط البِنْيَة التحتِيَّة ومناطق إمداد الجيش السوداني لإضعاف قدرات الجيش.
السيناريو الثالث: المصالحة من خلال تدخُّل أطراف دولية وإقليمية
في حالة تمكُّن الجيش السوداني من استعادة العاصمة الخرطوم والمدن الحيوية في السودان، فيحتمل أن يضطر حميدتي للقبول بخيار التفاوض من موقع أضعف، وفي هذا الأثناء، قد تتدخل أطراف دولية وإقليمية تعمل على إقناع الطرفين بالجلوس إلى طاولة المفاوضات مرَّةً أُخرى، وعقد هدنة من خلالها يتمُّ العمل على وقْف إطلاق النار، ومن ثمَّ يتمُّ العمل على وتطبيق آليات رقابية؛ لضمان الامتثال لهذا القرار وتشجيع الحوار بين جميع الأطراف المعنيَّة لبحْث القضايا الأساسية والتوصُّل إلى حلولٍ دائمةٍ.
ختامًا:
يُمثِّلُ استعادة الجيش سيطرته على مدينة “ود مدني” تطوُّرًا استراتيجيًّا مهمًا في مسار الحرب السودانية، يحقق الجيش من خلاله زخمًا عسكريًّا ومعنويًّا على أرض الواقع، ويمهد الطريق لتحقيق انتصارات أُخرى والتوجُّه نحو السيطرة على العاصمة الخرطوم، وتسهم بشكلٍ كبيرٍ في تقوية موقف الجيش في المفاوضات المستقبلية، على الجانب الآخر، يضعف قوات الدعم السريع ويُقلِّل من عزيمتها، ولكن ذلك النصر لا يعني نهاية الصراع لصالح الجيش السوداني، فقد تحاول قوات الدعم السريع استعادة قواتها مرَّةً أُخرى بشكلٍ أو آخر، وتشُنُّ هجمات مباغتة في محاولتها لاستعادة أماكن نفوذها، وفي إطار ذلك، سيطول أَمَدُ الأزمة السودانية، ورغم ضبابية المشهد السوداني في الفترة المقبلة، قد يولد من باطن المحنة منحة، ويتوصل الأطراف المتنازعة إلى تسويةٍ سياسيةٍ شاملةٍ؛ حتى يتمكن الشعب السوداني من العيش على أرضه بحرية دون الخوف من أيِّ ضررٍ يلحق بهم.
المصادر:
[1] سلمى سمير، ود مدني.. ما دلالات انتصارات الجيش السوداني وكيف تؤثر على المشهد؟، مصراوي، يناير 2025م، متاح على: https://www.masrawy.com/news/news
[2] محمد أمين ياسين، الجيش السوداني يحقق انتصاراً كبيراً ويستعيد عاصمة الجزيرة، الشرق الأوسط، السعودية، 2025م، متاح على: https://2u.pw/7Q3UUGBQ
