يعيشُ الداخلُ الألماني تغيراً ملحوظاً فى تحركات جماعات اليمين المتطرف لاسيَّما الشعبوية منها نحو الصعود فى الولايات الشرقية تجاه النشاط السياسي داخل مؤسسات الدولة، مستغلةً عدداً من الأزمات المحورية كالهجرة والأزمة الروسية الأوكرانية وتنامى الهجمات الإرهابية المرتبطة بجماعات تنَتهجُ السلفيةَ الجهاديةَ والتحديات الاقتصادية، ناهيك عن تفاقمِ أزمةٌ شرعيةِ الائتلاف الحاكم وتهديدِ بقائه، وحقيقةُ الأمرُ تطور تلك التوجهات اليمينية، وعلى رأسها “حزب البديل من أجل ألمانيا”، من أجندتها ووسائل عملها المائلة إلى التطرف مما يبعث بالتهديد نحو فئاتٍ من المجتمعِ لاسيما الأجانب والأقليات، بجانب الأحزاب الأخرى ذات التوجهات المعتدلة واليسارية والائتلاف الحاكم، ويزيدُ من تحرك السلطات الألمانية لتحجيم هذا الدور المُتصاعدِ واستكمال إجراءاتها وتدابيرها التى تبّنتها فى الربع الأول من العام الجارى.
سياق التحركات الراهنة:
تفوق حزب “البديل من أجل ألمانيا”:
يتنامى تأثيرُ الحزب من خلال الانتخاباتِ المحليةِ الماضية فى بعض ولايات ألمانيا الشرقية والتى حصد بها الحزب أصواتاً مرتفعةً تفوق نِسبَ أحزاب الائتلاف الحاكم وعلى قدْرٍ متقاربٍ مع الأحزاب اليسارية المعتدلة، وبالنظر إلى الانتخابات فى ولايات “ثورينجيا” و”ساكسونيا” و”” حصد الحزب حوالى نسبة 32.4% و30.6% و 29.2% على التوالى، ناهيك عن التقدم فى استطلاعات الرأى الأخيرة والتى وصلت نحو 17% لصالح الحزب فى مقابل 10% فى استطلاعات عام 2021. وعلى الرغم من ضعْفِ احتمالية تحالف أحزابٍ أخرى معه لتولى مقاليد الحكم، إلا أنه يستطيعُ إحداثَ تأثيرٍ فى الولايات الصاعد بها لاسيما فى إطار عملية إقرار القوانين[1].
وحقيقةُ الأمر يرجعُ هذا التفوق إلى سببين يتمثل الأول فى برنامج الحزب ورؤيته تجاه عدد من القضايا وكيفية التعامل معها مستقبلاً، بينما يتعلق الأخر بمجموعةٍ من المحفّزات المساعدةِ على استئناف تناميها لاسيَّما أزمةُ الهجرة واللجوء والتعامل الأوروبى مع الحرب الروسية الأوكرانية وما يَنتجُ عنه من أزماتٍ تنعكسُ على المواطن الأوروبى بشكلٍ عامٍ والألماني بشكلٍ خاص. ويحاولُ الحزب استقطابَ قاعدةٍ من المؤيدين له لاسيما من الشباب فى الولايات الشرقية عبر نشاطه على وسائل التواصل الاجتماعى المتنوعة مستغلا التطورَ التكنولوجيَ في رفْعِ شعبيته والتحريض على اتخاذ مواقفَ مناهضةٍ للحكومة، وفى نفس الوقت ساعد هذا التطور السلطات الأمنية فى رصْدِ بعض أنشطة الحزب الخاضع للمراقبة من جانب جهاز الاستخبارات الداخلية باعتباره منظمة متطرفة مشتبه بها.
علاقاتُ الحزبِ مع الجماعات اليمينة فى البلاد:
لا يمكنُ غضُّ الطرْفِ عن وجود روابط وعلاقات بين أعضاء الحزب وأعضاء الشبكات اليمينية الأخرى أو التى يُطلقُ عليهم البعض اسم “النازيين الجدد” مثل حركة “مواطنو الرايخ” التى تتبنَّى نفسَ المبادئ والتوجهات اليمينية التى يأتى فى مقدمتها النزعة المعادية للأجانب والأقليات ورفضُ كافة أشكالِ الهجرة وما ينتجُ عنها من انعدام للأمن الاجتماعي وغيرها من التحديات، وتشجعُ التوجهات التحريضية التى يقوم بها الحزب على تعميق الروابط مع تلك الشبكات وجذْبِ عناصرَ جديدةٍ نحو مفاقمة خطاب الكراهية واستخدام العنف ومعاداة سيادة القانون فى البلاد وفقاً لقول أحد السياسيين فى ألمانيا. وفى هذا الإطار تَقدمَ هذا العام “المكتب الاتحادي لحماية الدستور” بدراسةٍ حول المشهد اليميني المتطرف خلال عام 2023، وتوصلت إلى أن هناك حوالى 40600 شخص مرتبطين باليمين المتطرف فى زيادة عن عام 2022 قدرها 2000 شخص، فى حين تمَّ رصْدُ حوالى 1270 عمل عنيف، ناهيك عن 10400 حالة جرائم عنصرية وكراهية للأجانب.[2]
عقباتٌ ضاربة للحزب الحاكم:
يواجهُ الائتلافُ الحاكم أزمةَ بقاء ناتجة عن تنامى الدعوات بإجراء انتخابات مبكرة، حيث دعا (فريدريش ميرتز) زعيم ” الاتحاد المسيحي الديمقراطي المحافظ” إلى ضرورة تنظيم انتخاباتٍ مبكرةٍ نظراً لتراجعِ شعبية الائتلاف الحاكم، فى حين طلبت (أليسا فايدل) زعيمة حزب “البديل من أجل ألمانيا” من المستشار الألمانى (أولاف شولتز) “أن يواجهَ تصويتاً على الثقة في البرلمان في وقت لاحق من نوفمبر هذا العام”.[3] وعليه أعلن شولتس فى اليوم السادس من هذا الشهر الجارى أنه سوف يدعو للتصويت على الثقة يوم 15 يناير المقبل أمام البرلمان الاتحادى “البوندستاغ”، مما يُشيرُ إلى احتمالية إجراء انتخابات اتحادية مبكرة فى مارس القادم فى حال لم تحصلْ الحكومةُ على الثقة. فى حين يواجهُ الائتلافُ بعضَ الأزمات الأخرى والتى ترتبطُ بعدم التوافق مع الأحزاب المتحالفة وبعضها البعض المتمثلة فى “الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخُضرِ والحزب الديمقراطي الحر” مما ينعكسُ على السياسات التى تتبناها تلك الحكومة لاسيما الاقتصادية منها وهو ما أظهرته أزمة الخلاف حول الميزانية المالية والتداعيات الاقتصادية لكلٍ من جائحة كورونا والأزمة الأوكرانية، ناهيك عن الخسائر الناتجة له فى كلٍ من انتخابات البرلمان الأوروبى السالفة والانتخابات المحلية فى 3 ولايات من أصل 16 ولاية ألمانية[4].
إجراءات طويلة الأجل:
تُحتّمُ السياقاتُ السابقة تكثيفَ الحكومة الألمانية من جهودها تجاه اليمين المتطرف والحدّ من تداعيات صعوده، وذلك عبر تبنّى بعض الإجراءات المناهضة تجاهه أو تبنى بعض السياسات لتحقيق الرضاء الشعبى تجاه الحكومة، وحقيقة الأمر سبقَ الإعلانُ عن هذا الطرح فى بداية العام الجارى حيث أعلنت وزيرة الداخلية الألمانية (نانسى فيزر) أن الحكومةَ الألمانيةَ تريدُ استخدامَ جميع أدوات سيادة القانون من أجل حماية الديمقراطية وزيادة التمويل لتعزيزها من حركات اليمين المتطرف التى قد وصفتها “أنها أكبر تهديد متطرف لألمانيا”[5]، وذلك عبر تبنى خطة مكونة من 13 بنداً باعتبارها مُقَاربةٌ شاملةٌ على المستوى الأمنى والاقتصادي والفكرى بالتعاون بين السلطات المحلية والفيدرالية، وفيما يلى سيتم التطرق إلى أبرز تلك الإجراءات:
اتخاذُ تدابيرَ صارمة تجاه ملف اللجوء:
عملتْ الحكومةُ على تسريع عمليات ترحيل اللاجئين المتهمين بارتكاب الجرائم والأعمال العنيفة ناهيك عن تعزيز الرقابة على الحدود، وتقليصِ موجات الهجرة الحدودية عبر إغلاق حدودها لمدة 6 أشهر منذ شهر سبتمبر المنصرم وذلك مع 4 دول وهم “الدنمارك، هولندا، بلجيكا، لوكسمبورج”، ذلك بالتزامن مع طرْحِ حلولٍ للتحديات الاقتصادية والاجتماعية المتعلقة بقضيتى اللجوء والهجرة .[6] وذلك بعد طرْحِ خطةِ “إعادة التهجيرRemigration” خلال اجتماع سرى جمعَ عدداً من قيادات حزب “البديل من أجل ألمانيا” فى مدينة “بوتسدام” الألمانية، وذلك من أجل عودة المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية، بمعنى آخر ترحيلُ عددٍ كبيرٍ من الأشخاص من ذوى الأصول المهاجرة من غير المندمجين بمن فيهم النظامين وحتى الألمان من ذوى الأصول المهاجرة والغير مرغوب فيهم وإخراجهم من ألمانيا وإجبارهم على المغادرة إلى بلدٍ آخر، وما ترتب عليه من حشدِ عددٍ من الاحتجاجات والمظاهرات ضد الهجرة وممارسات اليمين المتطرف بدأت منذ شهر يناير الماضى[7].
مكافحة خطاب الكراهية على الإنترنت:
سعتْ خطة فايزر إلى مكافحة خطاب الكراهية والمحتوى العنيف على الانترنت وحذْفِ المحتوى اليميني المتطرف من الإنترنت من خلال السلطات المعنية مثل “وحدة الإبلاغ المركزية التابعة لمكتب الشرطة الجنائية الفيدرالية” وتؤكدُ الهيئات الرسمية على سعْىِ المكتب الجنائى إلى التعاون بشكلٍ كبيرٍ مع مبادرات المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية وشركات الانترنت العالمية لمكافحة الكراهية والتحريض على الإنترنت، وطبقاً لتصريح (هولغر مونش) رئيس المكتب الاتحادي للشرطة الجنائية، يقومُ المكتبُ بمعالجة ما بين 1500 إلى 1700 تقرير شهرياً، فضلاً عن اتخاذ إجراءات ضد المحتوى المخالف والعنيف على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعى[8] .
مكافحة تمويل اليمين:
وعلى صعيدٍ آخر تشملُ إجراءات الخطة إلى ملاحقة شبكات التمويل الخاصة بحزب البديل وتَضييقِ الخناقِ عليه وكذلك ملاحقة ممولي اليمين المتطرفِ لقطعِ مصادر التمويل بمساعدة مؤسسات الدولة المعنية وفى هذا الإطار سعت الحكومة إلى توسيع صلاحيات المكتب الاتحادى لحماية الدستور من أجل الكشف عن المصادر المالية للشبكات اليمينية وتوعية البنوك بخطورة هذا الملف، ناهيكَ عن طرحِ قوانينَ جديدةٍ لتسهيل عمليتي تجميد الحسابات المصرفية والتحقيق فى التدفقات المالية للمتطرفين اليمينيين من الناحية القانونية، بجانب تعزيز التعاون مع دول الاتحاد الأوروبي لضمان منْعِ نقلِ الأموال لتلك الجماعات.
تفكيكُ شبكات اليمين المتطرف:
مع تمددِ المجموعات اليمينية المتطرفة مثل حركة “موطنوا الرايخ” وحركة “بيغيدا” ومجموعة “لواء العاصفة 44” وجماعة “الانفصاليين الساكسونيين” وغيرها من الشبكات التى تَميلُ إلى استخدام العنف فى تعبيرها عن مبادئ اليمين التقليدية، والتى تُعرفُ لدى مكتب حماية الدستور باسم أحزاب اليمين الجديد، وعليه سعتْ الحكومة إلى محاولة تفكيك بعضها، حيث تمكنت قوات الشرطة هذا الشهر من إلقاء القبض على 8 عناصر فى ولاية ساكسونيا وقامت بتفتيش مجموعةٍ من العقارات فى شرق ألمانيا ناهيك عن التنسيق مع السلطاتِ الأمنية فى كلٍ من بولندا والنمسا القريبة من الولاية محل الذكر للبحث عن عناصرَ أخرى، ووجّهتْ لهم تهمةَ الانتماء إلى جماعة يمينية تُعرفُ باسم “الانفصاليين الساكسونيين” بجانب التخطيط لتدريباتٍ عسكريةٍ وشراءِ معداتٍ قتاليةٍ لزعزعة البلاد وشنِّ عمليات ضد الأقليات والمهاجرين، ، وقد تأسست تلك الجماعة فى شهر نوفمبر لعام 2020 ويحملُ عناصرها إيديولوجياتٍ قوميةً ومعاديةً للسامية وترغبُ فى تأسيس نظامٍ سياسي قائمٍ على أساس الهوية القومية الألمانية [9][10].
الرغبةُ فى حظْر حزب البديل:
ونتيجةً للتوغل المتزايد لحزب البديل تجددَ الطرحُ المتعلقُ بحظْرهِ مع رغبة مجموعة من أعضاء البرلمان الألمانى المستقلين بتقديم اقتراحٍ إلى البرلمان لحظر الحزب مستنديين على نص الدستور الذى يسمح ب “حظر الأحزاب التي تسعى لتقويض أو إلغاء النظام الأساسي الديمقراطي”، واذا حصل على الأغلبية اللازمة وجبَ على المحكمة الدستورية الاتحادية الإقرارُ بحظْرهِ وحقيقة الأمر لم تلجأْ المحكمةُ فى ذلك الخيار إلا فى حالتين فقط وهما “حزب الرايخ الألمانى” و”الحزب الشيوعى الألمانى”، ولكن لا يبدو الأمر بتلك السهولة فهناك بعضُ العقبات القانونية التى تَحولُ دون اتخاذ هذا القرار والتى يستغلها الحزب من أجل الخروج من إمكانية حظره فعلياً[11][12].
مما سبق؛تحاولُ مجموعاتُ اليمين المتطرف الجديد ويأتى على رأسها حزبُ البديل من أجل ألمانيا إدخالَ نظريةِ المؤامرة فى مادته الدعائية والخطابية لإعطاء شرعيةٍ لمبادئهِ وأفكارهِ التى تُصنّفُ لدى الحكومة والأحزاب المنافسة بأنها خطاباتٌ متطرفةٌ وتدعو إلى إجراء سياساتٍ جِذريةٍ تهدد المجتمع الألماني ولكنها فى ذات الوقت ساهمت فى اتساع القاعدة الشعبية وتَقدمهِ فى الانتخابات البرلمانية الأوروبية السالفة، وأمام هذا التفوق لا يزالُ المستقبلُ السياسىُ لحزب البديل وشبكاته مرتبطاً بمصير الحكومة الائتلافية الحالية والقدرة على تكوين ائتلاف جديد يَصعبُ معه إدراجُ الحزب ضمنه نظراً لرفض الأحزاب الأخرى والمتفوقة مثل حزب “الاتحاد المسيحي الديمقراطي” التحالف معه، ناهيك عن الإجراءات المناهضة التى تتبناها السلطات الألمانية ضد تفاقم صعود اليمين المتطرف إلى السلطة بدءاً من تفكيك شبكاته وتعقّبِ تمويله إلى السعى لحظره مع استبعاد هذا الحل نظراً لما يَعقبهُ من ارتدادتٍ عكسيةٍ لصالح شعبويةِ الحزب وهو ما تؤكده نِسبُ استطلاعات الرأي الأخيرة .
المصادر:
[1] راغدة بهنام،” ألمانيا أمام تحدي اليمين المتطرف وتداعيات صعوده السياسي”، موقع الشرق الأوسط، 6 سبتمبر 2024، متاح على الرابط أدناه:
[5] أحمد أنور، ” التهديد الأكبر للبلاد.. ألمانيا تسن قوانين جديدة لمواجهة اليمين المتطرف”، موقع القاهرة الإخبارية، 14 فبراير 2024، متاح على الرابط أدناه:
[8] “Decisive action to combat right-wing extremism – utilising the tools of a resilient democracy”, Federal Ministry of the Interior and Community, 20 February 2024, Available on:
[10] “اليمين المتطرف في ألمانيا ـ ماذا تعرف الجهات الأمنية عن جماعة “الانفصاليين الساكسونيين”؟”، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، 5 نوفمبر 2024، متاح على الرابط أدناه:
[11] “اليمين المتطرف ـ هل يستفيد “حزب البديل” من الانتخابات الألمانية المبكرة؟”، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، 8 نوفمبر 2024، متاح على الرابط أدناه:
