المقالات
ملامح مرحلة جديدة في المشهد السياسي التركي: أسباب تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية
- مايو 29, 2024
- Posted by: hossam ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط
إعداد: أحمد فهمي
باحث متخصص في الشؤون التركية والإقليمية
في الشهور الأخيرة، شهدت الساحة السياسية التركية تغيرات ملحوظة، حيث بدأت تتضح معالم مرحلة جديدة تطرأ على الواقع السياسي في البلاد، واحدة من أبرز تلك التغيرات هى تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي كان لفترة طويلة يحظى بدعم واسع من الشعب التركي.
وهذا التراجع يمكن الاستدلال عليه من خلال نتائج الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة في البلاد. فعلى صعيد الانتخابات الرئاسية، تراجعت نسبة التصويت للرئيس أردوغان من 52.38% في انتخابات عام 2018 إلى 49.52% في الانتخابات الأخيرة التي انعقدت في مايو 2023، مما أجبره على الدخول في جولة ثانية لأول مرة. أما على صعيد الانتخابات البرلمانية التي انعقدت تزامناً مع الرئاسية، فقد تراجعت نسبة التصويت لحزب العدالة والتنمية من 53.7% وعدد نوابه من 344 نائباً في انتخابات عام 2018 إلى 49.47% وعدد نوابه 323 نائباً.[1] كذلك، في الانتخابات المحلية التي انعقدت في مارس الماضي، فقد حزب العدالة والتنمية السيطرة على 15 من 39 محافظة كان يسيطر عليها في انتخابات عام 2019، وانخفضت نسبة الأصوات المحلية للحزب من 44% لعام 2019 إلى 35% للإنتخابات الأخيرة [2].
كما أجرى مركز Asal Araştırma ve Danışmanlık استطلاعًا للرأي[3] في الفترة من 20 إلى 21 أبريل الماضي على عينة شملت 2000 شخص تزيد أعمارهم عن 18 عامًا في 26 ولاية تركية، حول السبب الأهم وراء خسارة حزب العدالة والتنمية للأصوات في الانتخابات المحلية الماضية، وقد أظهرت النتائج الأسباب التي أدت إلى هذه الخسارة، والتي سيتم تحليل أبرزها خلال الفقرات التالية، لأنها تقدم كذلك تفسيرات حول أسباب تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية. وظهرت نسب نتائج الإستطلاع كالتالي: (الاقتصاد/التضخم/غلاء المعيشة: 51.9% – المتقاعدون: 13.4% – المرشحون الخاطئون: 12.5% – مشكلة اللاجئين: 4.0% – انفصال حزب العدالة والتنمية عن الشعب: 3.8% – الحيوانات الضالة: 2.0% – عمل حزب الشعب الجمهوري بشكل أفضل: 1.5% – الظلم: 1.4% – التصريحات المتعلقة بفريق فنربخشة: 1.2% – التجارة مع إسرائيل: 0.7% – القضية الكردية: 0.6% – أخرى: 3.1% – لا رأي/لا إجابة: 3.9%).
ونتيجة لهذا “الانكماش” في شعبية العدالة والتنمية، فقد تعطي هذه المرحلة الجديدة إطلالة استشرافية عن مستقبل المشهد السياسي التركي، نظرًا لأنها تعكس تغيرات في أولويات الناخبين الأتراك، وتحولات في القيم والمعتقدات السياسية، بالإضافة إلى تأثيرات الأحداث الداخلية والخارجية على المشهد السياسي. لذا، فإن تحليل أسباب تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية يمثل مفتاحاً لفهم الملامح الجديدة وتفسير معناها في سياق التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تشهدها تركيا، وما يمكن أن يعنيه هذا التراجع بالنسبة للمستقبل السياسي للبلاد.
أولًا: تجربة حزب العدالة والتنمية وسر الاستمرارية
في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شهدت تركيا ظهورًا بارزًا لحزب العدالة والتنمية، الذي نجح في تحقيق نجاحات سياسية ملحوظة واستمرارية في الحكم على مدار سنوات عديدة. حيث شكل وصول الحزب إلى السلطة في نوفمبر عام ٢٠٠٢، بعد تأسيسه في أغسطس ٢٠٠١، حدثًا بارزًا في تاريخ البلاد، إذ جاء بعد فترة طويلة من التقلبات السياسية وعدم الاستقرار السياسي نتيجة للإنقلابات العسكرية ووجود سلسلة من الحكومات الائتلافية.
وقد تجسد انتصار الحزب في انتخابات عام ٢٠٠٢ تغييرًا هامًا في السياسة التركية، حيث قدم الحزب منصته السياسية التي تركز على الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية، ونال دعماً واسعاً من الشعب التركي الذي كان يتطلع إلى تحقيق التغيير والتحسين في حياتهم. فلم يقتصر النجاح السياسي لحزب العدالة والتنمية على مجرد الفوز في الانتخابات، بل قدم برنامجًا طموحًا شمل سلسلة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي ساهمت في تحسين الظروف المعيشية والإقتصادية، ومن بين هذه الإصلاحات تحسين البنية التحتية، وتطوير القطاعات الاقتصادية المختلفة.
ومع تواجده الدائم في الحكم، استطاع حزب العدالة والتنمية بناء قاعدة داعمة واسعة في البلاد، وتعزيز التواصل مع الناخبين عبر تنفيذ سياسات شاملة وبرامج تنموية محددة الهدف، كما استفاد الحزب من قيادته القوية، وتوجيهاته الواضحة، وقدرته على التكيف مع التحديات المتغيرة على الساحة السياسية المحلية والدولية.
يمكن تفسير النجاحات الانتخابية وصموده واستمراريته في الحكم بالممارسات التي اتبعها الحزب، والتي أتاحت له أن يصبح حركة جماهيرية وحزبًا محوريًّا، وأبرزها:[4]
أولًا، السبب الرئيسي وراء سلسلة انتصارات حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المتعاقبة يعود إلى السياسات الاقتصادية، حيث اعتمد الحزب سياسة التكيف الهيكلي، والتي مكنت الحزب من إخراج البلاد من أزمة اقتصادية خانقة أسفرت عن انهيار القطاع المصرفي وارتفاع معدلات التضخم وانخفاض قيمة الليرة التركية وارتفاع معدلات البطالة. واستطاع الحزب في خلال العقد الأول من القرن الحالي، في رفع معدل النمو، حيث تضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة عشر مرات، وزادت الصادرات بنسبة مضاعفة، وتراجع معدل التضخم من 60 في المئة إلى أقل من 9 في المئة، وارتفعت قيمة الاستثمار الأجنبي المباشر من حوالي 300 مليون دولار إلى 20 مليار دولار سنوياً.
ثانيًا، عدم اتخاذ حزب العدالة والتنمية موقفاً رافضًا أو معاديًا للنظام الكمالي والذي تجسد في تلك الفترة من خلال مجلس الأمن القومي، بل اقتصر نشاطه على ممارسة السياسة ضمن إطار القواعد المفروضة وتقييد نشاطه داخل حدود النظام الكمالي. فخلال الفترة من عام 2002 حتى أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تجنب الحزب التطرق إلى القضايا الحساسة مثل ارتداء الحجاب، أو تم معالجتها بمقاربة تصالحية وليست بشكل صدامي.
ثالثًا، قدرة الحزب على تقديم حلول عملية وتلبية احتياجات المواطنين، وخاصة في مجال تقديم الخدمات، وقد اكتسب الحزب خبرة كبيرة في إدارة شؤون الدولة على المستوى المحلي أولاً، قبل أن يعمم تجربته على المستوى الوطني. فبين عامي 1994 و1998، شغل معظم كوادر الحزب، تحت مظلة حزب الرفاه في ذلك الوقت، مناصب بارزة في بلدية إسطنبول الكبرى التي كان رئيسها أردوغان في ذلك الحين. ولعبت هذه الفترة دوراً حاسماً في صقل مهارات قادة الحزب، وشكلت خطوة أساسية لتأهيل الكفاءات التي تولت مناصب وزارية في حزب العدالة والتنمية في المستقبل.
رابعًا، نجاح الحزب في جذب مواطنين داعمين له من خلفيات ثقافية وسياسية متنوعة، فبدلاً من التمسك برؤية سياسية ضيقة والتحدث نيابة عن فئة معينة من الناخبين، قامت كوادر الحزب بتطوير أجندة سياسية شاملة، ليشكل الحزب نقطة استقطاب عامة.
خامسًا، إحدى أبرز الأسباب التي أدت إلى استمرار حزب العدالة والتنمية في السلطة هى وجود قائد قوي، بجانب تماسك الحزب وتنظيمه العمودي. حيث نجح أردوغان في بناء أسس قيادته بشكل منظم ومستدام، مما سمح للحزب بالحفاظ على هيكلية انضباطية متماسكة، ويفسر هذا التماسك القوي أسباب استمرار الحزب متحدًا حول أردوغان.
ثانيًا: أسباب تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية
بمجرد صدور نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة في تركيا، أصبح واضحًا أن شعبية حزب العدالة والتنمية تتراجع بشكل تدريجي، وهذا التراجع أثار تساؤلات واسعة حول الأسباب المحتملة لهذا التحول في ديناميكيات الدعم الشعبي، حيث يعتبر فهم أسباب تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية أمرًا حيويًا لفهم المشهد السياسي التركي المتغير ولتوجيه الاستراتيجيات المستقبلية للحزب.
(١) الأوضاع الاقتصادية:
من بين الأسباب الرئيسية لتراجع شعبية حزب العدالة والتنمية يُعزى مباشرة للتحديات الاقتصادية التي تواجهها تركيا. فبعد عودة محمد شيمشك، الذي يُعد خبيرًا اقتصاديًا ذا خبرة واسعة، إلى منصب وزير الخزانة والمالية عند تشكيل حكومة أردوغان الرئاسية، أظهر الرئيس أردوغان توجهًا واضحًا نحو التركيز على الشؤون الاقتصادية، وهذا عكس الاعتراف بالتحديات التي يواجهها الاقتصاد التركي والحاجة الملحة لمعالجة الأزمات السابقة.
ومع ذلك، فإن السياسات الاقتصادية الجديدة التي تم الكشف عنها، والتي هدفت إلى تحقيق نمو اقتصادي وخفض معدل التضخم، أثرت بشكل كبير على شعبية حزب العدالة والتنمية، رغم أن البرنامج الاقتصادي الجديد يتطلع إلى تحقيق نتائج إيجابية على المدى الطويل، إلا أنه أثار استياءًا بين بعض المواطنين، سواء كانوا من المعارضين للتوجه الجديد في السياسة النقدية أو من الداعمين لها.
فقد تزايدت معدلات التضخم واستمر انخفاض قيمة الليرة التركية، إلى جانب ارتفاع أسعار الفائدة، وهو ما أدى إلى زيادة تكاليف الحياة الأساسية وزيادة الضغوط على المواطنين، خاصة في المدن الكبرى. وبالتالي، وجد الناخبون في الانتخابات فرصة للتعبير عن استيائهم من الأوضاع الاقتصادية الراهنة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الزيادات الطفيفة في المعاشات التقاعدية أثارت استياءًا كبيرًا بين المتقاعدين الأتراك، الذين يشكلون نسبة كبيرة من السكان حيث يناهز عددهم الـ15 مليون شخص، وهذا الاستياء ساهم في تراجع الدعم لحزب العدالة والتنمية، حيث اختار بعض المتقاعدين الامتناع عن التصويت في الانتخابات، بينما انقسم الآخرون بين مؤيد ومعارض للحزب.[5]
(٢) غياب الكوادر القيادية:
يُعزى تدهور شعبية حزب العدالة والتنمية أيضًا إلى غياب وجود كوادر قيادية مناسبة داخل الحزب. في السابق، كان للحزب قادة بارزون وكان لهم تأثير ملحوظ على الساحة السياسية، إلا أن هؤلاء القادة تراجعت نشاطاتهم السياسية داخل الحزب أو انتقلوا إلى المعارضة. أبرزهم، الرئيس التركي الأسبق عبد الله جول، الذي لم يكن متوافقًا مع سياسات أردوغان وتردد اسمه كثيرًا كمرشح توافقي للمعارضة في عدة استحقاقات انتخابية رئاسية سابقة. بالإضافة إلى أحمد داود أوغلو، رئيس الوزراء السابق والرئيس السابق لحزب العدالة والتنمية، الذي ترك الحزب نتيجة لمعارضته لأردوغان وانتقل لصفوف المعارضة بعد تأسيسه لحزب المستقبل. كما ترك الوزير الأسبق للخارجية والاقتصاد، علي باباجان، حزب العدالة والتنمية، والذي له بصمة كبيرة في الإنجازات الاقتصادية وكان يلقب بصانع النهضة الاقتصادية التركية، ليؤسس حزب الديمقراطية والتقدم المعارض.
ليسيطر أردوغان لاحقًا على اختيار القادة الحاليين للحزب والمسؤولين الحكوميين، حيث يقوم بتغييرهم وتعيينهم وفقًا لرؤيته الشخصية والأهداف التي يحددها، وبالرغم من نجاح بعضهم في مهامهم الموكلة لهم، إلا أن انتكاسات واسعة صاحبت أبرز اختيارات الرئيس التركي وهو براءت آلبيرق، صهر الرئيس أردوغان، ووزير المالية السابق، الذي شهد في عهده تعثرًا كبيرًا للإقتصاد التركي. كما أن اختيار “مراد قوروم” كمرشح للحزب على معقد بلدية إسطنبول خلال الانتخابات المحلية الأخيرة، وُصف بأنه كان خطأ كبيرًا بسبب افتقاره للكاريزما، وضعف التواصل مع الجمهور، مما تسبب في خسارته للإنتخابات.
أظهرت تلك الخطوات ومالاتها تركيزًا كبيرًا من أردوغان على السلطة الفردية، كما يُعزى بعض الإجراءات المتخذة من قبل أردوغان، مثل تغيير النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، إلى محاولة تعزيز هذه السلطة وضمان استمراريتها. ويظهر هذا التدهور في غياب الكوادر القيادية بوضوح في عدم توافر خليفة محتمل لأردوغان بعد إعلانه سابقًا عدم الترشح لأي انتخابات أخرى، مما يثير قلقًا من احتمالية انقسام حزب العدالة والتنمية وتعرضه لخسائر أكبر في الانتخابات المستقبلية. ويعود ذلك جزئيًا لضعف التنظيم الداخلي ونقص الكوادر القيادية المناسبة، ويُعتبر هذا العامل مهمًا في فهم سبب تراجع شعبية الحزب في الساحة السياسية التركية.
(٣) أزمة المهاجرين واللاجئين:
خلال الانتخابات العامة الأخيرة، كان لموضوع أزمة وجود اللاجئين، خاصة السوريين، صدارة بارزة في الحملات الانتخابية، خاصة من قبل الأطياف المعارضة والأحزاب اليمينية المتطرفة، وقد تركزت هذه الحملات على ضرورة ترحيل اللاجئين وخروجهم من البلاد، متناولة الإيجابيات المحتملة لترحيلهم على الأوضاع الداخلية في تركيا.
وبعد إعلان نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، تمحورت المباحثات بين تحالف “الأجداد” ومرشحه سنان أوغان، الذي خسر في الجولة الأولى، وبين المرشحين المتنافسين في الجولة الثانية، أردوغان وكليتشدار أوغلو، حول ملف اللاجئين وخطط ترحيلهم. كان ذلك لتوجيه دعم ناخبي “أوغان” لمرشح معين، دون مناقشة مكثفة لمحاور أخرى، مما يشير إلى مدى أهمية هذا الملف في الاستحقاقات الانتخابية التركية.
ويمكن إيضاح تراجع نسب التصويت لأردوغان ولحزبه خلال تلك الانتخابات، نتيجة التحديات التي أفرزتها السياسات الداخلية لحكومته تجاه عدة ملفات، منها ملف استضافة اللاجئين، وقد وصلت هذه السياسات إلى عمليات تجنيس لآلاف السوريين، حيث قدر عدد الحاصلين على الجنسية التركية بــ200 ألف شخص، وقد تسبب هذا الإجراء الى إثارة انتقادات بعض أحزاب المعارضة مثل “حزب النصر”، الذي أعلن عن نيته تقديم مقترح للبرلمان يطالب فيه بمنع حق التصويت لمدة عشر سنوات لمن حصلوا على الجنسية حديثًا.[6]
وعلى الرغم من الحملة التي قامت بها الشرطة التركية لاستهداف المهاجرين غير الشرعيين، ومن التعهد الذي قدمه وزير الداخلية “علي يرلي كايا” بإنهاء وجودهم خلال أربعة أو خمسة أشهر، إلا أن هذا الهدف لم يتحقق. بجانب أن المواطنين الأتراك، خاصة في المدن الكبرى، يعلنون بإستمرار أنهم ما زالوا يواجهون تزايد وجود المهاجرين غير الشرعيين واللاجئين، ويعتبرون استمرار وجودهم سببًا في عدة أزمات، منها ارتفاع أسعار الإيجارات، ورغم سعي أردوغان لحل هذه المسألة قبل إجراء الانتخابات البلدية الماضية، إلا أنه فشل في تحقيق هذا الهدف أيضًا.
(٤) وجود فجوة بين الحزب والقاعدة الشعبية:
على الرغم من الريادة السابقة التي بذلها حزب العدالة والتنمية في تحقيق النجاح في البلديات، إلا أن الوضع بدأ يتغير مع مرور الوقت، وبدأ بلاحظ أن الحزب أصبح يبتعد عن قاعدة مؤيديه، وهذا يتجلى في عدم تلبية بعض المطالب الجماهيرية التي تتعارض مع سياسات الحزب، مثل التحديات الاقتصادية التي يواجهها المواطنون وانعكاساتها على أوضاعهم. فعلى سبيل المثال، زادت تكاليف العقارات في المدن الكبرى بسبب الضغط الناتج عن وجود اللاجئين الذين يبحثون عن سكن وفرص عمل، ولكن الحزب لم يتعامل بشكل فعال مع هذه المشكلة، في مقابل الحملات الدعائية المركزة من أحزاب المعارضة على مواجهة تلك التحديات.
إضافة إلى ذلك، بدأت الكوادر الجديدة في حزب العدالة والتنمية تظهر علامات الضعف في تقديم الخدمات والتفاعل مع القاعدة الشعبية بنفس الطريقة التي كانت عليها الكوادر السابقة، وهذا الانفصال بين الحزب وقاعدته الشعبية أدى جزئيًا إلى فقدان الثقة والتواصل بينهما.
علاوة على ذلك، يركز القادة الحاليون في الحزب على قضايا محددة، مثل السياسة الخارجية والأزمات الخارجية، بدلًا من التركيز على القضايا المحلية واحتياجات المواطنين، وهذا التحول في التركيز أدى إلى غياب الاهتمام بالشؤون المحلية وتقديم الخدمات الأساسية، مما زاد من البعد بين الحزب وقاعدته الشعبية.
(٥) النضوج السياسي البارز لأحزاب المعارضة التركية:
خلال السنوات الأخيرة، شهدت المعارضة التركية نضجًا ملحوظًا في أدائها السياسي، إذ أسست تحالف الأمة الذي ضم أحزاب الشعب الجمهوري، وحزب الجيد، وحزب السعادة، وحزب المستقبل، وحزب الديمقراطية والتقدم، والحزب الديمقراطي. ولعب هذا التحالف دورًا كبيرًا في تعزيز مكانة المعارضة وتنظيمها، وعلى الرغم من الأزمات التي واجهتها المعارضة خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إلا أنها استطاعت المنافسة بقوة ودخلت جولة الإعادة التي ربحها أردوغان لاحقًا بعد حصوله على 52.18% من الأصوات، مقارنة بمنافسه كمال كليتشدار أوغلو الذي حصل على 47.82% من الأصوات، وهذا الأداء القوي عزز من مصداقية المعارضة وأثبت قدرتها على تقديم بديل حقيقي لحزب العدالة والتنمية.
كذلك وبعد خسارة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، أظهرت المعارضة التركية مرونة وقدرة على مواجهة الحقائق، فقامت بإعادة هيكلة قياداتها لتتوافق مع متطلبات المرحلة الحالية، مما أكسبها مصداقية أكبر بين الشعب التركي. فعلى سبيل المثال، انتخب حزب الشعب الجمهوري “أوزغور أوزال” ليحل محل “كمال كليتشدار أوغلو”، أحد أبرز قادة المعارضة منذ التسعينات. كذلك، انتخب “درويش أوغلو” رئيسًا لحزب الجيد، ثاني أقوى أحزاب المعارضة، بدلاً من “ميرال أكشنار”. كما أعلن رئيس حزب السعادة، تمل قره موللا أوغلو، نيته ترك زعامة الحزب والذهاب إلى مؤتمر طارئ، ليكون ثالث زعيم حزبي يتخلى عن الرئاسة الحزبية.
هذه التغييرات أظهرت ديناميكية وقدرة على التكيف داخل صفوف المعارضة، على النقيض من الجمود الذي يميز قيادة حزب العدالة والتنمية تحت سيطرة أردوغان، واستمراره في بسط سيطرته المطلقة على حزب العدالة والتنمية، حتى خلال فترة رئاسته للبلاد قبل التعديلات الدستورية التي أجريت عام 2017.
انعكست هذه التطورات بشكل واضح في الانتخابات البلدية الأخيرة، حيث أن النضوج السياسي لأحزاب المعارضة، وخاصة حزب الشعب الجمهوري، لعب دورًا رئيسيًا في تراجع حزب العدالة والتنمية، حيث استطاعت المعارضة تقديم حلول واقعية وقادة يتمتعون بثقة الجماهير، مما جعلها بديلاً مناسبًا للكثير من الناخبين.
(٦) الموقف الرسمي من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة:
مع تصاعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بعد عملية “طوفان الأقصى” في أكتوبر الماضي، تزايدت الضغوط الشعبية على القيادة التركية لاتخاذ موقف أكثر حدة ضد إسرائيل. ومع ذلك، كانت ردود الفعل الأولية من أنقرة متحفظة نسبيًا، حيث دعا الرئيس التركي إلى ضبط النفس من جميع الأطراف وتجنب التصعيد، وهذا الموقف المتوازن قوبل بانتقادات داخلية شديدة، حيث شعر العديد من الأتراك بأن الحكومة تتخلى عن دعمها التقليدي للفلسطينيين.
نتيجة لهذه الضغوط، اضطر الرئيس أردوغان إلى اتخاذ موقف تصاعدي، لكن لم يصل إلى حد القطيعة الكاملة مع إسرائيل كما حدث في السابق، مما جعل الكثيرين يرون في هذه الخطوات مجرد إجراءات شكلية تهدف إلى امتصاص الغضب الشعبي دون أن تكون لها تأثيرات جوهرية على السياسات التركية.
التناقض بين التصريحات الرسمية والإجراءات الفعلية ساهم في تزايد الشكوك حول التزام الحكومة بدعم القضية الفلسطينية. بينما أطلق الرئيس أردوغان تصريحات قوية ضد إسرائيل، استمرت العلاقات الاقتصادية بين البلدين بشكل جيد طوال فترة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ أكتوبر الماضي، حتى تم قطعها في مايو الجاري.[7] وصفت المعارضة هذه الخطوة بـ”المتأخرة” وطالبت بالمزيد من الإجراءات لناحية قطع العلاقات مع الاحتلال.[8] وهذا التناقض جعل العديد من الناخبين يشعرون بأن الحكومة تتخذ مواقف مزدوجة، مما أدى إلى تراجع ثقتهم في حزب العدالة والتنمية.
إن سلبية الموقف الرسمي التركي تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة أدت إلى تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية بين الأتراك خاصة بين القاعدة الشعبية المحافظة، وهذا التراجع ناتج عن خيبة الأمل والضغوط الشعبية واستغلال المعارضة للوضع، بالإضافة إلى التناقض بين التصريحات والإجراءات الفعلية، وهذه العوامل مجتمعة أضعفت الثقة في الحزب وأدت إلى تآكل دعمه الشعبي بشكل ملحوظ.
وختامًا:
في ضوء التطورات الأخيرة في المشهد السياسي التركي، يواجه حزب العدالة والتنمية تحديات غير مسبوقة تؤثر بشكل مباشر على شعبيته ومكانته في الساحة السياسية، مع بروز المعارضة كمنافس قوي، قادرة على تنظيم صفوفها وتقديم بدائل حقيقية وفعّالة. يتضح ذلك من تحركات حزب الشعب الجمهوري والأحزاب المحافظة التي بدأت في الظهور بقوة على الساحة السياسية، مثل حزب الرفاه مجددًا، الذي حقق صعودًا مفاجئًا خلال الانتخابات المحلية الماضية وحل في المركز الثالث بعد حزب الشعب الجمهوري وحزب العدالة والتنمية.
ومع استمرار التحديات التي تواجه مكانة الحزب الحاكم في الحفاظ على مستوى شعبيته وتأثيره في المشهد السياسي التركي، يبدو أن المشهد السياسي مقبل على مرحلة جديدة تتسم بتعقيدات أكبر بين مختلف القوى السياسية، وقد تكون حاسمة في تحديد مستقبل الحزب وموقعه ضمن الخارطة السياسية للبلاد، خاصة إذا فشل أردوغان وحزبه في ابتكار استراتيجيات جديدة لاستعادة ثقة الناخبين وتحقيق التوازن بين مطالبهم والتحديات الداخلية والخارجية التي يواجهها.
المصادر:
[1] أحمد محمد فهمي، “قُبَيل الجولة الثانية من الانتخابات التركية.. قراءة فى نتائج الجولة الأولى والسيناريوهات المحتملة“، مركز شاف للدراسات، متاح على: https://2u.pw/5Gb0MUMM.
[2] الانتخابات التركية التي أدهشت الجميع، الجزيرة نت، ٢/٤/٢٠٢٤، متاح على: https://2u.pw/d9UI9kUI.
[3] “AK Parti yerel seçimde neden oy kaybetti?” anketi! Birinci sırada hayat pahalılığı var, Haberler, 29/4/2024, https://2u.pw/RP3F0pgy.
[4] جنى جبور، “تركيا دبلوماسية القوة الناهضة“، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أبريل 2019، ص 76 – 79.
[5] هل تسبب الاقتصاد المتدهور بهزيمة العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية؟، الجزيرة نت، ٤/٤/٢٠٢٤، متاح على: https://2u.pw/7cT6Rk2j
[6] أحمد محمد فهمي، “الحملات الأمنية التركية ضد المهاجرين غير الشرعيين.. المحفزات والأهداف“، مركز شاف للدراسات، متاح على: https://2u.pw/YO4QwNHP.
[7] تركيا تعلن رسميا قطع جميع علاقاتها التجارية مع إسرائيل، روسيا اليوم، ٢/٥/٢٠٢٤، متاح على: https://2u.pw/oAF9rNNR.
[8] أتراك ينادون بقطع العلاقات مع إسرائيل: القيود التجارية لا تكفي، موقع العربي الجديد، ١٨/٤/٢٠٢٤، متاح على: https://2u.pw/LVC30qLU.