تشهدُ منطقةُ جنوب القوقاز تحولاتٍ كبيرةً مع صعودِ ممر آراز كشريانٍ حيوي لا يقتصر دوره على الجانب اللوجستي، بل يتعداه إلى كونه ركيزةً للواقعية السياسية الجديدة بين أذربيجان وإيران، ولا يُنظر إلى هذا الممر على أنه مجردُ بديلٍ، بل كمسارٍ موازٍ واستراتيجيٍ يخدم مصالح الدولتين، وخصوصًا في سياق المنافسة الإقليمية على مسارات النقل الأوراسية.
وقد تمَّ الاتفاق عليه بين طهران وباكو في أكتوبر 2023 باعتباره الخيار الأمثل لحاجة أذربيجان الملحّة لتأمين الوصول المباشر إلى معزل ناخيتشيفان في ظل توترات ممر زانجيزور وبالنسبة لإيران إن الممر لا يُعد مجرد طريق عبور، بل هو ضمانةٌ جيوسياسيةٌ حيويةٌ تهدف إلى منْعِ إقصاء إيران من شبكات النقل الإقليمية الكبرى، فضلاً عن كونه رافعةً استراتيجيةً لتعزيز الممر الدولي للنقل بين الشمال والجنوب[1].
وعلى الرغم من التقدم الذي شهده الممر في الفترة الأخيرة إلا أن أهميته الاستراتيجية قد تضاءلت في ظل المنافسة مع المشروعات حيث أدى ظهور- “طريق ترامب للسلام والرخاء” (TRIPP) في أغسطس 2025، والذي يوفر مسارُا بديلاً عبر أرمينيا- إلى تحول الممر إلى أداةِ ضغطٍ تكتيكيةٍ لأذربيجان في مفاوضاتها[2].
هذا الممرُ قد تمَّ إضفاء الطابع الرسمي عليه في أعقاب التغييرات الإقليمية ووقّعت أذربيجان وإيران مذكرة تفاهمٍ في 11 مارس 2023 وتلتْها اتفاقيةٌ رسميةٌ في 9 أكتوبر 2023 وأصبح يُطلق عليه إما ممر آراز أو ممر “إيران”.[3]
تطوير البنية التحتية وحالة الإنجاز في 2025
بحسب الجدول الزمني المُعلن لعام 2025، كان متوقعًا إتمامُ المشروع ودخولُه حيّز التشغيل خلال سنة من تاريخ بدء التنفيذ، ما يعني أن الجسر كان من المقرر أن يكون في الخدمة أو في مراحله النهائية خلال عام 2025.
من ناحية الطاقة الاستيعابية، تُقدر قدرة نقطة التفتيش الحدودية الجديدة بنحو 1,100 مركبةً يوميًا، مما يؤكد أهميتها كممرٍ لوجستيٍ وتجاريٍ يربط شرق منطقة زنغزور الأذربيجانية بجمهورية ناخيتشيفان عبر الأراضي الإيرانية.[4]
التكامل مع المشروعات الأخرى وحالة الأداء اللوجستي
يرتبطُ ممر آراز بشكلٍ وثيقٍ بالجهود الرامية إلى تعزيز المسار الغربي من الممر الدولي للنقل الشمال–الجنوب (INSTC)، الذي يهدف إلى ربط الهند بروسيا مروراً بإيران. وفي هذا السياق، شهدت المشاريع التكميلية تقدّماً ملحوظًا، ولا سيَّما في تطوير محطة الشحن الحدودية في أستارا على الجانب الإيراني، حيث وصلت أعمال البناء فيها خلال عام 2025 إلى نحو 75%، مع توقّع اكتمالها ودخولِها الخدمة بنهاية العام.
من المُنتظر أن تمتلكَ محطة أستارا، عند بدء تشغيلها، سعةً تشغيليةً تصل إلى حوالي 3.5 مليون طن من البضائع سنويًا، ما يعزز من قدرة الممر على استيعاب حجمٍ أكبر من حركة التجارة الإقليمية والدولية، وقد أكدت اللقاءات الثنائية التي عُقدت في أكتوبر 2025 أن حجم البضائع المنقولة عبر الممر الدولي للنقل الشمال–الجنوب قد نما بنسبة 8.3% على أساسٍ سنويٍ خلال الأشهر التسعة الأولى من العام، ويُعزى جانب من هذا النمو إلى توسّع النقل البري والسككي في المنطقة.[5]
وتُظهر المؤشرات الاقتصادية أن الممر يوفّر مزايا كبيرةً من حيث الجدوى، إذ يُسهم في تقليص زمن الشحن بنحو 40% ويخفّض تكاليف النقل بنسبة تصل إلى 30% مقارنةً بالطرق البحرية التقليدية، وتؤكد وتيرة إنجاز مشاريع البنية التحتية الداعمة للممر، مثل محطة أستارا في عام 2025، أن إيران لا تنظر إلى ممر آراز باعتباره مسارًا تكتيكيًا مؤقتًا، بل تعتبره جزءًا محوريًا من استراتيجيتها الأوسع للربط الأوراسي. وبذلك، تتجاوز أهمية الممر بالنسبة لطهران حدود القضايا اللوجستية المتعلقة بناخيتشيفان، لتندرجَ ضمن رؤيتها الاقتصادية العالمية طويلة الأمد.
إيران وأذربيجان في لُعبة التوازن الإقليمي: توازنات متباينة
تتمحورُ استراتيجية إيران تجاه ممر آراز حول ثلاث اتجاهاتٍ أساسيةٍ تعكس مزيجًا من الأبعاد الأمنية والاقتصادية والسياسي:
أولًا،تسعى طهران إلى حماية حدودها مع أرمينيا ومنع أي تحوّل جيوسياسيٍ قد يؤدي إلى عزلْها عن هذه الحدود التي تراها بمثابة خط أحمر لا يمكن المساس به. ومن ثمّ، يشكّل ممر آراز خيارًا استراتيجيًا يضمن استمرار الدور الإيراني كلاعبٍ محوريٍ في منظومة النقل الإقليمي.
ثانيًا، تركّز إيران على تعزيز مكانة الممر الدولي للنقل الشمال–الجنوب (INSTC) عبر جعْل ممر آراز جزءًا مكمّلًا له، ما يضمن استمرار تدفق الإيرادات الجمركية والعوائد الاقتصادية ويحول دون تهميشها في شبكات العبور الأوراسية. كما تهدف إلى ربط ممر البحر الأسود–الخليج الفارسي (الذي يمر عبر أرمينيا) بالمسار الدولي من خلال أذربيجان، معتبرةً أن الربطَ السككي المباشر عبر ناخيتشيفان هو الحلُ الأمثلُ لتجاوز صعوبات التضاريس داخل الأراضي الأرمينية وتكاليفها الباهظة.
أما ثالثًا، فترى طهران في ممر آراز أداةً لتحقيق توازن إقليمي، إذ يُسهم في تخفيف حدّة التوتر مع أذربيجان ويعزّز دورها في ترسيخِ نهجِ التعاون ضمن صيغة (3+3) الخاصة بجنوب القوقاز، ما يعكس رغبتها في الحفاظ على موقعها كقوةِ استقرارٍ مؤثرةٍ في المنطقة.
وفي المقابل، تتسمُ الدوافع الأذربيجانية تجاه الممر بطابعٍ براغماتيٍ مرنٍ، يقوم على إدارة المخاطر والتحوّط الاستراتيجي: فبالنسبة لباكو، يشكّل ممر آراز حلاً عمليًا ومضمونًا لضمان الاتصال المباشر مع جيب ناخيتشيفان في الأمدين القصير والمتوسط، بما يخفف من التحديات اللوجستية التي تواجهها في جنوب القوقاز.
كما يُنظر إلى الممر من زاويةٍ تكتيكيةٍ مؤقتة، إذ يُستخدمُ كوسيلةِ ضغطٍ على أرمينيا لدفْعها إلى القبول بشروط ممر زنغزور، الذي تراه باكو وأنقرة الخيار الأكثر جدوى واستدامةً على المدى البعيد.
وفي الوقت ذاته، تعمل أذربيجان على دمج ممر آراز ضمن شبكة الممرات الأوراسية الأوسع، لا سيَّما من خلال ربْطه بالممر الأوسط العابر لبحر قزوين، بهدف توسيع روابطها التجارية مع تركيا وآسيا الوسطى. غير أن هذه الجهود تترافق مع مساعٍ موازية لتقليل الاعتماد على إيران في مجالي الطاقة والنقل، عبر مشاريع مثل خط أنابيب الغاز من إغدير التركية إلى ساداراك في ناخيتشيفان، وسكة حديد قارص–ناخيتشيفان الجاري إنشاؤها.[6]
وتكشف هذه المفارقة عن نهجٍ مزدوجٍ تتبناه باكو: فهي تبنّي ممر آراز كحلٍ فوريٍ لتأمين التواصل الإقليمي، مع استمرارها في الاستثمار بمشروعاتٍ بديلةٍ تُتيح لها في المستقبل الاستغناء عن الاعتماد على الأراضي الإيرانية، بذلك يمكن القول إن ممر آراز بالنسبة لأذربيجان لا يمثّل المشروع النهائي، بل خطةً بديلةً مؤقتةً تخدم مصالحها الاستراتيجية في المرحلة الراهنة.
الجدوى الاقتصادية ومخاطر التشغيل
يشكّل ممر آراز أحد العناصر الأساسية ضمن المسار الغربي (لممر الدولي للنقل الشمال–الجنوب (INSTC، وهو يمثل مشروعًا عالي الجدوى من الناحية الاقتصادية، لما يقدّمه من مزايا تشغيليةٍ ملموسة.
فعلى الصعيد اللوجستي، يتيح الممر تقليص زمن الشحن بما يقارب 40%، إلى جانب خفْض تكاليف النقل بنحو 30% مقارنة بالمسارات البحرية التقليدية، ما يجعله خيارًا أكثر كفاءةً للتجارة بين الجنوب الآسيوي وأوروبا عبر إيران وروسيا، وفي عام 2025، تمَّ تسجيلُ زيادةٍ في حجم الشحن عبر الممر بنسبة 8.3% على أساسٍ سنوي، وهو ما يعكس تصاعد دوره في حركة البضائع الإقليمية والدولية، كما أن استكمال محطة أستارا بطاقة تشغيلية تصل إلى 3.5 مليون طن سنويًا من شأنه أن يعزز القدرات التجارية لشبكة INSTC بأكملها، ويحولها إلى محورٍ تنافسيٍ متكاملٍ في منظومة النقل الأوراسي.
غير أن الجدوى الاقتصادية الكبيرة لا تُلغي وجود تحدياتٍ ومخاطرَ محتملةً تواجه المسار. فمن ناحية، يمثل التنافس مع مشروع TRIPP أحد أبرز التهديدات، إذ إن نجاح هذا المسار المدعوم من الغرب والمفضّل من جانب أذربيجان قد يؤدي إلى تراجعٍ كبيرٍ في استخدام ممر آراز لصالح بدائل أخرى، مما يحصر دوره في خدمة المصالح الروسية والإيرانية ضمن إطار INSTC فقط.
أما على الصعيد الأمني، فرغم أن إعادة تشغيل خطوط السكك الحديدية التاريخية يمكن أن تُسهمَ في بناء مناخِ تعاونٍ إقليميٍ – على غرار دور مجموعة الفحم والصلب الأوروبية في ترسيخ السلام بعد الحرب العالمية الثانية – فإن هشاشة البيئة الأمنية في جنوب القوقاز، واستمرار التهديدات باستخدام القوة لفرض الممرات، ما تزال تشكل خطرًا حقيقيًا على استمرارية التشغيل واستقرار تدفق التجارة.
وفي حال تمكن مشروع TRIPP من فرْضِ نفسه كممرٍ رئيسيٍ، فإن الاستثمارات التي ضُخت في ممر آراز لن تضيع بالكامل، بل سيُعاد توجيه عوائدها لدعم المصالح الاستراتيجية لممر INSTC (روسيا–الهند) وبهذا قد يتحول ممر آراز من مسارٍ تنافسيٍ إلى ممر ثانويٍ في شبكة العبور الأوراسية.[7]
ختامًا:
يمكن القول إن ممر آراز يُجسّد نموذجًا معبّرًا عن التحولات الجيوسياسية العميقة التي تشهدها منطقة جنوب القوقاز، حيث تتقاطع المصالح الوطنية للدول الإقليمية مع الرهاناتِ الاقتصادية العالمية على طرق النقل والعبور. فقد نجح الممر، منذ توقيع اتفاقياته بين طهران وباكو عام 2023، في أن يتحولَ من مشروعٍ لوجستيٍ محدودِ النطاق إلى رمزٍ للتفاعل الواقعي الجديد بين إيران وأذربيجان، يعكسُ توازناتٍ دقيقةً بين المصالح والأمن والاقتصاد.
ورغم التحديات والمنافسة المتزايدة من مشاريع بديلة مثل TRIPP، يظل ممر آراز جزءًا لا يتجزأ من البنية التحتية الكبرى لممر النقل الشمال–الجنوب (INSTC)، بما يقدّمه من مزايا اقتصادية واضحةٍ في تقليص زمن الشحن وخفض التكاليف وتعزيز الترابط التجاري بين آسيا وأوروبا. كما يكرّس المشروع موقع إيران كحلقة وصل حيوية في منظومة النقل الأوراسي، ويمنحها أداةً استراتيجيةً للحفاظ على نفوذها في بيئةٍ إقليميةٍ تتسم بالتقلب والمنافسة.
أما بالنسبة لأذربيجان، فإن الممر يشكّل خيارًا عمليًا مؤقتًا لتأمين التواصل مع ناخيتشيفان، لكنه في الوقت نفسه يعكسُ براغماتيةَ السياسة الأذربيجانية القائمة على التحوط وتعدّد المسارات. ومن ثمّ، فإن مستقبل الممر سيتحدد إلى حدٍّ كبير وفق توازن القوى بين المسارات المنافسة، ومستوى التنسيق الروسي–الإيراني في مواجهة النفوذ الغربي المتنامي في جنوب القوقاز.
وفي المحصّلة، يمكن القول إن ممر آراز لم يعدْ مجرد مشروع نقل عابر، بل أصبح أداةً جيواقتصاديةً وجيوسياسيةً في معادلةٍ إقليميةٍ أكثر تعقيدًا. فبينما تسعى القوى الإقليمية إلى تأمين مصالحها عبره، يبرز الممر بوصفه اختبارًا عمليًا لقدرة دول المنطقة على تحقيق التكامل بدلًا من التنافس، وترسيخ نموذج تعاونٍ أوراسي قائمٍ على المصالح المشتركة والاستقلال عن المحاور الخارجية.
