إعداد : أكرم السيد
بعد إلحاح أوكراني لم يتوقف، جاءت قمة السبع الأخيرة التي أقيمت في اليابان لتمثل حدثا فارقا في الإمدادات العسكرية الغربية الموجهة إلى كييف. فبعد رفض أمريكي واضح لفكرة إمداد كييف بطائرات إف١٦ لعدد من الاعتبارات يأتي أبرزها عدم الرغبة الأمريكية في الانخراط المباشر في الصراع، أعطت واشنطن على هامش القمة الضوء الأخضر للدول التي ترغب في إمداد كييف بهذه الطائرات عالية المهام، مشيرة إلى أنها بصدد تشكيل تحالف دولي يهدف لتدريب العناصر البشرية الأوكرانية على القيادة. وأمام هذا التطور اللافت، فإن ثمة تساؤلات تتعلق بهذه الطائرة وماذا بإمكانها تحقيقه على الأرض وحدود المواجهة الروسية حيال ذلك، نحاول الإجابة عليها.
من التعنت إلى الاستجابة.. ما حدث مع ليوبارد 2 وأبرامز يحدث مع إف 16
إن ثمة تشابه كبير في واقعة إمداد الغرب لأوكرانيا بالدبابات عالية المهام ك ليوبارد ٢ والطائرات عالية المهامك إف ١٦، حيث كانت مسألة الإلحاح الأوكراني في ضرورة تزويدها بدبابات ليوبارد ٢ وأبرامز خير شاهد على التحولات في المواقف الغربية إزاء إمداد أوكرانيا بأسلحة قتالية عالية المهام من شأنها تصعيد النزاع مع روسيا وتحقيق انخراط غربي مباشر فيه.
فمثلا لم يكن تزويد برلين لأوكرانيا بدبابات “ليوبارد 2” بالأمر السهل، إذ قوبل هذا الأمر بتعنت ألماني واضح في البداية، وهو ما قوبل بانتقاد صريح شنته كييف على برلين. حيث كانت لألمانيا في رفضها إمداد أوكرانيا بهذه الدبابات العملاقة عدة أسباب جعلت من موقفها موقفا يشوبه التردد الواض. ولعل أبرز هذه الأسباب تمثلت في الحرص على عدم إثارة ردود الفعل الداخلية في ألمانيا من التعامل الحكومي مع الحرب في أوكرانيا، كذلك الحرص على طي صفحات الماضي والحفاظ على الصورة التي قدمت ألمانيا بها نفسها قرابة السبعة عقود الماضية في صورة الدولة المحبة للسلام، بالإضافة إلى ما سبق فإن ألمانيا لم تكن تريد أن تتحرك في سياق أحادي، بل في ظل سياق غربي، ومن هنا يمكن فهم رغبتها في أن ترسل واشنطن دبابات “أبرامز” حتى ترسل ألمانيا دبابات “ليوبارد”.
أما فيما يتعلق بوجهة نظر الولايات المتحدة، فقد رفضت واشنطن في البداية إمداد كييف بدبابات أبرامز نظرا لعدة أسباب، أبرزها المخاوف من انخراطها المباشر في الصراع، بالإضافة إلى تكلفة الصيانة العالية لهذه الدبابات، والتكلفة التشغيلية لهذه المنظومة، علاوة على احتياج هذه المنظومة من الدبابات إلى تدريبات مكثفة للجنود الأوكرانيين، وهو ما سيأخذ وقتا طويلا نسبيا.
وأمام هذه الأسباب التي ذكرناها، لم يصمد رفض برلين وواشنطن طويلا أمام إلحاح كييف الهادف إلى إمدادها بمنظمومة دبابات قتالية عملاقة، إذ قررتا تزويد كييف بالدبابات ليكون ذلك بمثابة ضوء أخضر لكافة الحلفاء الأوروبيين بتزويد كييف بما تحتاجه من دبابات.
لذا فإنه يمكن القول بأن هذه الواقعة كانت النواة الأولى لتغيير الكيفية التي يتعاطي بها الغرب مع فكرة إمداد أوكرانيا بالأسلحة المتقدمة، فما كان يخشاه الغرب في السابق من انخراط عسكري مباشر إذا ما أمد أوكرانيا بهذه الأسلحة لم يعد يخشاه اليوم، وما كان من المرفوض تماما في السابق لم يعد محل رفض اليوم بل أصبح محل استجابة واضحة. لذا فإن فكرة الموافقة على إمداد أوكرانيا بطائرات إف ١٦ لم يكن بالشيء المستغرب.
الشيء الذي يمكن الالتفات إليه بأن النهج الغربي في الإمداد العسكري لكييف لم يعد يخشى خطوطا حمراء بدرجة كبيرة، بل هو نهج متدرج آخذ في التصعيد كلما تقدم الوقت دون تحقيق نصر عسكري.
انعكاسات إف ١٦ على الحرب
على غرار ما حدث في الأشهر الماضية مع دبابات ليوبارد وأبرامز، من إحجام عن إمداد أوكرانيا بهما ثم موافقة، تكرر الأمر هذه المرة فيما يتعلق بطائرات إف ١٦، حيث تطالب أوكرانيا منذ أشهر عدة بضرورة إمدادها بهذه الطائرات، لكن ثمة رفض غربي تتزعمه الولايات المتحدة قد اعترض طريق أوكرانيا للحصول عليها. حيث أبدى البيت الأبيض رفضا قاطعا في أكثر من مرة لهذه الفكرة. فوفقا لتصريحات منسوبة للرئيس بايدن في أكثر من موضع، استبعد بايدن تماما هذه الفكرة، وأشار بأن أوكرانيا ليست بحاجة إليها. وتعود أسباب الرفض إلى أكثر من سبب، ومنها الرغبة في عدم استفزاز روسيا إذا ما تسلمت أوكرانيا هذه الطائرة، والرغبة في عدم الانخراط المباشر في الصراع، بالإضافة إلى أسباب لوجيستية أخرى تتعلق بعدم وجود طيارين أوكرانيين مدربيين على قيادة هذه الطائرات، وهو ما يعني الحاجة إلى كثير من الوقت لإلحاق الطيارين الأوكرانيين في برامج تدريبية وهو ما ليس في مصلحة أوكرانيا بطبيعة الحال.
لكن هذه الحالة من الرفض لم تستمر طويلا، كما أنه لم يكن من المتوقع أيضا أن تستمر طويلا، نظرا للشواهد الماضية التي تمثلت في رفض تسليم كييف بعض الأسلحة ك ليوبارد ٢ ثم ما لبث هذا الرفض إلى أن تحول إلى موافقة. ونتيجة لأن واشنطن هي وحدها المالكة لإعطاء الأذن لغيرها من الدولة التي تمتلك طائرات إف ١٦ لإمداد الدول الأخرى بها، فإن موافقة واشنطن خلال قمة السبع الماضية على إمداد أوكرانيا بهذه الطائرات يعتبر بمثابة ضوء أخضر جديد، من شأنه أن يسمح للدول الأخرى بإرسال ما لديها من طائرات إلى أوكرانيا.
وأمام هذه التحول الكبير، فإن ثمة تساؤلات تدور حول إمكانية هذه الطائرة في إحداث تحول في مسار الحرب التي دخلت عامها الثاني، والحديث عن هذه النقطة الهامة يتوقف على عدد من الأمور، منها المدى الزمني الذي سوف سوف يستغرقه الطيارون الأوكرانيون في التدريبات، حيث أنه لن يكون لهذه الطائرات من جدوى في حال تأخر تسليمها بصورة تجعل الكفة تميل إلى صالح روسيا. وكذلك يتوقف الأمر حول كفاءة الطائرات التي سوف تتسلمها أوكرانيا، وهل سوف يتم تسليم الطائرات بالتكنولوجيا اللازمة التي تمكنها من تحقيق الأهداف المأمولة؟ كل هذه تساؤلات ينبغي الإجابة عنها أولا قبل الحديث عن مدى قدرة هذه الطائرات في إحداث تحول حقيقي لصالح أوكرانيا.
لكن وبشكل عام، فإنه على الرغم من صمود أوكرانيا طوال هذه الفترة، إلا أن القدرات الحربية لديها قد تضررت بشكل ملحوظ لاسيما طائراتها الحربية التي تعود إلى الحقبة السوفيتية، لذا فإن الموافقة على إمدادها بطائرات إف ١٦، من شأنه أن يؤدي إلى بث الروح مجددا لقدرات أوكرانيا الجوية، وتحقيق صمود أطول لها في الصراع. لكن الحديث عن إمكانية أن يؤدي امتلاك أوكرانيا لهذه الطائرات في تحقيق نصر عسكري مسألة بعيدة المنال في الوقت الحالي نظرا لقدرات روسيا العسكرية التي تفوق قدرات أوكرانيا بطبيعة الحال، بالإضافة إلى أن القدرة العسكرية للدولة لا تتوقف فقط على مقدار ما تمتلكه من طائرات فقط، بل هي منظومة متكاملة من القدرات المادية والمعلوماتية والتي بالتأكيد تعاني أوكرانيا من وجود أوجه قصور في عناصر قوتها بشقيها المادي والمعلوماتي. لذا وبشكل عام، فإنه يمكن القول بأن ثمة تعزيز كبير وتطور إيجابي لقدرات أوكرانيا العسكرية سوف يتحقق إذا ما التزمت الدول الغربية بوعودها وأمدتها بهذه الطائرات.
كيف سيكون الرد الفعل الروسي؟
أجمعت ردود الفعل التي صدرت عن الدوائر الرسمية الروسية بأنه في حال تسلمت كييف بالفعل طائرات إف١٦ فإن ذلك يعرض أمن الدول الأوربية إلى الخطر، بالإضافة إلى صدور مجموعة من الإدانات والاستنكار لهذه الخطوة، وهو ما تماثل تماما مع رد الفعل الروسي في واقعة إمداد أوكرانيا بدبابات ليوبارد ٢ وأبرامز، حيث استنكرت روسيا حينها هذا الإجراء وهددت بأن ذلك ينبأ بتطورات خطيرة. لكن بعد مرور أشهر لم تترجم بعد التهديدات الروسية هذه إلى إجراءات ملموسة في الميدان، فباستثناء استمرار العملية التي بدأتها روسيا منذ فبراير ٢٠٢٢، لم يجد جديد على الأرض.
ومن الناحية العملية، فإن تهديدات موسكو هذه سواء تعلقت بمسألة إمداد الغرب لأوكرانيا بالدبابات أو بالطائرات لن تتعدى أكثر من كونها حروب كلامية، حيث أنها لا يحق لها أن تجبر دولة تدخل في عداء معها ألا تذهب لغيرها من الدول للحصول على إمدادات عسكرية، فالموقف الأوكراني في هذه الحالة هو أقرب من الصحة عنه من الموقف الروسي، حيث تريد كييف أسلحة -أيا كان نوعها- فتذهب إلى حلفائها لتلبية هذا الطلب بحجة الدفاع عن سيادتها، وهو تصرف طبيعي.
لذا، فباستثناء استمرار النزاع على الأرض بين موسكو وكييف وما يشهده من تقدمات وإخفاقات لطرفي النزاع بين الحين والآخر، فإنه لا يلوح في الأفق أي رد فعل روسي سيصدر خصيصا لكف الدول الغربية عن إمداد الحليفة الأوكرانية بمثل هذه الأنواع من المسلحة.
إجمالاً
فإننا أمام حالة من استمرار التصعيد والتصعيد المضاد، تقطع الطريق أمام أي فرصة لتسوية سياسية فورية أو حتى في المدى القريب للنزاع، وكذلك أمام انخراط غربي يقترب تدريجيا من المواجهة المباشرة مع روسيا، ويتسع مداه كلما اتسع المدى الزمني للحرب، فما كان مرفوضا من قبل الدول الغربية بات اليوم مسموحا به ومحل ترحيب، ولعل إمداد أوكرانيا بطائرات إف ١٦ خير شاهد على ذلك. “وإطالة أمد الحرب” هو سيد الفترة الحالية والمقبلة.