المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشؤون الدولية > من العُمْق الصيني إلى أوروبا: مشروع الممرّ البري الصيني وآثاره الجيوسياسية
من العُمْق الصيني إلى أوروبا: مشروع الممرّ البري الصيني وآثاره الجيوسياسية
- سبتمبر 10, 2025
- Posted by: Maram Akram
- Category: تقارير وملفات وحدة الشؤون الدولية
لا توجد تعليقات

إعداد: أكرم السيد
باحث مساعد في وحدة الشؤون الدولية
ظلَّتْ الطُّرُق البحرية التقليدية منذ عقودٍ طويلةٍ، مثل “قناة السويس ومضيق هرمز” هي الشرايين الأساسية للتجارة العالمية، وهو ما جعلها نقاطًا استراتيجية تخضع لمعادلات القوة والسيطرة الدولية، إلا أن هذه الطُّرُق لم تعُدْ فقط مجرد مسارات تجارية، بل أوراق ضغط جيوسياسية يتمُّ استخدامها في أوقات النزاعات والأزمات، وهو ما دفع القوى الكبرى إلى البحْث عن بدائلَ تُقلِّلُ من المخاطر وتضمن استقرار سلاسل الإمداد.
في هذا السياق، برزت الصين كقوة صاعدة تسعى إلى إعادة رسْم خريطة التجارة الدولية، من خلال إنشاء ممرٍّ بريٍّ، يربط عُمْقها الصناعي بالأسواق الأوروبية، في المشروع الذي بات يُعرف إعلاميًّا باسم “قناة السويس البرية” والذي لا يُختزل في كونه بديلًا أسرع وأرخص للنقل البحري، بل يُمثِّلُ أيضًا خطوةً استراتيجيةً تهدف إلى ترسيخ نفوذ بكين في قلب النظام الدولي.
وعليه؛ يسعى هذا التقرير إلى تناول الخلفية الاستراتيجية للمشروع، وتفاصيله التنفيذية، والدوافع الصينية التي تقف وراءه، وصولًا إلى التأثيرات الاقتصادية والجيوسياسية المترتبة عليه، بما في ذلك انعكاساته على ممرَّات التجارة التقليدية وعلى موازين القوى بين الشرق والغرب.
الخلفية الاستراتيجية للمشروع
شَهِدَ النظامُ التجاريُّ العالميُّ خلال العقود الماضية؛ اعتمادًا شِبْه مُطْلَقٍ على الطُّرُق البحرية، باعتبارها الشريان الأساسي لحركة البضائع بين الشرق والغرب، وهذا الاعتماد لم يكن محْضَ خيارٍ اقتصاديٍّ فحسب بقدْر ما كان نِتَاجًا لتوازنات جيوسياسية فرضت نفسها منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم.
يُضاف إلى ذلك، أنه مع تصاعُد التنافُس الدولي في العقديْن الأخيريْن، باتت هذه الممرَّات ليست فقط طُرُقًا للتجارة وإنما أوراق ضغطٍ سياسيةٍ أيضًا، وهو الأمر الذي جعل الدول الكُبْرَى تبحث عن بدائل آمنة تُقلِّلُ من تعرُّضِها للابتزاز أو المخاطر غير المحسوبة.
في هذا السياق، جاءت رؤية الصين الطموحة التي تجسَّدت في مبادرة “الحزام والطريق” عام 2013 كمشروع استراتيجي لإعادة صياغة شبكات التجارة العالمية[1]؛ حيث تدرك الصين -باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في العالم- أن السيطرة على سلاسل الإمداد لا تقتصر على القدرة الإنتاجية فحسب، بل تشمل أيضًا التحكُّم في مسارات العبور، ومن ثمَّ؛ اتجهت إلى الاستثمار في موانئ وممرَّات بحرية وبرية في آسيا وأفريقيا وأوروبا، محاولة بناء شبكة بديلة موازية للنظام التقليدي الذي تهيمن عليه القوى الغربية[2].
لكن التحوُّلات الأخيرة – من الحرب التجارية مع الولايات المتحدة، مرورًا بالعقوبات المفروضة على روسيا، وصولًا إلى التوتُّرات في بحر الصين الجنوبي، فضْلًا عن تأثُّر حركة المِلَاحة في قناة السويس؛ نظرًا للأوضاع غير المستقرة في منطقة الشرق الأوسط– تدفع وتعظم من سعْي القيادة الصينية إلى التفكير في مسارات أكثر أمانًا وأقلّ عُرْضةً للمخاطر الجيوسياسية.
وهنا برزت فكرة إنشاء ما يُشْبِهُ “قناة السويس البرية”، عبْر تطوير ممرٍّ بريٍّ حديثٍ يربط العُمْق الصيني بالأسواق الأوروبية، باستخدام مدينة تشونغتشينغ كمركز لوجستي وصناعي محوري[3]، وهذه الخلفية تُفسِّرُ لماذا تحوَّلَ المشروع إلى أولوية في الاستراتيجية الصينية، ولماذا يُنْظَرُ إليه بوصفه خطوةً تتجاوز البُعْد الاقتصادي إلى كوْنه ورقة قوةٍ جيوسياسية، تسعى بكين من خلالها إلى إعادة صياغة موازين الاعتماد المتبادل في النظام الدولي.
تفاصيل المشروع
يقوم المشروع الصيني على إنشاء ممرٍّ تجاريٍّ عبْر خطوط سكك حديدية فائقة السرعة تمتدُّ من تشونغتشينغ -كمركز للتجميع والانطلاق- نحو جنوب شرق آسيا عبر هانوي، ومنها إلى بقية القارة، مع ربْطٍ مباشرٍ بخطوط تصل إلى أوروبا عبْر آسيا الوسطى.
وتقوم الفكرة الأساسية على تجاوز الطُّرُق البحرية التقليدية التي تستغرق فترات طويلة -قد تصل إلى أكثر من ٤٥ يومًا في بعض الحالات- لصالح ممرٍّ بريٍّ يختصر الزمن إلى النصف تقريبًا؛ ما يعْنَي تسليم البضائع في فترةٍ تتراوح بين عشرة وعشرين يومًا أقلّ من الطُّرُق التقليدية.
وتلعب تشونغتشينغ دورًا كبيرًا في ذلك؛ فهي ليست مجرد مدينة داخلية ضخمة فحسب، بل هي مركزٌ صناعيٌّ عالميٌّ؛ حيث تنتج نحو ثلث أجهزة الكمبيوتر المحمولة في العالم، وتستحوذ على ما يقارب رُبْع صادرات السيارات الصينية.
ومن ثم؛ فإن تحويلها إلى نقطة ارتكاز لمشروع بهذا الحجم يضمن تراكم مزايا تنافسية، سواء من حيث القُدْرة الإنتاجية أو من حيث البِنْية التحتِيَّة اللوجستية التي تتيح ربْطًا سَلِسًا مع بقية الأقاليم.
علاوةً على ذلك، يوفرُّ الممرُّ البريُّ ميزةً مهمةً أيضًا تتعلق بالمرونة الجمركية؛ حيث إن الإجراءات المرتبطة بالشحن البحري كثيرًا ما تكون مُعقَّدة وبطيئة، بينما يتيح النقل البري عبْر اتفاقيات ثنائية وإقليمية تقليص التعقيدات وتبسيط العمليات اللوجستية.
وبذلك يصبح المشروع ليس مجرد بديل، بل خيارًا أكثر كفاءةً للشركات التي تبحث عن سرعة وموثوقية في آنٍ واحدٍ[4].
وعليه؛ يمكن القول: إن تفاصيل المشروع تكشف عن رُؤْيةٍ صينيةٍ تسعى إلى بناء شُرْيان تجاري جديد، يُخرج حركة التجارة من أسْر الطُّرُق البحرية التقليدية، ويفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التنافُس على من يملك زِمَام التحكُّم في مسارات العبور العالمية.
صورة تقريبية لفكرة المشروع
الدوافع الصينية وراء المشروع
لا يمكن فهْم طبيعة هذا المشروع بمعْزِلٍ عن الدوافع الاستراتيجية والاقتصادية التي تقف وراءه.
حيث إن الصين لا تسعى فقط إلى تسهيل التجارة أو تقليل زمن الشحن، بل تتحرك وفْق رُؤْيةٍ شاملةٍ تعكس طموحاتها في إعادة تشكيل النظام التجاري العالمي بما يخدم مصالحها طويلة المدى. ويمكن تناول أبرز هذه الدوافع فيما يأتي[5][6]:-
تقليل الاعتماد على الممرات البحرية التقليدية
تعتمد التجارة الصينية بشكلٍ كبيرٍ على الممرَّات البحرية، مثل “مضيق ملقا وقناة السويس”، وهي نقاط اختناق يمكن أن تتعرَّض للشَّلَلِ أو الانعكاسات السلبية؛ في حال نشوب أزمات سياسية أو نزاعات عسكرية.
فعلى سبيل المثال؛ فإن أيَّ توتُّرٍ في بحر الصين الجنوبي أو أزمة في الشرق الأوسط، يمكن أن ينعكس مباشرةً على حركة السفن الصينية.
ومن ثمَّ؛ ترى بكين أن وجود مسار بري بديل يُوفِّرُ أمانًا استراتيجيًّا، ويحميها من المخاطر المفاجئة التي قد تهدد سلاسل الإمداد.
خدمة مبادرة الحزام والطريق
يُمثِّلُ الممرُّ البريُّ الجديد امتدادًا عمليًّا لمبادرة “الحزام والطريق”؛ إذ يعزز الترابط بين آسيا وأوروبا عبْر شبكة مُعقَّدة من السِّكَكِ الحديديةِ والطُّرُقِ السريعةِ وخطوط الشحن؛ حيث تهدف بكين من خلال ذلك إلى ترسيخ نفسها كـمركز للتجارة العالمية؛ بحيث تصبح أوروبا مرتبطةً بشكلٍ مباشرٍ بالعُمْق الصيني، وهذا الترابط لا يقتصر على التجارة فقط، بل يفتح المجال أمام الصين لتوسيع دوائر نفوذها السياسي والاقتصادي عبْر الدول الواقعة على طول المسار.
تعزيز التنافسية الاقتصادية الصينية
يُقلِّصُ الممرُّ الجديدُ زمنَ نقْل البضائع من أسابيع عبْر البحر إلى أيام معدودة عبْر البر، وهذا الفارق سيمنح الشركات الصينية ميزةً تنافسيةً مهمةً أمام منافسيها العالميين، ويُعزِّزُ قُدْرتها على السيطرة على أسواق رئيسية مِثْل السوق الأوروبية، كما أن انخفاض تكاليف النَّقْل سيجعل السِّلَع الصينية أكثر جَذْبًا للمستهلك الأوروبي، خصوصًا في وقتٍ تتصاعد فيه المنافسة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
تحقيق مكاسب جيوسياسية
إلى جانب المكاسب الاقتصادية المتوقعة، يُعَدُّ المشروع أداة لتعزيز مكانة الصين كقوة قادرة على صياغة المعادلات الجيوسياسية؛ فمن خلال وجود ممرٍّ بريٍّ يربطها مباشرة بأوروبا فإن هذا جديرٌ بالتقليل من قُدْرة الولايات المتحدة أو أيِّ قوة بحرية منافسة على الضغط عليها عبْر التحكُّم في الممرَّات البحرية.
وبعبارةٍ أُخرى، يمكن القول: إنه مشروع يهدف إلى كسْر الهيْمنة البحرية الغربية وتقديم نموذجٍ جديدٍ للتواصل بين القارات.
التأثيرات الجيوسياسية والاقتصادية للمشروع
يحمل المشروع الصيني أبعادًا استراتيجية وجيوسياسية واسعة النطاق، ويُعيد تشكيل طبيعة الترابُط بين آسيا وأوروبا، بالإضافة إلى تأثيراته الجيوسياسية والاقتصادية المتوقعة على أطرافٍ عِدَّة، يمكن تناول أبرزها فيما يأتي:-
تأثُّر قناة السويس
يدفع الممرُّ البريُّ الجديدُ إلى سحْب جزءٍ من حركة التجارة عن قناة السويس، خاصَّةً السِّلَع مرتفعة القيمة التي تحتاج إلى سرعة في الوصول، مثل “الأجهزة الإلكترونية وقطع الغيار والسيارات”؛ حيث إنه في حالة أن تحوَّلت نِسْبَة ولو محدودة من هذه التجارة إلى الطريق البري، فإن ذلك يعني خسائر مباشرة في إيرادات مصر، فضْلًا عن تراجُع -ولو محدود- في الأهمية الاستراتيجية للقناة.
ورغم أن السِّلَع الضخمة – مثل “النفط والغاز” – ستظلُّ تمُرُّ عبْر الممرِّ البحري، إلا أن التحدِّي الحقيقي يكْمُنُ في فُقْدَان جُزْءٍ من مكانة القناة، كل ذلك يدفع إلى التفكير في حلولٍ بديلةٍ كالمُضيِّ في تطوير مناطق لوجيستية، من شأنها أن تُعزِّزَ وتحفظ لقناة السويس أهميتها الاستراتيجية كممرٍّ لا بديل عنه بغضِّ النظر عن أيِّ مشاريع نقْل مستقبلية منافسة.
تعزيز الدور الصيني في أوراسيا
تعتبر آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية تاريخيًّا مناطق تنافس بين روسيا والغرب، لكنها اليوم تتحوَّلُ إلى مسرحٍ متزايدٍ للحضور الصيني؛ فمن خلال مرور الممر البري عبْر هذه المناطق، يعني أن بكين لن تكون مجرد شريكٍ تجاريٍّ، بل قوة فاعلة في البنية التحتِيَّة الاقتصادية هناك، ومع كل خطِّ سكة حديد أو مركز لوجستي يتمُّ إنشاؤه، يتعمَّقُ النفوذ الصيني، ويصبح من الصَّعْب على هذه الدول اتخاذ سياسات مناقضة لمصالح بكين. وهذا التحوُّلُ قد يخلقُ نوْعًا من التبعِيَّة الاقتصادية التدريجية التي قد تُترجم لاحقًا إلى نفوذٍ سياسيٍّ مباشرٍ في قضايا الأمن والطاقة والدبلوماسية.
إضعاف أدوات الضغط الأمريكية
اعتمدت واشنطن دائمًا على تفوُّقها البحري للسيطرة على الممرَّات البحرية الدولية، لكن الممرَّ البريَّ الصينيَّ يُقلِّلُ من هذه الهيْمنة؛ لأنه يوفر طريقًا بريًّا بديلًا لا يخضع للسيطرة البحرية الأمريكية، وهذا التطور قد يُضْعِفُ فاعلية العقوبات الاقتصادية التي تعتمد على عرْقلة حركة التجارة عبْر البحر. فعلى سبيل المثال؛ إذا فرضت الولايات المتحدة قيودًا بحرية على الصين في حال نشوب أزمة في بحر الصين الجنوبي، فإن بكين ستكون قادرةً على الالتفاف عبْر القناة البرية؛ ما يمنحها مرونةً استراتيجية لم تكن متاحةً من قبْل.
مأزق استراتيجي لأوروبا