من جوندت إلى السد الإثيوبي: نزاع قرن ونصف على مياه النيل

إعداد: دينا لملوم

منسق وحدة الشؤون الأفريقية

عاد البحرُ الأحمرُ – مرَّةً أُخرى – ساحةً للتكالُب الدولي؛ حيث تسعى القوى العظمى إلى بسْط سيطرتها على حركة السفن، والموانئ، والشركات التابعة للحكومات المختلفة، وإن كان ظاهر هذه الصراعات يبدو جليًّا أنه من واقع العالم المعاصر، إلا أن باطنه يُعَدُّ جزءًا من مخطط استراتيجي أعمق وأقدم، وفي هذا المقال[1] الذي صدر بعنوان:”𝐅𝐫𝐨𝐦 𝐆𝐮𝐧𝐝𝐞𝐭 𝐭𝐨 𝐆𝐄𝐑𝐃 𝐄𝐭𝐡𝐢𝐨𝐩𝐢𝐚’𝐬 𝟏𝟓𝟎-𝐘𝐞𝐚𝐫 𝐖𝐚𝐫 𝐟𝐨𝐫 𝐍𝐢𝐥𝐞 𝐒𝐨𝐯𝐞𝐫𝐞𝐢𝐠𝐧𝐭𝐲”، للكاتب “Getahun Tsegaye”، على موقع المعهد الإثيوبي للشؤون الخارجية، بتاريخ 26 نوفمبر 2025؛ حيث يُسلط الضوء على أن السد الذي شيدته أديس أبابا على روافد النيل الأزرق، ليس مجرد سد، بل هو جزءٌ من صراعٍ طويلٍ يضرب بجذوره في أعماق التاريخ ويدور حول السيادة المائية لنهر النيل.

التعريف بالكاتب:

يعمل Getahun Tsegaye كباحثٍ أو مُحلِّلٍ في معهد الشؤون الخارجية (IFA) بأديس أبابا؛ حيث إنه متخصص في السياسة الخارجية الإثيوبية، خاصَّةً قضايا النيل والعلاقات مع مصر والقرن الأفريقي، وقد نشر أعمالًل أخرى حول الدبلوماسية البيئية والتعاون في البحر الأحمر، كما أنه عمل كمراسل في Borkena عام 2025، يغطي قضايا اقتصادية، مِثْل خصومات رواتب العمال؛ مما يشير إلى دوره كصحفي وباحث متعدد المجالات في الشؤون الإثيوبية.

أبرز المحاور:

1- التنافُس الاستراتيجي في البحر الأحمر

يعكس التنافُس الحالي في البحر الأحمر دورةً تاريخيةً أعمقَ وأقدمَ بكثيرٍ من الصراعات المعاصرة؛ حيث تسعى القوى العظمى لكسْب النفوذ على حركة السفن والسيطرة على الموانئ وعقْد شراكات مع الحكومات المختلفة، ويحدد استقرار واضطراب القرن الأفريقي قرارات ووحدة واستقلال المناطق الجبلية والنهرية المحلية أكثر من طموحات القوى الأجنبية، كما يبرز عمل إلياس وونديمو حول الحرب “الإثيوبية – المصرية” (1875-1876) استمرارية هذا السيناريو مع التأكيد على أن النفوذ الخارجي نادرًا ما يُغيِّرُ ديناميكيات المنطقة إلا بعد ضعْف السياسات المحلية أوَّلًا.​

2- الصمود السيادي الإثيوبي

يربط الصمود السيادي بين انتصارات إثيوبيا في القرن التاسع عشر – مثل مقاومة يوهانس الرابع لغزوات الخديوي إسماعيل – وموقفها الجيوسياسي الحالي في مناقشات السد الإثيوبي (GERD)؛ حيث تلتزم الدبلوماسية الإثيوبية بمبادئ الاستقلالية في اتخاذ القرار، والمقاومة للأُطُر الخارجية المفروضة، والدفاع عن الموارد الوطنية الحيوية؛ مما يعزز رؤيتها لمسائل حوكمة المياه والوصول إلى الموانئ والأمن الإقليمي من منظور السيادة طويلة الأمد، بَدَلًا من الدبلوماسية التبادلية.​

3- الثقافة السياسية والإرث التاريخي

أكَّدَ أساتذةٌ، مثل بهرو زيودي وهارولد ماركوس، أن الثقافة السياسية الإثيوبية اللامركزية، القائمة على تقاسُم السلطة عبْر التفاوض والشرعية المحلية، وفَّرت مرونةً حدَّتْ من تأثير القوى الخارجية، خلال الفترتيْن الاستعمارية وما بعد الاستعمارية؛ حيث لم يكن لها الأثر السلبي الكبير الذي أصاب مناطق البحر الأحمر الأخرى؛ مما حافظ على إرث معارك جوندت[i] وغورا تحت قيادة رأس علولة الذي يواصل التأثير على السياسة الإثيوبية الحالية، مع اعتبار النيل الأزرق وروافده عناصر سيادية للهوية الوطنية والاستقلال السياسي رغم مساهمتها بنحو 86% من مياه النيل.​

4- مراجعة نقدية للاتفاقيات الاستعمارية

استُبْعِدَتْ إثيوبيا من الاتفاقيات الاستعمارية المنظمة للاستفادة من مياه النيل، مثل معاهدة 1902 (الأنجلو-إثيوبية) التي لا تحظر تطوير المياه في إثيوبيا، رغم تفسيرها المصري الخاطئ، وفْق رؤية الكاتب على أنها تمنح حقَّ النقض، واتفاقية مياه النيل لعام 1929 بين بريطانيا ومصر دون مشاركتها، واتفاقية مصر والسودان لعام 1959، التي خصّصت التدفُّق السنوي المتوسط الكامل لمصر والسودان وتركت 0% لإثيوبيا، ويُشير علماء، مِثْل تيرجي تفيت وجون ووتربري، إلى أن هذه الاتفاقيات كانت أدوات استعمارية مُصمَّمة لخدمة مصالح الرَّيِّ البريطانية وطموحات مصر الهيدروليكية لا الإدارة العادلة للحوض.​​

5- مبدأ السيادة المائية والشكوك المصرية

يتوافق موقف إثيوبيا من GERD مع مبْدأ السيادة الإقليمية المحدودة في قانون المياه الدولي الحديث، الذي ينُصُّ على استخدام منصف ومعقول للمياه المتدفقة عبْر الحدود، معتمدًا قواعد هلسنكي للأمم المتحدة (1966) واتفاقية الأمم المتحدة للمجاري المائية (1997) بتقاسم الاستخدام دون مطالبة بالسيطرة أو ضررٍ كبيرٍ لدول المصب، بينما تلتزم مصر باتفاقيتيْ 1929 و1959 المبنيتيْن على افتراضات استعمارية تمنع دول المنبع من الاستخدام دون موافقتها؛ مما يعكس استمرارية الشُّكُوك من غزوات القرن التاسع عشر؛ حيث سعى إسماعيل باشا للسيطرة على المنبع للرَّيِّ؛ خوفًا من تعريض استقرار مصر للخطر، ويجعل GERD الحلقة الأخيرة في صراع السيادة المائية مع ادعاء الحقوق التاريخية في مياه النيل.​​

6- تسليح القوى الأحنبية على طول البحر الأحمر

يظهر التاريخ نَمَطًا لتدخُّل القوى الأجنبية عند ضعْف الأنظمة المحلية، كتوسُّع بريطانيا بعد الانهيار المالي المصري في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر واستيلاء إيطاليا على مصوع عام 1885 بعد الانسحاب المصري، ويتكرر اليوم مع الدول الساحلية المجزأة (السودان واليمن والصومال)، التي تخلق فُرُصًا لـ”الإمارات العربية المتحدة وتركيا والصين والولايات المتحدة وروسيا”؛ مما يؤكد أن البحر الأحمر أكثر عرضةً للهيْمنة الخارجية عند افتقار الأنظمة المجاورة للتماسُك، ويُعوِّلُ الوضع الاستراتيجي للقرن الأفريقي على عوامل رئيسية منها:

·       مدى قدرة الأمة على التحمُّل، وأنها أكثر أهميةً من القوة العسكرية المستوردة.

·       لا تزال السيطرة على موارد المياه مرتبط ارتباطًا وطيدًا بالهُوِيَّة السياسية للبلاد.

·       تؤثر الاتفاقيات التي تمَّ التوصُّل إليها خلال الحِقْبة الاستعمارية على الدبلوماسية الحديثة.

·       يتأثر الوضْع في  منطقة البحر الأحمر بالسلام أو الصراع الداخلي وتدخُّل خارجي أكبر عند الانقسام الداخلي؛ حيث كانت انتصارات يوهانس الرابع ورأس علولة إعلانًا عن منطق سياسي يحكم استراتيجية إثيوبيا حتى اليوم.​

تحليلٌ نقديٌّ:

هذا المقال يستعرض وجهة النظر الإثيوبية وتبريراتها غير المنضبطة لتشييد السد الإثيوبي، وادعاء بنائه لأغراض التنمية وتوليد الطاقة، وهو في حقيقة الأمر يُغْفِلُ تمامًا الالتزام الدولي بمبدأ التنسيق مع دولتيْ المصب “مصر والسودان” قبْل عملية الملْء والتشغيل؛ مخالفًا إعلان مبادئ 2015 الذي يُلْزِمُ إثيوبيا بتبادُل البيانات الهيدرولوجية، بناء الثقة، وعدم الإضرار بدول المصب، ويؤكد هذا النَّهْج عدم مصداقية إثيوبيا دوليًّا، وسعْيها للهيْمنة المائية وانتهاك اتفاقية الأمم المتحدة 1997 للمجاري المائية، كما أن هذه الخطوات أُحادية الجانب أدَّتْ إلى تصريفات مائية طالت السودان ومصر بعد تشغيل السد، وعليه؛ فإن هذا المقال لم يكن سوى أداة دعائية تُبرِّرُ تحرُّكات الحكومة الإثيوبية، وسعْيها لبسْط نفوذها على نهر النيل بَدَلًا من التفاوُض العادل الذي يضمن حقوق الجميع في مياهه.

المصادر:

[1] Getahun Tsegaye, 𝐅𝐫𝐨𝐦 𝐆𝐮𝐧𝐝𝐞𝐭 𝐭𝐨 𝐆𝐄𝐑𝐃: 𝐄𝐭𝐡𝐢𝐨𝐩𝐢𝐚’𝐬 𝟏𝟓𝟎-𝐘𝐞𝐚𝐫 𝐖𝐚𝐫 𝐟𝐨𝐫 𝐍­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­𝐢𝐥𝐞 𝐒𝐨𝐯𝐞𝐫𝐞𝐢𝐠𝐧𝐭𝐲, federal democratic republic of Ethiopia, institute of foreign affairs, 26 Nov 2025, URL: https://n9.cl/6n4c37

[i] معركة جوندت هي معركة وقعت في 16 نوفمبر 1875 خلال الحملة المصرية على الحبشة، وانتهت بهزيمة القوات المصرية على يد الجيش الإثيوبي بقيادة الإمبراطور يوحنس الرابع، حيث قامت القوات الإثيوبية بحصار القوات المصرية في وادٍ ضيق، وتمكنوا من إبادة أغلب القوة المصرية التي كانت تتألف من 3000 جندي تقريبًا.