المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشؤون الدولية > من طرابلس إلى بنغازي: تفكيك أبعاد زيارة مسعد بولس إلى ليبيا
من طرابلس إلى بنغازي: تفكيك أبعاد زيارة مسعد بولس إلى ليبيا
- يوليو 25, 2025
- Posted by: ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشؤون الدولية
لا توجد تعليقات

إعداد: رضوى الشريف
منسق وحدة شؤون الشرق الأوسط
في زيارة هي الأولى من نوعها منذ وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة في ولايته الثانية، قام كبير مستشاريه للشرق الأوسط وأفريقيا، مسعد بولس، بجولة إلى ليبيا بدأت في 23 يوليو 2025 واستمرت ليومين، شملت كلًا من طرابلس وبنغازي، وقد جاءت هذه الزيارة بمثابة اختراق دبلوماسي غير مألوف في الملف الليبي، إذ لم تكتف واشنطن ببيانات الدعم أو الضغط من الخلف، بل دفعت بأحد أبرز وجوهها إلى واجهة المشهد، في لحظة إقليمية متقلبة ومحلّية مأزومة، ووسط تزاحم نفوذ إقليمي ودولي على الأرض الليبية.
تنقّل بولس بين سلطتين متنافستين، وجلس مع مختلف مراكز القرار في الغرب والشرق، واضعًا واشنطن مجددًا في قلب المعادلة الليبية، عبر أدوات أكثر مرونة ورهانات أكثر مباشرة، وبين الطرح الاقتصادي في طرابلس والإشادة بالاستقرار الأمني في بنغازي، قدّمت الجولة تصورًا أميركيًا جديدًا للانخراط في ليبيا، قائمًا على الحضور المتوازن بدل الانحياز، وعلى الشراكة بدل الوصاية.
دلالات التوقيت
جاءت زيارة مسعد بولس إلى ليبيا في توقيت بالغ الحساسية، إذ تزامن ذلك مع حالة من الركود السياسي الداخلي، نتيجة استمرار الانقسام المؤسساتي وتعطّل المسار الانتخابي، وقد زادت حدة المشهد بعد اندلاع اشتباكات مسلّحة في طرابلس خلال الأسابيع الأخيرة، ما أعاد التوترات الأمنية إلى الواجهة، وكشف عن هشاشة التفاهمات الهشّة التي بُنيت عليها المرحلة الراهنة.
وفي هذا السياق، تأتي زيارة بولس متزامنة مع اقتراب موعد عرض خارطة طريق سياسية جديدة ستطرحها الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة، هانا تيته، أمام مجلس الأمن في أغسطس المقبل، في محاولة لإعادة إحياء العملية السياسية المتوقفة،[1] حيث قد أعلنت البعثة الأممية نيتها إطلاق مشاورات موسعة مع مختلف الأطراف الليبية لصياغة رؤية أكثر شمولًا وتوافقًا. هذا التوازي في التحركات الأممية والأميركية يُكسب الزيارة بعدًا إضافيًا، إذ تبدو واشنطن حريصة على تثبيت موطئ قدم سياسي ودبلوماسي قبل إعادة طرح المسار الأممي من جديد، في لحظة مفصلية قد تعيد رسم ملامح التوازن داخل ليبيا.
أما على المستوى الدولي، تصاعد الحضور الروسي بشكل ملحوظ في شرق ليبيا، ليس فقط عبر التحركات العسكرية والاستخباراتية، بل من خلال محاولات موسكو توسيع قنوات الاتصال مع قادة المنطقة الشرقية، بما يعيد رسم اصطفافات استراتيجية جديدة على حساب النفوذ الغربي. وبالتوازي، بدت المواقف الأوروبية من الملف الليبي متباينة وغير فعالة، ما عزّز من شعور واشنطن بأن الوقت لم يعد يحتمل مزيدًا من التردد.
ويضاف إلى ذلك ما رافق الزيارة من تسريبات إعلامية متزامنة حول مقترحات إسرائيلية لتوطين لاجئين فلسطينيين في دول أفريقية، من بينها ليبيا.
مجريات الزيارة
امتدت زيارة مسعد بولس إلى ليبيا على مدار يومين، التقى فيها بقادة المنطقتين الغربية والشرقية على حد سواء حيث:
في غرب ليبيا– طرابلس: استهل بولس لقاءاته في العاصمة باجتماع مع رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، حيث ناقشا مستقبل العلاقات الليبية–الأميركية وسبل تعزيز التعاون الاستراتيجي، لا سيما في مجالات الشفافية، الحوكمة، وإدارة الموارد الطبيعية، خاصة قطاعي النفط والطاقة المتجددة، وقد حرص المنفي خلال اللقاء على التأكيد على احترام السيادة الوطنية كأساس لأي شراكة مستقبلية.
عقب ذلك، عقد بولس جلسة موسعة مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية، المنتهية ولايتها، عبد الحميد الدبيبة، حيث طُرحت مبادرة شراكة استراتيجية بقيمة 70 مليار دولار تشمل مشاريع جاهزة للاستثمار الأميركي في الطاقة والمعادن والبنية التحتية والاتصالات. كما تطرّق النقاش إلى ملفات القطع النفطية الجديدة البحرية والبرية، وسط تشديد مشترك على ضرورة ضمان الشفافية وتحقيق عوائد مستدامة من قطاع الطاقة.[2]
كما التقى بولس برئيس مجلس إدارة مؤسسة النفط الليبية، مسعود سليمان، بمقر المؤسسة في طرابلس، وتم توقيع اتفاقية بقيمة 235 مليون دولار بين شركة هيل إنترناشيونال والمؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا، لإدارة مشروع كبير يستهدف تعزيز إنتاج الغاز وتطوير البنية التحتية المرتبطة به.[3]
كما التقى بولس بـرئيسة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، هانا تيته، حيث تبادلا وجهات النظر حول سبل دعم العملية السياسية. وصرّح بولس عبر حسابه الرسمي: “سعدتُ بفرصة لقاء تيته، تبادلنا وجهات النظر حول أهمية المضي قدمًا في العملية السياسية في ليبيا، في الوقت الذي يسعى فيه الليبيون إلى بناء مستقبل أكثر إشراقًا وازدهارًا.” [4]
وفي شرق ليبيا – بنغازي: توجّه بولس إلى بنغازي في اليوم التالي من زيارته، حيث عقد لقاءات مع طيف واسع من قيادات الشرق، شملت المشير خليفة حفتر، ونجله الفريق صدام حفتر، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، إضافة إلى المدير العام لصندوق إعادة الإعمار، بلقاسم حفتر.[5]
وفي لقائه مع الفريق صدام حفتر، ناقش بولس سبل متابعة نتائج زيارة الأخير إلى واشنطن في أبريل الماضي، مع التركيز على تعزيز الجهود الليبية لتوحيد الجيش والمؤسسات السيادية. وقد دوّن بولس على منصة “إكس”: “أجريتُ مباحثاتٍ مع الفريق صدام حفتر لمتابعة زيارته المهمة إلى واشنطن في أبريل. وناقشنا سبل تعزيز التعاون وتعزيز الجهود الليبية لتوحيد الجيش والمؤسسات الرئيسية الأخرى.”
أما في اجتماعه مع المشير خليفة حفتر، فتركزت المباحثات على التعاون الاقتصادي والأمني، إلى جانب إشادة بولس بجهود القيادة العامة في ترسيخ الاستقرار. وقد وصف الشرق الليبي بأنه “ركيزة لحفظ أمن المنطقة بأكملها”، في دلالة على انفتاح أميركي على الشراكة المباشرة مع مراكز النفوذ في الشرق خارج القنوات التقليدية المرتبطة بطرابلس.
وفي لقائه مع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، نوقشت قضايا متعلقة بتوحيد المؤسسات، والانتهاء من وضع ميزانية موحدة، إلى جانب تعزيز العلاقات التجارية بين ليبيا والولايات المتحدة، وفق ما جاء في البيان الصادر عن الوفد الأميركي.
بهذا التوزيع المدروس للقاءاته، بدا أن بولس تعمد إظهار انفتاح متوازن تجاه كلا المعسكرين، الغرب والشرق، في رسالة مزدوجة: تطمين لكل طرف بأنه ليس مستبعدًا من حسابات واشنطن، وتأكيد على أن الولايات المتحدة تتجه نحو صياغة معادلة نفوذ جديدة لا تقوم على الانحياز بل على ترسيم الأدوار بناءً على المصالح المشتركة والفاعلية السياسية والأمنية.
رسائل الزيارة
جاءت زيارة مسعد بولس إلى ليبيا محمّلة برسائل متعددة المستويات، تعكس محاولات واشنطن لإعادة التموضع داخل المشهد الليبي بعد فترة من الانكفاء النسبي، وتقدّم مقاربة جديدة تزاوج بين الحضور الرمزي والحسابات الجيوسياسية والاقتصادية، ومن أبرز هذه الرسائل مايلي:
إعادة تثبيت الحضور الأميركي : تحمل الزيارة رسالة واضحة بأن واشنطن لم تغادر الملف الليبي تمامًا، وإنما كانت تراقب من الخلف، وهي الآن بصدد العودة إلى الواجهة لتثبيت موطئ قدم لها، وهذه العودة لا تبدو معزولة عن سياق التنافس الدولي المتصاعد، لا سيما مع تمدد النفوذ الروسي في ليبيا عبر البوابة الأمنية والعسكرية؛ إذ توحي أهداف الزيارة بأن الولايات المتحدة لا تعتزم ترك الساحة الليبية مفتوحة أمام موسكو لتعيد رسم معادلات القوة منفردة. كما أن اختيار شخصية مثل بولس، بخلفيته المركبة وعلاقاته مع أطراف متعددة، يؤشر إلى رغبة الإدارة الأميركية في تحريك المياه الراكدة عبر قناة جديدة أقل ضجيجًا وأكثر قدرة على المناورة، في وقت تسعى فيه واشنطن إلى استعادة حضورها في ملفات ظلت لفترة خارج أولوياتها المباشرة.
ترسيخ منطق التوازن لا الانحياز: تتمثل الرسالة الثانية في أن واشنطن لا ترغب بالظهور كطرف منحاز لأي من مراكز النفوذ الليبي؛ فهي تسعى إلى مخاطبة السلطة التنفيذية في الغرب (الدبيبة والمنفي) ومراكز القرار في الشرق (حفتر وعقيلة) بقدر متوازن، في محاولة لإعادة إنتاج “توازن نفوذ” يحفظ مصالحها دون تفجير التوازنات الهشة. بهذا المعنى، لم تكن الزيارة إلى بنغازي مجرد ملحق بروتوكولي، بل جزء من خطاب استراتيجي أوسع يعترف بتعدد مراكز التأثير الليبي، ويهدف إلى تقليص هامش التمدد الروسي هناك دون إحداث مواجهة مباشرة.
الإستثمار في الاقتصاد كأداة تأثير ناعم: ركز بولس خلال زيارته على إبراز فرص الشراكة الاقتصادية الواعدة، وتقديم واشنطن كفاعل قادر على تقديم استثمارات ضخمة في قطاعات البنية التحتية والطاقة والمعادن، هذه الرسالة المبطنة تُعيد تقديم الولايات المتحدة كبديل “عقلاني ومربح” عن الصين وتركيا، كما تعكس سعيًا لتحويل النفوذ الاقتصادي إلى نفوذ سياسي، من خلال ربط الاستثمار بشروط الحوكمة والشفافية التي تتقاطع مع تطلعات بعض الدوائر الليبية والدولية.
احتواء الجدل حول توطين الفلسطينين: يمكن القول إن الزيارة حملت رسالة أخيرة لا تقل أهمية عن سابقاتها، وهي احتواء الجدل المتصاعد داخل ليبيا بشأن ما تردد عن خطة إسرائيلية–أميركية لتوطين فلسطينيين من غزة في بعض الدول الأفريقية، من بينها ليبيا. ومع تصاعد هذه المزاعم في وسائل الإعلام الليبية والعربية، جاء توقيت زيارة بولس كخطوة استباقية لامتصاص الغضب المحتمل لدى النخب الليبية، وطمأنة الرأي العام، حيث سارعت السفارة الأمريكية في ليبيا بالتزامن مع زيارة بولس إلى نفي تلك الادعاءات بشكل رسمي، مؤكدة أنها “تحريضية وكاذبة تمامًا”، وأن الولايات المتحدة ليست طرفًا في أي ترتيبات من هذا النوع.
حدود التأثير الأمريكي
في المجمل، لا يمكن اختزال زيارة مسعد بولس إلى ليبيا في إطار بروتوكولي أو تواصل دبلوماسي تقليدي، بل تعكس هذه الزيارة محاولة أميركية واضحة لإعادة التموضع والانخراط مجددًا في الملف الليبي، بعد سنوات من التراجع والابتعاد، وقد اختارت الإدارة الأميركية أن تفعّل هذا الحضور من خلال بوابة الاقتصاد، مع الحرص على تجنّب الاصطفاف الحاد، والانفتاح المتوازن على طرفي الصراع، بما يشير إلى تبني مقاربة براغماتية منخفضة التكلفة.
لكن رغم ما تحمله هذه المقاربة من مرونة تكتيكية، فإنها تصطدم بحدود بنيوية لا يمكن تجاهلها؛ فالولايات المتحدة، رغم أدواتها السياسية والاقتصادية، لا تملك القدرة على فرض مسار أحادي في ليبيا دون أن تصطدم بمعارضة مباشرة أو غير مباشرة من موسكو، التي نجحت في تثبيت حضور عسكري وسياسي في ليبيا، كما أن غياب غطاء أممي قوي، وتراجع الحضور الأوروبي، يُفرغان أي مبادرة أميركية منفردة من مضمونها العملي.
وهكذا، فإن زيارة بولس قد تمثل خطوة استكشافية لإعادة اختبار الأرض الليبية، لكنها تظل مرهونة بقدرة واشنطن على التحرك ضمن توازنات شديدة التعقيد، حيث النفوذ لا يُبنى فقط بالشراكات الاقتصادية، بل يُنتزع عبر معادلات الأمن، وتقاطعات المصالح الإقليمية، وحدود التوافق الدولي وفي مقدمتها مع روسيا.
المصادر:
[1] خارطة طريق جديدة لليبيا تُعرض أمام مجلس الأمن في أغسطس المقبل، أر تي بالعربي، 2 يوليو 2025، متاح على الرابط: https://shorturl.at/KdpXm
[2] «حكومة الدبيبة» تعرض على مستشار ترامب شراكة اقتصادية بـ70 مليار دولار، بوابة الوسط، 23 يوليو 2025، متاح على الرابط: https://alwasat.ly/news/libya/484153
[3] أميركا وليبيا توقعان اتفاقية لدعم إنتاج الغاز وتصديره، اقتصاد الشرق، 23 يوليو 2025، متاح على الرابط: https://shorturl.at/QvpMN
[4] بولس وتيتة يؤكدان أهمية المضي قدمًا في العملية السياسية في ليبيا، وال، 25 يوليو 2025، متاح على الرابط: https://lana.gov.ly/post.php?lang=ar&id=337528
[5] مستشار ترامب يناقش مع صدام حفتر جهود توحيد الجيش والمؤسسات الرئيسية في ليبيا، بوابة الوسط، 24 يوليو 2025، متاح على الرابط: https://alwasat.ly/news/libya/484349