المقالات
من غزة إلى أوكرانيا: هل يسعى ترامب لتكرار سيناريو السلام في أوروبا؟
- أكتوبر 22, 2025
- Posted by: ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشؤون الدولية

إعداد: إسراء عادل
باحث مساعد في وحدة الشؤون الدولية
بعد التوصّل إلى اتفاقٍ لوقْفٌ إطلاق النار في غزة بدعمٍ من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 13 أكتوبر 2025، وبعد حربٍ استمرت نحو عامين، بدأت الأنظار تتجه نحو إمكانية تكرار التجربة ذاتها في ملفاتٍ دوليةٍ أخرى، وعلى رأسها الحربُ الروسية الأوكرانية.
ففي الوقت الذي يوظّفُ فيه ترامب نجاحه الدبلوماسي في غزة لتعزيز صورته كصانعٍ للسلام، تتصاعد التوقعات بأن يسعى لتوسيع هذا الدور في الساحة الأوروبية عبر مبادرة تسوية جديدة ،تُعيدُ واشنطن إلى قلب المشهد الدولي وتختبرُ قدرته على تحقيق اختراقٍ دبلوماسيٍ ملموسٍ في واحدةٍ من أكثر الأزمات الدولية تعقيداً. ومن هنا يبرز السؤال المحوري: إلى أي مدى يمكن أن يسعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتكرار مقاربته الدبلوماسية التي أنهت حرب غزة في الحرب الروسية – الأوكرانية، وما فُرصُ نجاحهِ في التوصّلِ إلى تسويةٍ واقعيةٍ بين موسكو وكييف في ظل المعادلات الدولية الراهنة؟
أولاً: السياق الراهن للحرب الروسية – الأوكرانية
تدخلُ الحرب الروسية – الأوكرانية عامها الرابع وسط إنهاكٍ واضحٍ للطرفين، وانحسارٍ في المكاسب الميدانية، وتزايد الضغوط الاقتصادية والسياسية التي تواجه موسكو وكييف على حدٍّ سواء. فعلى الصعيد العسكري، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً أن قوات بلاده سيطرت على نحو 5000 كيلو متر مربع من الأراضي الأوكرانية خلال العام الجاري، في إشارةٍ إلى استمرار العمليات الهجومية الروسية.[1] وفي المقابل، كثفت أوكرانيا هجماتها على البنى التحتية الروسية، ولا سيَّما حقول النفط والمصافي داخل شبة جزيرة القرم والمناطق المحتلة، في محاولةٍ لرفْعِ التكلفة الاقتصادية المباشرة للحرب على روسيا واستنزاف قدرتها اللوجستية. أما على المستوى السياسي، فمع استمرار المعارك في مناطق دونيتسك وزابوروجيا وخاركيف بوتيرةٍ محدودةٍ، تسعى موسكو إلى تثبيت سيطرتها على المناطق التي ضمتها، بينما تطالبُ كييف بضماناتٍ أمنيةٍ طويلة الأمد قبل أي تفاوض.
وفي هذا السياق المأزوم، تتصاعدُ الدعوات الدولية لوقْفِ القتال والبحث عن تسويةٍ سياسيةٍ ملموسةٍ، خاصةً بعد ارتفاع التكلفة الاقتصادية والإنسانية للحرب. وقد برزتْ مؤشراتٌ جديدةٌ تُظهر استعداد الطرفين لمناقشة تسويةٍ مشروطةٍ، كان أبرزُها الاتصالَ الهاتفيَ بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب في 16 أكتوبر 2025، والتمهيد للقاءٍ مرتقبٍ في المجر لبحث سبل انهاء الحرب، كإشارةٍ أوليةٍ لتحريك الملف دبلوماسياً خاصةً بعدما أبدى بوتين استعداده للتخلي عن أجزاء من منطقتي زابوروجيا وخيرسون مقابل الحصول على السيطرة الكاملة على دونيتسك، وهو ما يُعدُّ تنازلاً مقارنةً بالمطالب التي قدمها بوتين خلال قمة ألاسكا في أغسطس الماضي.[2] فيما رفض ترامب طلب الرئيس الأوكراني زيلينسكي بتزويد كييف بصواريخ توماهوك مؤكداً أن أولويته الآن هي الدبلوماسية وأن أي تصعيدٍ عسكريٍ سيقوضُ فرصَ التسوية. كما اقترح رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، خلال مشاورات أوروبية مع زيلينسكى، العمل مع واشنطن لصياغة خطة سلام لأوكرانيا على غرار مبادرة ترامب في غزة.[3] ورغم أن فرص التسوية ما زالت محدودةً إلا أن المُناخَ الدوليَ الحالي يشيرُ إلى انفتاحٍ متزايدٍ على مقاربةٍ تفاوضيةٍ جديدةٍ تمهد لإطلاق مسار سلامٍ مشروط، يمثّل اختباراً حقيقياً لقدرة واشنطن على تكرار نموذج غزة في ساحة أكثر تعقيداً.
ثانياً: دوافع ترامب نحو تسوية الأزمة الأوكرانية
تعكسُ مساعي ترامب نحو فتْحِ مسارٍ تفاوضيٍ بين موسكو وكييف مزيجاً من الدوافع السياسية والدبلوماسية والشخصية التي تتقاطع جميعها عند هدفٍ واحدٍ يتبلور حول إعادة نفوذ واشنطن لصدارة الوساطة الدولية، وتقديم ترامب كصانعٍ للسلام العالمي. وفيما يلي أبرز تلك الدوافع:
– استعادة القيادة الأمريكية للنظام الدولي: يرى ترامب أن إنهاء الحرب الروسية – الأوكرانية يمثّلُ فرصةً استراتيجيةً لإعادة تثبيت موقع واشنطن كقوةٍ قادرةٍ على إدارة النزاعات الكبرى، لا سيَّما بعد سنواتٍ من التراجع النسبي للدور الأمريكي في عهد الإدارات السابقة. فإطلاق مبادرة دبلوماسية كبرى في أوروبا على غرار غزة، يُعيد لواشنطن موقع القيادة لإمكانية ضبط موازين القوة في أوروبا، خاصةً في ظل فتور الموقف الأوروبي وتنامي النفوذ الصيني والروسي.
– تعزيز صورة ترامب كصانعٍ للسلام: بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، يسعى ترامب إلى توظيف هذا الإنجاز الدبلوماسي لترسيخِ صورته كرئيسٍ قادرٍ على إنهاء حربين كبيرتين في عامٍ واحدٍ، بما يمنحه وزناً سياسياً داخلياً ودولياً، ويقدمه كزعيمٍ براغماتيٍ يجمع بين أدوات الردْع والوساطة. وقد يراهن ترامب على أن أي اختراق تفاوضي في الملف الأوكراني سيمنحه رصيداً سياسياً إضافياً في مواجهة المعارضة الديمقراطية والانتقادات الداخلية، خصوصاً في ظل الضغوط الاقتصادية وتنامي الانقسامات داخل المجتمع الأمريكي. ومن هذا المنطلق، فإن تحقيقَ تسويةٍ ناجحةٍ يُعد فرصةً لتعزيز صورته في الداخل وتعزيز حضوره على الساحة الدولية، وربما إعادة طرح اسمه مجدداً لنيل جائزة نوبل للسلام.
– الرغبة في موازنة العلاقة مع موسكو وبكين: يحاول ترامب عبر التحرك في الملف الأوكراني إلى إظهارِ نفسهِ كوسيطٍ قويٍ لا ينحاز إلى موسكو على حساب الغرب بل يتحرك من موقعٍ يجمع بين الردع والدبلوماسية، فنجاحه في هذا الملف يمكن أن يمنحَه موقعاً تفاوضياً متقدماً مع روسيا، ويُعزز في الوقت ذاته أوراق الضغط الأمريكية أمام الصين في الملفات الآسيوية.
ثالثاً: فرص التحرك الأمريكي بقيادة ترامب في الأزمة
في سياق السعي لإطلاقِ مسارٍ تفاوضيٍ أو تسويةٍ محتملةٍ للحرب الروسية-الأوكرانية، يعتمد ترامب على مبدأ “السلام من خلال القوة”، وهو النهْجُ الذي يجمع بين أدوات الردع والضغوط وبين وساطةٍ نَشطةٍ تهدف إلى استعادة الدور القيادي الأمريكي. كما يُدرك ترامب أن فرص التحرك الأمريكي في هذه الأزمة لا تنبعُ فقط من القدرات التقليدية للولايات المتحدة، بل من شبكة النفوذ والعلاقات التي أسسها خلال ولايته الأولى، والتي تمنحهُ مساحةً أوسع للمناورة مع موسكو وكييف على حد سواء. وفيما يلي أبرز الأوراق والفرص التي يمكن أن توظفها واشنطن لدفع الطرفين نحو التفاوض وإنهاء الحرب:
أدوات الضغط على موسكو: يمكن لترامب تفعيل أدوات الضغط الاقتصادي غير المباشر على روسيا، سواء عبر التهديد بمزيدٍ من العزلة وتوسيع العقوبات وفرْضِ قيودٍ ثانويةٍ على الدول المتعاملة مع موسكو، أو عبر التأثير في سوق الطاقة العالمي بالتنسيق مع شركاء واشنطن في الخليج، بما يَحدُّ من العائدات الروسية النفطية.[4] كما يمكنه توظيف علاقته المعقّدة مع الصين كورقةِ ضغطٍ إضافيةٍ، من خلال تحفيز بكين على تقليص دعمها الاقتصادي لموسكو مقابل تسهيلاتٍ تجاريةٍ أو اتفاقاتٍ وصفقاتٍ محددةٍ مع واشنطن. وإلى جانب ذلك، يظل التهديد بإعادة تسليح أوكرانيا أحد أدوات الردع التي قد تستخدمها الإدارة الأمريكية لإجبار الكرملين على القبول بمسارٍ تفاوضيٍ جاد.[5]
النفوذ الأمريكي على كييف: تتمتع واشنطن بقدرةٍ أكبر على التأثير، نظراً لاعتماد كييف الكبير على المساعدات العسكرية والمالية الغربية، وبالتالي يمكن لترامب توظيف هذا الاعتماد عبر التلويح بتقليص أو إعادة هيكلة الدعم الأمريكي في حال تمسك زيلينسكي بخيار الحرب. كما يستطيع التنسيق مع بعض الدول الأوروبية التي بدأت تُظهرُ قلقاً من طول أمد الأزمة وتداعياتها الاقتصادية والأمنية، بهدف توحيد الموقف الغربي نحو دفع كييف إلى الانخراط في مفاوضات جادة. ويُضافُ إلى ذلك استخدامُ النفوذ الأمريكي في المؤسسات المالية الدولية، سواء عبر تأجيل برامج الدعم أو ربطها بمسار التسوية السياسية، فضلاً عن طرحِ خطةٍ أمريكيةٍ لإعادة إعمار أوكرانيا كحافزٍ اقتصاديٍ مُغرٍ في حال التوصّل إلى اتفاق سلامٍ شاملٍ.
تفعيل الدبلوماسية الإقليمية وصفقة التسوية الكبرى: إلى جانب الأدوات الاقتصادية والسياسية المباشرة، يمكن لترامب توظيفُ القنوات الدبلوماسية الخلفية عبر أطرافٍ إقليميةٍ تربطها علاقاتٌ متوازنةٌ مع كلٍ من موسكو وكييف، خاصةً السعودية وتركيا اللتين تلعبان أدواراً وسيطة منذ اندلاع الحرب، وذلك لتهيئةِ أجواءٍ تفاوضيةٍ مرنةٍ ومقبولةٍ للطرفين. وقد يستند هذا التحرك إلى ما يمكن تسميته بـ “الصفقة الكبرى” التي تجمع بين الأبعاد الاقتصادية والأمنية المتبادلة، لتشملَ تخفيف العقوبات على روسيا مقابل ترتيباتٍ ميدانيةٍ أو ضماناتٍ أمنيةٍ محددة في أوكرانيا.
ومن هذا المنطلق، يبدو أن ترامب يدرس مقاربة الضغط المتبادل على موسكو وكييف في آنٍ واحد، من خلال مزيجٍ من الضغوطٌ السياسية والاقتصادية والأمنية لدفع الطرفين إلى طاولة المفاوضات وإنهاء الحرب عبر تسويةٍ تحفظ مصالح كافة الأطراف.
رابعاً: العوائق والتحديات أمام مبادرة سلام أمريكية محتملة
رغم ما تمتلكهُ واشنطن من أدوات ضغطٍ وفرصٍ دبلوماسيةٍ لقيادة مسار تسوية الحرب الروسية – الأوكرانية، إلا أن التحرك الأمريكي بقيادة ترامب يواجهُ جملةً من التحديات والعوائق التي قد تقيد فرص نجاح أي مبادرة سلامٍ محتملةٍ. ويمكن تحديد أبرز هذه العقبات في النقاط التالية:
الرفْضُ الأوروبي لأي مسار تفاوضي خارج إطار الناتو: تشكّل المعارضة الأوروبية أكبر عقبةٍ أمام أي وساطةٍ أمريكيةٍ منفردةٍ، حيث تخشى العواصم الأوروبية من أن يؤدي أي اتفاق يُبرَمُ خارج مظلة الناتو إلى إضعاف مفهوم التضامن الغربي وتقليص الدور الأوروبي في إدارة الأزمة، ومن ثمَّ، فإن نجاحَ أي مبادرةٍ أمريكيةٍ محتملةٍ يظل مرهونًا بمدى قدرتها على التنسيق مع الاتحاد الأوروبي وضمان مشاركةٍ فاعلةٍ من الحلفاء الغربيين، وإلا فإن المبادرة المحتملة ستواجهُ مقاومةً سياسيةً من شركاء الغرب الأساسيين.
التحفظ الأوكراني على شروط التسوية: حيث تُصرُّ كييف على استعادة السيطرة الكاملة على جميع أراضيها بما فيها شبه جزيرة القرم، وترفض أي اتفاقٍ لا يتضمّن انسحاباً روسياً شاملاً من المناطق المحتلة، مما يجعل فرص القبول الأوكراني بأي تسويةٍ مرهوناً بحدوث تغيراتٍ ميدانيةٍ أو ممارسة ضغوطٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واسعةٍ على موسكو، وهو ما يَحدُّ من فرص نجاح أي مبادرة تفاوضية في المدى القريب.
انعدام الثقة في حياد واشنطن: حيث تواجه أي مبادرة سلامٍ أمريكيةٍ محتملةٍ أزمة ثقةٍ حقيقيةٍ، سواء من جانب موسكو أو بعض الدول الأوروبية، بسبب الشكوك المتراكمة حول حياد واشنطن وقدرتها على لعب دور الوسيط النزيه. فقد أثارت مواقف إدارة ترامب السابقة، بما في ذلك انتقاداته لحلف الناتو وتَوجّهه نحو سياساتٍ أحاديةٍ قائمةٍ على المصلحة الوطنية الأمريكية، مخاوف من أن تتحول الوساطة إلى أداة لخدمة أجندة داخلية أو لتوسيع النفوذ الأمريكي في أوروبا. ومن هنا، قد يُنظرُ إلى أي تحركٍ أمريكيٍ محتملٍ بعين الحذر، ما لم تقدّمْ واشنطن ضماناتٍ ملموسةً تؤكد التزامها بالحياد والتوازن في التعامل مع طرفي النزاع.[6]
تداخل الملفات الدولية وتشابكها: تُعدُ الحرب الروسية – الأوكرانية جزءاً من منظومةٍ أوسع من التفاعلات الدولية المتشابكة، حيث تتقاطع مع ملفاتٍ استراتيجيةٍ أخرى مثل المنافسة الأمريكية–الصينية، والملف النووي الإيراني، وأزمات الشرق الأوسط، وأمن الطاقة العالمي. الأمرُ الذي يجعل من الصعب على واشنطن التعامل مع الحرب بمعزلٍ عن حساباتٍ أوسع تتعلق بموازين القوى الدولية. ومن ثمَّ، فإن أي مبادرة سلام أمريكية محتملة قد تتحول إلى ساحةٍ لتصفية الحسابات أو لتحقيق مكاسبَ متبادلةٍ بين القوى الكبرى، مما يقلل من فرص التوصل إلى تسويةٍ مستقلةٍ ومستدامةٍ للأزمة.
الانقسام الداخلي الأمريكي: يواجه الرئيس ترامب معارضةً قويةً من الحزب الديمقراطي وقطاعات واسعة من الإعلام الأمريكي الرافضة لأي تقاربٍ مع موسكو، إذ يرى خصومه أن إطلاق مبادرة سلام مع روسيا قد يُفسّر كتنازلٍ استراتيجيٍ لصالح الرئيس بوتين، مما يُضعفُ الموقفَ الأمريكي ويقوّضُ الدعم الداخلي لأي اتفاقٍ محتملٍ، خاصةً في ظل المناخ السياسي المنقسم والاستقطاب الحاد داخل الولايات المتحدة.
خامساً: السيناريوهات المستقبلية
في ضوء استمرار تعقيدات المشهد الروسي – الأوكراني، وتباين مواقف القوى الدولية والإقليمية، تظلُ المبادرة الأمريكية المحتملة برعاية الرئيس دونالد ترامب محل ترقّبٍ واسعٍ، مع تساؤلاتٍ حول مدى قدرتها على تحقيق اختراقٍ ملموسٍ في النزاع. وتتباين التقديرات بشأن مآلات هذه المبادرة بين اختراقٍ دبلوماسيٍ محدود، أو صفقةٍ شاملةٍ تُنهي الحربَ بضماناتٍ متبادلةٍ، أو صعوبة التحرك الأمريكي في ظل المواقف المتحفظة للطرفين الرئيسيين والحلفاء الأوروبيين. وفي هذا الإطار، يمكن استشراف ثلاثة سيناريوهات رئيسية لما قد تؤول إليه الجهود الأمريكية المنتظرة، على النحو الآتي:
السيناريو الأول: اختراقٌ دبلوماسيٌ محدود عبر اتفاق وقف إطلاق النار
يمثّل هذا السيناريو تكراراً جزئياً لتجربة اتفاق غزة، إذ يرجّحُ إمكانية تحقيق اختراقٍ دبلوماسيٍ محدود يقوده ترامب عبر التوصّل إلى اتفاقٍ بوقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا، دون الوصول إلى تسويةٍ نهائيةٍ للنزاع. وفي هذا الإطار، يمكن أن تسعى واشنطن إلى تثبيت خطوط التماس الحالية ووقف العمليات العسكرية، مع فتح مسارات تفاوض حول قضايا إنسانيةٍ وأمنيةٍ محددةٍ مثل الأمن الحدودي وتبادل الأسرى وضمان تدفق المساعدات الإنسانية، على أن تؤجّل الملفات السياسية الكبرى كمسألة الأراضي المحتلة وعضوية كييف في الناتو إلى مرحلة لاحقة.
ويستند السيناريو إلى امتلاك ترامب أدوات ضغطٍ متعددةٍ على طرفي الأزمة، سواء من خلال النفوذ الاقتصادي والدبلوماسي أو عبر تحالفاته الإقليمية والدولية، لكنه في المقابل يصطدم بواقعٍ ميدانيٍ وسياسيٍ معقّد، خاصةً مع رفض أوروبا وأوكرانيا أي تحرك أمريكي منفرد دون مشاركتهم وموافقتهم، مما يجعل من الصعب تحقيقه في المدى القريب.
وبالتالي تظل فرص تحقّق هذا السيناريو محدودةً ومرهونةً بقدرة واشنطن على الموازنة بين متطلبات الردع والوساطة، وبمدى استعداد موسكو وكييف لتقديم تنازلاتٍ متبادلةٍ.
السيناريو الثاني: صفقة كبرى بين موسكو وكييف برعاية أمريكية مباشرة وبشروط معقدة
يفترض هذا السيناريو أن يسعى ترامب للتوصل إلى تسويةٍ شاملةٍ تنهي الحرب الروسية – الأوكرانية عبر اتفاقٍ متبادلٍ برعايةٍ أمريكيةٍ مباشرةٍ، يقوم على مقايضةٍ سياسيةٍ – أمنيةٍ تتيح لروسيا الاحتفاظ بنفوذٍ محدود في الشرق الأوكراني مقابل وقْفٍ شاملٍ لإطلاق النار، فيما تحصل أوكرانيا على ضماناتٍ أمنيةٍ واقتصاديةٍ غربيةٍ، مع تجميدٍ مؤقتٍ لملف عضويتها في الناتو إلى حين استقرار الوضع الميداني والسياسي. كما يمكن أن تتضمن الصفقةُ رفعاً تدريجياً للعقوبات المفروضة على روسيا مقابل التزامها بعدم توسيع نفوذها الميداني أو تهديد أمن دول الجوار.
وقد تهدف هذه المقاربة إلى إعادة صياغة توازن القوى في أوروبا عبر اتفاقٍ يمنحُ واشنطن موقعَ الوسيط الحاسم بين موسكو وكييف، ويعيد تأكيد نفوذها في المعادلة الأوروبية على حساب الدورين الأوروبي والروسي. ولكن رغم طموح هذا السيناريو فإن تنفيذه يبدو معقّداً بسبب رفض كييف تقديم أي تنازلاتٍ إقليميةٍ، وتمسّك موسكو بالحصول على اعترافٍ رسميٍ بسيطرتها على المناطق الشرقية، فضلاً عن التحفظ الأوروبي على أي تسويةٍ تُدارُ خارجَ إطار الناتو والاتحاد الأوروبي.
السيناريو الثالث: صعوبة التحرك الأمريكي وفشل محاولات التسوية
يقومُ هذا السيناريو على احتمال فشلِ الجهود الأمريكية في تحقيقِ اختراقٍ حقيقيٍ في مسار التسوية بين موسكو وكييف، سواء نتيجة رفض أحد الطرفين لمقترحات الوساطة الأمريكية أو بسبب استمرار التعقيدات الميدانية وتشابك المصالح الدولية والإقليمية.
وفي هذا السياق، قد تقتصر الجهود الأمريكية على مبادراتٍ تفاوضيةٍ أوليةٍ واتصالاتٍ دبلوماسيةٍ مبدئيةٍ دون أن تُفضَي إلى أي تقدّمٍ ملموسٍ على أرض الواقع أو تسويةٍ سياسيةٍ واضحةٍ. وتعكس هذه الحالة الجمود الحالي للأزمة وتباين مواقف الأطراف الرئيسية ورفض أوروبا لأي تحرك أمريكي منفرد. وبناءً على ذلك، تبدو فرص التحرك الأمريكي الفعال محدودة، ما يجعل هذا السيناريو الأقرب للواقع على المدى القريب.
ختاماً، يمكن القول إن التحركاتِ الأمريكية المحتملة بقيادة ترامب في الملف الروسي – الأوكراني تعكس طموحاً مزدوجاً بين إعادة واشنطن إلى مركز قيادة النظام الدولي وبين توظيف الدبلوماسية كأداةٍ لتوسيع النفوذ السياسي في مرحلةٍ تتسمِ بتراجع الثقة في الوساطات التقليدية. ورغم أن تجربة غزة منحت ترامب زخماً دبلوماسياً مؤقتاً، فإن نقلها إلى الساحة الأوروبية يبدو أكثر تعقيداً، نظراً لتداخل المصالح وتعارض حسابات الأطراف الفاعلة. ومن ثمَّ، فإن فرصَ تكرار “سيناريو غزة” في أوكرانيا تظل محدودةً في المدى القريب، ما لم تنجحْ واشنطن في تحقيق توازنٍ دقيقٍ بين مصالح موسكو وكييف وضمان دعم الحلفاء الأوروبيين. وبذلك، تبقى المبادرة الأمريكية المحتملة أقرب إلى رهان سياسي على استعادة الدور الأمريكي أكثر من كونها فرصةً واقعيةً لإنهاء الحرب الروسية – الأوكرانية.
المصادر:
[1] Reuters, Putin says Russia has captured nearly 5,000 square km in Ukraine this year, October 8, 2025, Available at: https://2u.pw/iBtjGd
[2] الهيئة الوطنية للإعلام، “بوتين” يعرض على “ترامب” إنهاء الحرب بأوكرانيا مقابل “دونيتسك”، 19 أكتوبر 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/OxYGqO
[3] الشرق، لقاء ترمب وزيلينسكي ينتهي دون حسم “ملف توماهوك”، 18 أكتوبر 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/noBtvT
[4] Reuters، ترامب: صبري بدأ ينفد تجاه بوتين، 12 سبتمبر 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/wM6k0N
[5] سكاي نيوز عربية، ما أدوات ترامب للضغط على روسيا؟، 30 يوليو 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/X3odqr
[6] Steven Everts, Giuseppe Spatafora, Alice Ekman, Low trust: navigating transatlantic relations under Trump, The European Union Institute for Security Studies (EUISS), 15 October 2025, Available at: https://2u.pw/nwoMb8