أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ١٧ يناير الجاري دخوله رسميًا إلى عالم العملات الرقمية من خلال إطلاقه عملة رقمية خاصة به. ويعكس هذا الإعلان تحولا كبيرا في موقف ترامب خصوصًا أنه كان من أشد المعارضين لها خلال ولايته الأولى، إذ وصفها بأنها أداة للنصب والاحتيال، واعتبرها تهديدًا للدولار الأمريكي.
وتزامن هذا التحول مع انطلاق حملته الانتخابية الأخيرة، إذ شهدت هذه الحملة قرابة واضحة بين ترامب وشخصيات بارزة في مجال العملات الرقمية، وهو ما نتج عنه تبينه ودعمه لهذا المجال، حيث لم يكن مجرد دعما إعلاميا فحسب، بل تضمن الأمر وعودًا واضحة بأن فترته الرئاسية الجديدة ستشهد تحولات كبيرة تجعل بلاده مركزًا عالميًا لسوق العملات الرقمية.
في هذا السياق، يمكن تناول أسباب هذا التحول في موقف ترامب، ودلالات إطلاقه لعملة رقمية خاصة به، إلى جانب تحليل ما ينتظر العملات الرقمية خلال الفترة القادمة، من الناحيتين السياسية والاقتصادية.
إطلاق عملة ترامب
في ١٧ يناير الجاري وقبل أيام من تنصيبه، دخل ترامب سوق العملات الرقمية رسميًا، ليس فقط كمستثمر أو داعم، بل كمالك لعملة رقمية خاصة به، إذ أعلن ترامب عبر حسابه على منصته “تروث سوشال” عن إطلاق عملته الرقمية.
والجدير بالذكر أنه منذ إطلاق ترامب لهذه العملة، حظيت بإقبال هائل وقفزة قياسية؛ إذ ارتفعت قيمتها من بضعة سنتات فقط إلى ٣٣.٨٧ دولارًا خلال أقل من ٢٤ ساعة من إصدارها، قبل أن تصل لاحقًا إلى ٧٢.٥١ دولارًا، ثم تعود للاستقرار عند ٣٧.٧٥ دولارًا، مسجلة قيمة سوقية تتجاوز ١٠ مليارات دولار حتى الآن وفي وقت محدود[1].
وتعد هذه الخطوة غير مسبوقة عالميًا، حيث لم يسبق لأي رئيس دولة أن أنشأ عملة رقمية خاصة به، ولعل هذه الخطوة تشير بوضوح إلى أن الفترة القادمة ستشهد تطورات كبيرة تقودها الولايات المتحدة في سوق العملات الرقمية.
من الرفض إلى الدعم
1-مرحلة الرفض
اتسمت ولاية ترامب الرئاسية الأولى برفضه الشديد للعملات الرقمية، وهو ما تجلى بوضوح في تصريحاته المتعددة حول هذا الأمر، إذ تنوعت تصريحاته في هذا الصدد، حيث أخذ يشكك أحيانا في جدواها، واصفًا إياها بأنها عملات متقلبة للغاية وليست أموالًا حقيقية لأنها “تستند إلى اللاشيء”. كما اعتبرها في أحيان أخرى منافسًا للدولار الأمريكي يجب وضع عقبات أمامه حفاظًا على قوة الدولار. وإلى جانب ذلك، رأى ترامب في العملات الرقمية مظلة خطيرة يمكن من خلالها تسهيل الأنشطة التجارية غير المشروعة، مثل تجارة المخدرات وغيرها من الأنشطة غير القانونية، بل وذهب إلى حد وصفها بأنها نوع من أنواع الاحتيال[2].
وبناءً على ذلك، يمكن القول إن نظرة ترامب للعملات الرقمية خلال ولايته الأولى اتسمت بالرفض والخوف والتشكك.
2-مرحلة الدعم
بعد سنوات من مواقفه الرافضة للعملات الرقمية، شهد موقف ترامب تحولًا جذريًا أثناء قيادته لحملته الانتخابية الماضية. فبجانب كونه مرشحًا رئاسيًا محتملاً، أصبح ترامب المروج السياسي الأول عالميًا – وليس فقط في الولايات المتحدة – لها. وقد تأكد هذا التحول من خلال عدة شواهد بارزة. ففي يونيو الماضي، عقد ترامب اجتماعًا مع مجموعة من المسؤولين التنفيذيين العامليين في هذا المجال، وهو اللقاء الأول من نوعه بالنسبة له مع مسئوليين من هذا النوع، وكانت من مخرجات هذا الاجتماع تحول ترامب إلى داعم قوي لهذا السوق، في حين أصبح هؤلاء المسؤولون بمثابة لوبي كبير داعم له في سباق الرئاسة، بالإضافة إلى ذلك ترأس ترامب أكبر مؤتمر عالمي للبيتكوين [3]– العملة الرقمية الأشهر في العالم – وتعهد بتعزيز الاحتياطي الأمريكي منها وعدم بيعه، ومنذ ذلك الحين صدرت له العديد من التصريحات المؤيدة لهذا المجال والتي كانت تضمن العديد من الوعود الانتخابية الذي ينوي تنفيذها في حال عودته إلى البيت الأبيض.
ما وراء التحول في موقف ترامب
1-استعادة الشعبية المتآكلة
كان لخروج ترامب من البيت الأبيض وسط أزمة سياسية كبرى عقب اقتحام مبنى الكابيتول انعكاس كبير على مستوى التأييد له بشكل دفع الكثير من المحلليين إلى القول أن عودة ترامب مجددا إلى السلطة تكاد تكون مستحيلة. لذا كان على ترامب التركيز على قضايا جديدة تعيد تشكيل شعبيته التي تآكلت، ومن ثم فإن تبنيه للعملات الرقمية منحه فرصة للظهور كزعيم سياسي مواكب للتطورات التكنولوجية والاقتصادية ولايزال لديه ما يمكن تقديمه، مما ساهم في تحسين صورته أمام الرأي العام، وتحديدا أمام مستثمري هذا القطاع.
2-واقع لا يمكن تجاهله
أصبحت العملات الرقمية حقيقة اقتصادية عالمية لا يمكن إنكارها أو القضاء عليها، حيث أن تجاهلها أو فرض قيود صارمة عليها أو وضع عقبات في طريقها لن يؤدي إلى اختفائها، بل سيجعلها تتجه نحو أسواق ودول منافسة للولايات المتحدة مثل الصين وروسيا، وهو ما يمثل خسارة استراتيجية واقتصادية لواشنطن. لذا كان تبنيها ضرورة هامة للحفاظ على الدور الريادي للولايات المتحدة.
3-كسب لوبي العملات الرقمية
كما تتواجد جماعات ضغط متعددة داخل الولايات المتحدة تدافع عن قضايا مختلفة، فإن الأمر نفسه ينطبق على العملات الرقمية، حيث شهدت واشنطن نموًا كبيرًا للوبي مؤثر يدافع عن مصالح العملات الرقمية ويستثمر فيها بشكل مكثف، وبدلاً من معاداة هذا اللوبي، اختار ترامب كسب دعمه واستخدامه كورقة سياسية رابحة تعزز موقفه الانتخابي، فضلا عن تلقي حملته الانتخابية تبرعات ضخمة من قبل الشركات العاملة في هذا المجال[4].
4-تعزيز الاقتصاد الأمريكي
تجدر الإشارة أن دعم العملات الرقمية يشجع على زيادة قاعدة المستثمرين في هذا المجال ومن ثم زيادة عدد الشركات والمنصات العاملة فيه، مما يؤدي إلى توليد إيرادات ضريبية ضخمة للدولة، شأن ذلك مثل شأن أي نشاط اقتصادي آخر تحصل فيه الدولة على ضرائب تدخل ضمن حصيلة إيرادادتها وهو ما يعزز الاقتصاد الوطني في نهاية المطاف.
5- استعادة الريادة العالمية
تسعى الولايات المتحدة لتكون رائدة في الابتكارات التكنولوجية والتحولات الاقتصادية الكبرى، ومن ثم فإن انخراطها بقوة في مجال العملات الرقمية يضمن لها قيادة هذا المجال الواعد بدلاً من تركه لخصومها، كما أن هذا التوجه يتماشى مع شعار ترامب الدائم “سنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، حيث سيضع الولايات المتحدة في موقع الريادة في أحد أبرز مجالات الاقتصاد المستقبلي.
إجراءات مرتقبة
من المتوقع أن يشهد سوق العملات الرقمية تغييرات كبيرة تشمل مجموعة من الإجراءات التي ستعيد تشكيل هذا القطاع، وتضعه في قلب الاقتصاد الأمريكي، وأبرز هذه الإجراءات تتعلق بالسياسات التشريعية والتنظيمية، ويمكن الإشارة إليها في السياق التالي:-
1-تعيين رئيس جديد للجنة الأوراق المالية
كان ترامب قد أعلن سابقًا عن عزمه إقالة رئيس لجنة الأوراق المالية والبورصات “غاري غينسلر” الذي اشتهر بمواقفه الصارمة تجاه العملات الرقمية خلال فترة رئاسته للجنة في عهد بايدن[5]. حيث رفع أكثر من ١٠٠ دعوى قضائية ضد شركات العملات الرقمية سعيًا لفرض قيود قانونية صارمة على القطاع وإجبار العديد من الشركات على الامتثال لتشريعات معقدة. ومع ذلك، استقال “غينسلر” من منصبه قبل أن يتمكن ترامب من تنفيذ وعده، مما يمهد الطريق أمام تعيين مسؤول جديد يتماشى مع سياسة ترامب الداعمة لصناعة العملات الرقمية.
2-الحفاظ على احتياطي العملات الرقمية
ركز ترامب في خطاباته الانتخابية على أهمية الحفاظ على احتياطي العملات الرقمية الذي تملكه الحكومة الفيدرالية، خاصة من عملة “البيتكوين”، حيث أشار إلى عزمه على الحفاظ على ١٠٠% من هذا الاحتياطي وعدم بيعه، ما يُظهر توجهًا جديدًا لجعل الدولة مستثمرًا رئيسيًا وطرفًا مؤثرًا في هذا السوق.
3-إنشاء مجلس استشاري
من المتوقع إنشاء مجلس استشاري للعملات الرقمية، حيث يهدف إلى وضع سياسات وتنظيمات واضحة تضمن استقرار السوق وتعزيز الشفافية، وهذا المجلس سيعمل على وضع قواعد أكثر مرونة وداعمة للنمو الاقتصادي المرتبط بهذا القطاع، إلى جانب جذب استثمارات جديدة، وهو ما أشار إليه ترامب في وقت سابق قبل تنصيبه رسميا[6].
4-التوسع في عملية التعدين
تسعى إدارة ترامب إلى دعم عمليات تعدين العملات الرقمية داخل الولايات المتحدة، ويقصد “بالتعدين” عملية التحقق من صحة المعاملات الرقمية وإصدار عملات رقمية جديد، وتتطلب هذه العملية استثمارات ضخمة في البنية التحتية والكهرباء، لكنه يُعد عنصرًا رئيسيًا في نمو السوق، حيث ستعمل الإدارة الجديدة على توفير بيئة محفزة لهذه العملية لزيادة الإنتاج المحلي من العملات الرقمية.
5-مظلة تشريعية
مع سيطرة الجمهوريين على الكونجرس، فإنه من المتوقع أن يتم تمرير تشريعات داعمة لنمو سوق العملات الرقمية، وهذه التشريعات ستوفر المظلة القانونية والبيئة التنظيمية المناسبة لضمان ازدهار هذا القطاع، مع إزالة العقبات التي فرضتها الإدارات السابقة. وهو ما سيؤدي ذلك إلى تعزيز ثقة المستثمرين وتحفيز المزيد من الاستثمارات المحلية والدولية.
إجمالًا:
فإن دخول الولايات المتحدة رسميًا إلى سوق العملات الرقمية كمحرك ومنظم رئيسي سيحقق مكاسب سياسية واقتصادية كبيرة. فمن الناحية السياسية، ستتمكن واشنطن من فرض ريادتها على هذا السوق وتنظيمه عالميًا مما يعزز مكانتها في مواجهة أي جهود دولية منافسة. ومن الناحية الاقتصادية، ستشهد الولايات المتحدة مكاسب هائلة من خلال زيادة حركة الاستثمار في هذا المجال وتحقيق إيرادات ضخمة.
ومع ذلك، فإن الرواج المتوقع لسوق العملات الرقمية قد يكون رواجًا مرحليًا مرتبطًا بفترة ولاية ترامب الثانية والأخيرة، وهذا يطرح تحديًا كبيرًا أمام هذا السوق والمستثمرين فيه، حيث يظل مستقبل السوق مرهونًا بالإدارة التي ستخلف ترامب. ففي حال قدوم إدارة جديدة ذات رؤية مختلفة أو معادية للعملات الرقمية، قد يتعرض هذا السوق لانكماش كبير، مما يؤدي إلى فقدان الزخم والفرص الاقتصادية التي من المتوقع أن تحقق خلال فترة ترامب. لذا يبقى التساؤل مطروحًا حول قدرة العملات الرقمية على الحفاظ على استمراريتها ورواجها في ظل تقلبات السياسة الأمريكية.
المصادر:
[1] عملة ترامب المشفرة تقفز في أول يوم له بالرئاسة الأميركية، الجزيرة، ٢١/١/٢٠٢٥
