يشهدُ النظامُ الدوليُّ، في السنوات الأخيرة، تحوُّلات عميقة؛ نتيجة تصاعُد حِدَّة التنافُس بين القُوَى الكبرى، وفي القلْب من هذه التحوُّلات، يبرز محور يجمع بين روسيا والصين وكوريا الشمالية، وهي دولٌ تختلف في طبيعتها لكنها تتفق على خصْمٍ مشتركٍ وهو الولايات المتحدة؛ حيث إن سياسات واشنطن – من العقوبات على موسكو، إلى الحرب التجارية مع بكين، والحصار الطويل على بيونج يانج – شكَّلت عاملًا مساعدًا، ساهم بشكلٍ أو بآخرَ في تقوية أواصر التقارُب بينهم تدريجيًّا.
في هذا السياق، تجلَّى هذا المحور بصورة واضحة خلال الاحتفال التاريخي الذي استضافته الصين، في 3 سبتمبر 2025؛ بمناسبة الذكرى الثمانين لهزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية في عرْضٍ عسكريٍّ استثنائيٍّ، قدَّمَتْ فيه الصين نفسها كلاعب استراتيجيٍّ قادرٍ على تحدِّي الهيْمنة الغربية؛ حيث تقدم هذا العرض الرؤساء الثلاثة، باعتبار ذلك رسالة واضحة على توحيد المصالح السياسية.
في المقابل، كان ردُّ فِعْل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الحدث شديد السخرية والحِدَّة؛ إذ وصف اجتماع القادة الثلاثة، بأنه “تآمر ضد الولايات المتحدة”
في هذا السياق، يسعى التقرير إلى تناول العلاقة الحالية بين كل من هذه الدول الثلاث والولايات المتحدة، وكيف ساهم التوتر مع واشنطن في تقوية تلك العلاقات فيما بينها، وصولًا إلى الإشارة إلى محركات التعاون المتنامي وانعكاساته على خريطة القوة العالمية:-
الخصومة المشتركة مع واشنطن
تُمثِّلُ الولايات المتحدة الخصم المشترك للدول الثلاث، وهو ما خلْق أرضية خصبة للتقارب بينها، يمكن تناول ذلك في السياق الآتي:-
أولًا: كوريا الشمالية
تُعَدُّ العلاقة بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة من أكثر العلاقات الدولية توتُّرًا وتعقيدًا؛ إذ ترتكز على عقود طويلة من العداء التاريخي والسياسي والعسكري؛ فمنذ الحرب الكورية التي انتهت بهُدْنةٍ دون توقيع معاهدة سلام رسمية، بقيت شِبْه الجزيرة الكورية بؤرة صراع مفتوح؛ حيث لا تزال بيونج يانج وواشنطن في حالة مواجهة غير محسومة.
فبالنسبة لواشنطن تُمثِّلُ كوريا الشمالية تهديدًا مباشرًا لأمْن حلفائها في شرق آسيا، وخاصَّةً كوريا الجنوبية واليابان لما تمتلكه من برنامج نووي وصاروخي.
أمَّا من جانب بيونج يانج، فإن واشنطن تُجسِّدُ “العدو التاريخي” الذي يحاصرها بالعقوبات والضغوط العسكرية والسياسية، ويعرقل أيَّ محاولة لتطبيع علاقاتها الدولية.
في هذا السياق، شهدت السنواتُ الأخيرةُ محاولاتٍ متعددةً لفتْح قنوات تفاوض بين الطرفين، كان أبرزها خلال الفترة الرئاسية الأولى لترامب؛ حيث عُقدت قمم مباشرة بينه وبين الرئيس كيم جونج أون في سنغافورة[1] (2018) وهانوي[2] (2019). ورغم أن هذه اللقاءات كسرت حاجز العُزْلة الدبلوماسية، إلا أنها لم تُفْضِي إلى أيِّ اتفاقٍ ملموسٍ بشأن نزْع السلاح النووي أو رفْع العقوبات، ومنذ ذلك الحين عادت العلاقات إلى نقطة الصفر، بل وتدهورت أكثر مع استمرار بيونج يانج في إجراء تجارب صاروخية متقدمة بعضها عابر للقارات وقادر نظريًّا على بلوغ الأراضي الأمريكية.
وبغض النظر عما سبق، تجدر الإشارة بالقول: إن استمرارية عداء كوريا الشمالية مع الولايات المتحدة تُمثِّلُ أداة داخلية وخارجية في آنٍ واحدٍ بالنسبة لبيونج يانج.
فداخليًّا:يُستخدم الخطاب المعادي لأمريكا كوسيلة لتوحيد الشعب خلْف النظام وتبرير الوضع الاقتصادي الصعب الناتج عن العقوبات.
أمَّا خارجيًّا: تستغلُّ بيونج يانج هذه المواجهة لتبرير تقاربها مع قوى كبرى مثل “الصين وروسيا” اللتين توفران لها مظلة سياسية واقتصادية وأحيانًا عسكرية في مواجهة الضغوط الأمريكية.
وعليه؛ بات واضحًا أن كوريا الشمالية تقترب أكثر من روسيا، خاصَّة بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا؛ حيث عملت على تزويد موسكو بالأسلحة والذخائر والجنود مقابل الحصول على دعم تكنولوجي وعسكري.
وعليه أيضًا؛ يمكن القول: إن العلاقة بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة تقوم على معادلة، مفادها أن واشنطن تسعى إلى كبْح الطموحات النووية والصاروخية الكورية، وهو ما تهدف إليه الإدارة الأمريكية الحالية[3]، بينما في المقابل ترى بيونج يانج في عدائها مع أمريكا سببًا لبقائها وتحصينًا لنظامها.
وهذا العداء المستمر جعل من كوريا الشمالية رُكْنًا أساسيًّا في التعاون الثلاثي مع الصين وروسيا؛ حيث يجتمع الثلاثة على رفْض الهيمنة الأمريكية والسعْي لإعادة تشكيل ميزان القوى الدولي.
ثانيًا: الصين
تتسم العلاقة الراهنة بين الصين والولايات المتحدة بدرجة عالية من التوتُّر والتشابك في الوقت نفسه؛ فبالعودة إلى الواراء وتحديدًا منذ إطلاق واشنطن حربها التجارية على بكين، منذ سنوات ترامب الأولى في البيت الأبيض، أصبحت الرسوم الجمركية والقيود الاقتصادية أداة أساسية لإدارة الصراع. حيث فرضت الولايات المتحدة تعريفات جمركية بمليارات الدولارات على السلع الصينية، متهمةً بكين بممارسات تجارية غير عادلة.
في المقابل ردَّت الصين بفرْض رسوم مماثلة على الواردات الأمريكية، ورغم بعض محاولات التهدئة في بداية عهْد الرئيس السابق جو بايدن، فإن واشنطن أبقت على معظم هذه الرسوم ووسعت نطاق القيود لتشمل قطاع التكنولوجيا المتقدمة وأشباه الموصلات.
وهذا التصعيد التجاري الذي تجدَّدَ في الشهور الماضية، كشف عن قناعة أمريكية متزايدة، بأن الصين ليست مجرد منافس اقتصادي، بل تهديدًا مباشرًا للهيْمنة الأمريكية؛ لذا اتجهت الإدارة الأمريكية إلى خنْق الطموح التكنولوجي الصيني عبْر عدة إجراءات، منها “منع تصدير الرقائق المتقدمة وتقييد الشركات الصينية” مثل “تيك توك”[4].
في المقابل، تسعى الصين إلى تعزيز التحوُّل نحو أسواق بديلة، لكنها تدرك في الوقت ذاته، أن السوق الأمريكي يظلُّ من أهم منافذ صادراتها، وهذا التشابك يجعل أيَّ انفصال اقتصادي كامل أمرًا مُكْلِفًا للغاية، ومع ذلك، فإن مسار “فكّ الارتباط ولو جزئيَّا” يزداد وضوحًا.
يضاف إلى العامل الاقتصادي السابق، ملفات أمنية واستراتيجية، كـ”ملف تايوان” الذي يُمثِّلُ بُؤْرَةً قابلةً للاشتعال في أيِّ وقت.
كل هذه العوامل تجعل العلاقة “الأمريكية – الصينية” في حالة “إدارة أزمة” أكثر منها شراكة.
وعليه؛ فإنه مع استمرار الضغوط الأمريكية، تجد بكين نفسها أكثر انفتاحًا على تعزيز تعاونها مع روسيا وكوريا الشمالية، ليس فقط كخيار استراتيجي بل كضرورة لتقليل اعتمادها على النظام الاقتصادي الذي تقوده واشنطن.
وعليه؛ فإن الحرب التجارية لم تُضْعِفْ العلاقة الثنائية فحسب، بل دفعت الصين خطوة إضافية نحو تعزيز محور مضاد للولايات المتحدة.
ثالثًا: روسيا
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، في فبراير 2022، دخلت روسيا في مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة؛ حيث قادت واشنطن الغرب في فرْض حزمات غير مسبوقة من العقوبات الاقتصادية، مثل (تجميد الأصول الروسية، وإخراج البنوك من نظام “سويفت”، والضغط على أسواق الطاقة الأوروبية لخفض الاعتماد على الغاز الروسي)، ورغم هذه الإجراءات، تمكَّنت موسكو من إيجاد أسواق بديلة[5].
وبالتوازي مع ذلك، صعَّدت واشنطن دعمها العسكري لأوكرانيا، عبْر تزويدها بأنظمة دفاع جوي متطورة وصواريخ بعيدة المدى، وهذا التطور جعل روسيا ترى أن الولايات المتحدة لم تعُدْ مجرد داعم سياسي لــ “كييف”، بل طرفًا غير مباشر في الحرب.
ونتيجة لذلك دفعت هذه التطورات موسكو إلى مراجعة خياراتها الاستراتيجية، وأصبح من الضروري لها البحْث عن شركاء قادرين على موازنة النفوذ الأمريكي.
ومن ثمَّ؛ برزت الصين كحليف اقتصادي وسياسي يوفر متنفسًا لروسيا في التجارة والطاقة، بينما شكَّلَتْ كوريا الشمالية شريكًا عسكريًّا مهمًا.
لذا يمكن القول: إن كل خطوة تمَّ اتخاذها ضد روسيا على خلفية الحرب في أوكرانيا أدَّت إلى سعْي موسكو في تعزيز محور ثلاثي مع بكين وبيونج يانج، ليس فقط كتعاون تكتيكي مؤقت، بل كخيار استراتيجي لمواجهة الضغوط الأمريكية.
محركات التعاون الثلاثي
تُعَدُّ فكرة تشكيل تعاون يضُمُّ روسيا والصين وكوريا الشمالية في مواجهة الولايات المتحدة نِتَاجًا لعددٍ من المحركات الدافعة، يمكن تناول أبرزها على النحو الآتي:-
الضغوط الأمريكية كعاملٍ مُحفِّزٍ
يمكن ملاحظة أن هذا التعاون لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة مباشرة لتصاعُد الضغوط الأمريكية على الأطراف الثلاثة في وقت متزامن؛ حيث العقوبات الغربية على روسيا بسبب أوكرانيا، والحرب التجارية والقيود التكنولوجية المفروضة على الصين، والحصار الطويل على كوريا الشمالية.
بمعنى آخر، فإن طبيعة علاقة واشنطن بالدول الثلاث هي التي أسهمت، في تقريب هذه الدول من بعضها البعض.
تقارُب براجماتي
يمكن النظر – على المدى القصير – إلى هذا التعاون كتحالف تكتيكي، يهدف – بالأساس – إلى مواجهة التحديات الراهنة؛ حيث إن روسيا تحتاج إلى الذخائر الكورية والأسواق الصينية للالتفاف على العقوبات، والصين تحتاج إلى شريك عسكري، مثل موسكو لتخفيف الضغط الأمريكي في آسيا، وكوريا الشمالية تستفيد من الدعم السياسي والاقتصادي لتقوية موقفها أمام واشنطن وسيول وطوكيو.
وهذه المصالح المباشرة تجعل من التحالف ضرورة واقعية أكثر منه خيارًا أيديولوجيًّا.
طموح إيجاد نظام متعدد الأقطاب
تتضح ملامح محاولات صياغة بديلٍ للنظام الدولي الحالي الذي تهيْمن عليه الولايات المتحدة؛ حيث إن الحديث عن استخدام العُمْلات المحلية بدل الدولار، والدعوات المتكررة من موسكو وبكين لعالم “متعدد الأقطاب” وهو ما تطرقت إليه قمة شنغهاي الأخيرة[6]، والتنسيق في مجلس الأمن ضد المبادرات الأمريكية، كلها مؤشرات على توجُّهٍ استراتيجيٍّ لا يقتصر على مواجهة آنية، بل يسعى إلى إعادة ترتيب ميزان القوى العالمي.
ورغم ذلك، فإن هذا التعاون ليس خاليًا من التحديات؛ حيث إن ثمَّةَ تفاوتًا بين الدول الثلاث، وهذا التفاوت قد يجعل التوافق الحالي عُرْضةً للتوتر إذا ما تغيرت الظروف أو ظهرت تناقضات بين مصالح الأطراف الثلاثة.
مظاهر التعاون الثلاثي
أخذت العلاقات بين كوريا الشمالية والصين وروسيا منحى تصاعديًّا تجاوز كوْنه مجرد تقارب سياسي إلى “ما يشبه” صياغة تحالف عملي يقوم على المصالح المشتركة في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها، وهذا التقارب لم يعُدْ مجرد خطاب سياسي، بل تجسد في سلسلة من اللقاءات رفيعة المستوى والتحركات العملية؛ فخلال عامي 2023 و2024 تكثَّفت الزيارات المتبادلة[7]؛ حيث استقبلت موسكو الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون في زيارة علنية أثارت قلق العواصم الغربية، بينما واصل الرئيس الصيني شي جين بينج تعزيز قنوات الاتصال مع موسكو وبيونج يانج على حدٍّ سواء:-
المستوى العسكري
كان أحد أبرز مظاهر التعاون يتمثَّلُ في التنسيق العسكري؛ حيث لم يعُدْ هناك مجالٌ للتشكيك في قيام كوريا الشمالية بتزويد روسيا بالذخائر والجنود لدعمها في حرب أوكرانيا[8]. في المقابل، تستفيد كوريا الشمالية من نقْل الخبرات التكنولوجية والعسكرية الروسية، وهو ما يعزز برنامجها الصاروخي والنووي.
وتكامُلًا مع ذلك تقوم الصين – حتى وإن بدت أكثر حذرًا في الدعم العسكري المباشر- بتوفير غطاء سياسي ودبلوماسي لهذا التعاون.
المستوى الاقتصادي
تواجه الدول الثلاث ضغوطًا أمريكيةً متصاعدةً؛ حيث تعاني روسيا من وطْأة العقوبات الغربية، وتواجه الصين حربًا تجاريةً وتكنولوجيةً، وتقع كوريا الشمالية تحت حصار اقتصادي طويل الأمد، وهذه الظروف مجتمعة خلقت أرضية مشتركة للتعاون بينهم في مجالات متعددة كالتجارة والطاقة والغذاء؛ حيث بدأت روسيا في تصدير النفط والمنتجات الغذائية إلى كوريا الشمالية، كما زادت تعاملاتها مع الصين بالعملات المحلية للالتفاف على العقوبات الغربية وهو ما أدى إلى زيادة التبادل التجاري بينهما بشكل ملحوظ في السنوات الثلاث الأخيرة[9].
وفي المقابل، توفر الصين لروسيا منْفَذًا حيويًّا للأسواق العالمية وتساهم في تقليل عُزْلة بيونج يانج.
المستوى السياسي
يظهر التنسيق الثلاثي بوضوح في مواقفهم داخل الأمم المتحدة والمحافل الدولية؛ حيث غالبًا ما تتبنَّى موسكو وبكين مواقف متقاربة في مواجهة الطُّرُوحات الأمريكية، بينما تستفيد كوريا الشمالية من هذا الغطاء للحفاظ على بقائها ومواصلة تطوير قدراتها النووية، كما أن المشهد الحالي، يُوحِي بأن ثمَّةَ محورًا يتشكَّلُ بصورة أوضح يربط بين
قدرات روسيا العسكرية، وثقل الصين الاقتصادي، وطموح كوريا الشمالية في البقاء قوة نووية.
إجمالًا:
يمكن القول: إن التعاون الثلاثي بين روسيا والصين وكوريا الشمالية ليس مجرد استجابة ظرْفِيَّة، بل هو حصيلة تراكمية لضغوط متزايدة مارستها الولايات المتحدة على هذه الدول في عدة ملفات؛ حيث إن العقوبات الاقتصادية على موسكو، والتصعيد التجاري والتكنولوجي ضد بكين، والضغط العسكري والسياسي على بيونج يانج، كلها عوامل دفعت هذه الأطراف إلى البحث عن بدائل استراتيجية، تقوم على التنسيق فيما بينها لمواجهة التحديات المشتركة.
وهذا التعاون يعكس أيضًا، أن ثمَّةَ تحوُّلًا لافتًا في بنية النظام الدولي؛ حيث لم يعُدْ العالم قائمًا على هيْمنة أمريكية مطلقة كما كان الحال بعد الحرب الباردة، بل بات يتجه نحو تعدُّدية أكثر تعقيدًا، يظهر فيها شركاء متباينون يتحدون واشنطن بوسائل مختلفة.
ورغم أن هذا التعاون لا يزال بعيدًا عن كوْنه تحالفًا متماسكًا، فإن تزايد مظاهره يُمثِّلُ رسالةً استراتيجيةً واضحةً للولايات المتحدة، بأن قدرتها على الانفراد بتوجيه النظام الدولي باتت مهددةً.
وعلي أيِّ حالٍ، يظلُّ مستقبل هذا التعاون رهينًا بطبيعة السياسة الأمريكية المقبلة، سواء بالاستمرار في نهْج الضغط والمواجهة، أو بفتْح المجال أمام تسويات قد تحدُّ من احتمالات بلورة جبهة مضادَّة أكثر تماسُكًا.
المصادر:
[1] قمة ترامب وكيم: الزعيمان الأمريكي والكوري الشمالي يصلان إلى سنغافورة، بي بي سي، ١٠-٦-٢٠١٨
