إعداد: مصطفى مقلد
مقدمة:
فى خطوة تشكل تحديًا جديدًا لاستقرار الائتلاف الحكومى فى إسرائيل، قضت المحكمة العُليا فى 29 مارس المنقضى بتعليق الدعم الحكومى للمعاهد الدينية اعتبارًا من أول أبريل، وقبلها كانت قد انتهت اجتماعات نتنياهو ووزير العدل ياريف ليفين، مع زعماء الأحزاب “الحريدية” فى 26 مارس، دون التوصل إلى تسوية حول مشروع قانون التجنيد، واعتبر زعماء الأحزاب الحريدية مطالب نتنياهو التى تتعلق بتجنيد اليهود المتدينين تتعارض مع الاتفاقات المبرمة معه حين شُكلت الحكومة.
وعليه، فقد أرجأ مجلس الوزراء الإسرائيلى اجتماعه الذى كان مقررًا فى نفس اليوم، ومعه تفجر خلاف بين نتنياهو ويولى إدلشتاين “رئيس لجنة الشؤون والدفاع” بالكنيست، بشأن أى لجنة ستعقد المناقشات حول قانون الإعفاء من التجنيد، فصرح “يولى إدلشتاين” بأن قانون التجنيد لن يتم التعامل معه إلا فى لجنة الشؤون الخارجية والدفاع، وأن أى محاولة لتجاوز اللجنة وتشويه الموضوع والالتفاف حوله ستبوء بالفشل، بينما يرى نتنياهو أن إدلشتاين عضو كنيست معارض وغير منضبط، بالتالى يرفض تناوله لمشروع القانون، ومن ناحية أخرى، وصلت التجاذبات السياسية فى حكومة الحرب الإسرائيلية إلى حد تهديد “بينى غانتس” بالانسحاب فى حال استمرار إعفاء الحريديم من التجنيد.
وفى رسالة من نتنياهو إلى المحكمة العليا قال إنه “أحرز تقدمًا ملحوظًا بشأن مسودة الخطة” وطلب مهلة 30 يومًا “من أجل صياغة اتفاقات”، مبررًا التأخر بأن الحرب ضد حماس سيطرت على اهتمام الحكومة، لكن المحكمة العليا أصدرت حكمها “المؤقت”.
قضية مزمنة:
ويأتى قرار المحكمة فى سياق الالتماسات المقدمة ضد قرار الحكومة فى يونيو 2023 -الذى يأمر الجيش بعدم تجنيد طلاب المعاهد الدينية الحريدية مؤقتًا-، ويثير إعفاء الحريديم من التجنيد استياءً واسعًا، خاصة بعد هجوم 7 أكتوبر وفى ظل سقوط أكبر عدد من القتلى بصفوف الجيش الإسرائيلى منذ عقود، وتعود قضية إعفاء الحريديم من التجنيد إلى تاريخ تأسيس إسرائيل، وقد استمر تاريخيًا وفق قوانين مؤقتة، لكن ذلك انتهى بنهاية مارس هذا العام، وكانت هناك مهلة أمام الحكومة الإسرائيلية حتى الأول من أبريل لتقديم خطة تجنيد وطنية جديدة، لكن الحكومة لم تقدم شيئًا حتى الآن.
وفى حين أن فقدان الدعم الحكومى يمثل “صفعة” للمدارس الدينية، لكنها ستظل قادرة على الاستمرار فى العمل لفترة من الزمن، فالدعم الحكومى يوفر 7.5 فى المائة فقط من إجمالى التمويل، ويرى مراقبون أنه يمكن لائتلاف “نتنياهو” أن يبحث عن أموال تقديرية لتعويض ذلك.
الأحزاب اليهودية المتشددة فى الائتلاف الحاكم، تريد الإبقاء على الإعفاءات باعتبارها وسيلة للحفاظ على نمط الحياة الدينى لناخبيها، لكن خبراء الاقتصاد يرون أن الإعفاء يُبقى البعض دون داع فى المعاهد الدينية بعيدًا عن القوى العاملة، مما يؤدى إلى تزايد أعباء الضمان الاجتماعى على دافعى الضرائب من الطبقة المتوسطة، خاصة مع ارتفاع معدل الولادات، ما يجعل طائفة الحريديم الأسرع نموًا بين السكان.
التفاعل مع قرار المحكمة:
يعد الحكم الصارم الذى أصدرته المحكمة العليا مؤشرًا على أنها تضغط على الحكومة لتتحرك بشكل أسرع فى معالجة مسألة التجنيد الإجبارى لليهود الحريديم، وعلى ذلك انتقدت الأحزاب الحريدية قرار المحكمة، ووصف رئيس حزب “يهدوت هتوراة” ووزير الإسكان القرار بأنه ضرر جسيم لأولئك الذين يتعلمون التوراة.
وفى محاولة من نتنياهو للحفاظ على تماسك حكومته، تقول هيئة البث الإسرائيلية، إنه وعد زعماء الأحزاب الدينية بتحويل الميزانيات إلى هذه المدارس من مصدر آخر بطريقة غير مباشرة، لكنه سيواجه معضلة تتعلق بأن أى تحويل كبير للميزانية سيتطلب موافقة الكنيست، وسيكون من الصعب الحصول على أغلبية تؤيد تحويلًا كبيرًا للأموال بطريقة غير مباشرة، وإذا فشل رئيس الوزراء فى توفير حل، فقد يقرر قادة الأحزاب الدينية الانسحاب من حكومة نتنياهو، ومن ثم إسقاطها، بعد استنفاد محاولاتهم فى مواجهة تلك الأوضاع الجديدة، فالأحزاب اليمينية لا تستعجل الحديث عن الانسحاب أو تفكيك الائتلاف الحكومى، وترى أن أى نقاشات حول الانسحاب لن يحقق مصالحهم، بل يخدم المستشارة القضائية التى تريد إسقاط الائتلاف.
وتظل هناك شكوك بأن نتنياهو سيحاول إيجاد طرق للتحايل على أمر المحكمة، لذا فقد حاول النائب العام منع ذلك عبر إرسال خطاب إلى وزارتى الدفاع والتعليم، لتوجيه الحكومة بالبدء فى تجنيد الحريديم وحظر تعويض المدارس الدينية بأى شكل من الأشكال، وانتقد موالون لنتنياهو النائب العام باعتبار أن قراره يُحدث انقسامًا فى المجتمع الإسرائيلى بشأن مسودة القضية، بعد أن قبلت المحكمة العليا طلب نتنياهو لإكمال خطة جديدة فى غضون 30 يومًا بهيئة موسعة من تسعة قضاة، خاصة وأن توجيه المحكمة العليا بوقف التمويل تم تقديمه كإجراء مؤقت، وأنه فى شهر مايو ستقرر هيئة موسعة مكونة من تسعة قضاة ما إذا كان سيتم جعل هذا الإجراء دائمًا أم لا.
كذلك شددت المستشارة القضائية للحكومة الإسرائيلية “جالى باهاراف ميارا” على أن القانون ينص على وجوب بدء تجنيد الحريديين اليهود المتدينين للخدمة الإلزامية فى صفوف الجيش الإسرائيلى، ومع ذلك لا يعتقد المراقبون أن الحكومة ستنفذ المشروع حتى يتم تشريع مشروع قانون جديد للجيش الإسرائيلى بموافقة الأحزاب المتطرفة فى الحكومة.
ولكن الغضب من حكومة نتنياهو قد يتصاعد إذا لم ير المتدينون تشريعات فى المستقبل القريب تراعى مخاوف الأحزاب المتدينة، وعبر مسؤولون فى تلك الأحزاب عن أنهم يريدون تقدمًا ملموسًا فى قانون التجنيد خلال شهرين، ويمثل تفكك الائتلاف أكبر مخاوف نتنياهو، لأن ذلك من شأنه أن يقوض استقرار إسرائيل خلال تلك المرحلة الحرجة من الحرب ومفاوضات إعادة الرهائن، ويزيد القلق لأنه وحزبه الليكود يتخلفان حاليًا فى استطلاعات الرأى.
التطورات الحالية:
إذن فإسرائيل الآن أمام مشهد جديد حيث أصبح إعفاء اليهود المتشددين من الخدمة الإلزامية يتعرض لانتقادات متزايدة، وبحلول الأول من أبريل، أصبحت الدولة ملزمة بالبدء فى تجنيد طلاب المعاهد الدينية، ولن يكون هناك أساس قانونى للدولة لدفع الرواتب الشهرية لهؤلاء الطلاب، ومع ذلك، تشير الأنباء إلى أن الجيش الإسرائيلى قد يتخذ خطوات أولية فقط فى الوقت الحالى مثل بدء الجيش الإسرائيلى بفحص بيانات المجندين المحتملين قبل إجراءات التجنيد، وفقا لأولويات الجيش الإسرائيلى، حيث تذهب التقديرات إلى أنه يمكن نظريًا استدعاء الطلاب اليهود المتشددين لأداء خدمتهم العسكرية، لكن الشرطة لن تعتقلهم، لأن إعلانهم هاربين سيستغرق وقتًا، وعلى المحكمة أن تبت فى هذه المسألة، وأن الشرطة العسكرية لن تبدأ فى تنفيذ أوامر التجنيد، ومع ذلك فإن المؤهلين منهم للتجنيد الذين يحاولون مغادرة البلاد قد يواجهون الاعتقال.
ويتوقف بقاء نتنياهو السياسى على قدرته على موازنة مطالبهم ومطالب الأعضاء الآخرين مثل “غانتس” الذين يصرون على أن كافة أفراد المجتمع لابد وأن يساهموا على قدم المساواة فى الحرب، وفى لقاء صحفى، رفض نتنياهو الدعوة لاجراء انتخابات باعتبار أنها ستعرقل تحقيق أهداف الحرب وتؤثر على مفاوضات اعادة المحتجزين، وصرح بأنه يوافق على تجنيد الحريديم بناءًا على اتفاق وليس بالإجبار.
وسيكون الكنيست فى عطلة فى الفترة من 8 أبريل إلى 19 مايو، وبالتالى فإن أمام الحكومة على الأقل حتى ذلك الحين قبل أن تتمكن الأحزاب الحريدية من التهديد بحل الكنيست والذهاب إلى الانتخابات، وبالتالى فإن الجدول الزمنى القانونى والسياسى يمنح الحكومة بضعة أسابيع إضافية للعمل على خطة جديدة للتجنيد الحريدى.
ختامًا:
من غير المرجح أن تؤدى الأزمة الحالية إلى إسقاط الحكومة، فلدى الحكومة مزيدًا من الوقت للعمل على مشروع جديد بعد موافقة المحكمة على طلب نتنياهو، كما أن قرار المحكمة انطوى ضمنيًا على فترة انتقالية تسمح للحكومة بالتحرك، وفى هذه الأثناء، ويعتمد نجاح الحكومة على الإرادة السياسية لحمل الحريديم على الالتزام حتى بالحد الأدنى بالخدمة الوطنية.