حسين عمرو المبيض
علاقة تحكمها سياسة البقاء على قيد الحياة
المسار الفريد لتاريخ إسرائيل، يتكون بشكل أساسي من حالة حرب دائمة، متفاوتة الشدة منذ تأسيس الدولة؛ ما جعل السياسة الخارجية التقليدية فئة فرعية للسياسة الأمنية؛ حيث هيْمنت الحسابات الأمنية على كافة هياكل الدولة الإسرائيلية من (ميزانية، وسياسية داخلية، وخارجية، وثقافة الشعب)، والوضع لم يتغير كثيرًا حتى يومنا هذا، فيُعرَّف الموقف الإستراتيجي العام لإسرائيل، بأنه قائمٌ على ضمان أمن إسرائيل ووجودها، فتنظر إسرائيل إلى إيران على أنها تهديد وجودي محتمل، وكل سياسة خارجية مخصصة بإيران مستمدة من هذه الفكرة.
فمنذ الثورة الإيرانية عام 1979، اعتبر النظام الإيراني إسرائيل عدوها اللدود والأبدي، وكان ذلك العداء الشديد في الأصل؛ بسبب العلاقات الوثيقة التي كانت قائمة بين إسرائيل والشاه في إيران، ولكنها تطورت إلى كراهية دينية، وأصبح العداء الإيراني مصدر قلق خطير لإسرائيل، عندما اتضح أن طهران تطمح لامتلاك أسلحة نووية، فكانت الصحوة الكبرى حول هذه القضية، في النصف الثاني من عام 2002، عندما نُشرت خطة إيران لأول مرةٍ في وسائل الإعلام؛ لتنفيذ المشروعين اللذين سيمكنانها من تطوير قدرات نووية عسكرية، من خلال معمل تخصيب اليورانيوم في نطنز، ومفاعل الماء الثقيل بالقرب من أراك.
ومن بين العديد من الصراعات في الشرق الأوسط، فإن الصراع بين إيران وإسرائيل هو الأكثر احتمالًا للانفجار؛ حيث يتعهد القادة الإيرانيون بشكل دوري بالقضاء على إسرائيل، ففي مايو 2021، ادعى قائد الحرس الثوري الإيراني (حسین سلامی)، أنه “يمكن تدمير الدولة اليهودية في عملية واحدة”، وفي تغريدة في مطلع الشهر الحالي، أعرب وزير الخارجية الإيراني (أمير عبد اللهيان)، بأن “لا مكان للصهيونية في مستقبل العالم”، وفيما يتعلق بالمشروع النووي الإيراني”، سندافع بقوة وعقلانية عن حقوق ومصالح وتقدم الشعب الإيراني،” فإن المشروع النووي الإيراني بصدد تطوير أسلحة نووية، وذلك التهديد المحتمل هو ما حكم العلاقة الإسرائيلية الإيرانية على مدار السنوات؛ حيث إن إسرائيل تعتبر قدرة إيران على صنع أسلحة نووية تهديدًا لوجودها؛ لذا التزمت بفعل كل ما يلزم لمنع ذلك، فانخرطت البلدان في حرب خفية؛ حيث هاجم كل منهما الآخر بهدوء في (البر والجو والبحر)، وفي بعض الحالات بالوكالة؛ حيث دعمت إيران الجماعات التي تقاتل إسرائيل بانتظام، ولا سيما حزب الله في لبنان، وحركة حماس الفلسطينية، ولكن على مدار السنوات، سعى الجانبان إلى تجنب الاشتباكات المفتوحة التي قد تخاطر بالتصعيد إلى حرب شاملة، ويفضلون بدلًا عن ذلك التصرف بإنكار معقول، في ظل عدم التأكد أو الإنكار للهجمات والمناوشات بين البلدين.
ضربات عسكرية سرية
شهدت منشآت تخصيب اليورانيوم الإيرانية في نطنز العديد من الهجمات المبلغ عنها في السنوات الأخيرة، والتي نُسبت إلى إسرائيل، و في ذلك السياق، جاءت الهجمات الأولى، في أواخر عام 2009، ضد البرنامج النووي الإيراني، من خلال عملية تم تطويرها بالاشتراك بين المخابرات (الأمريكية والإسرائيلية)، وهي تفعيل برمجيات الكمبيوتر الخبيثة (دودة ستوكس-نت)، والتي استهدفت أجهزة الطرد المركزي العاملة في نطنز في تخصيب اليورانيوم، فعمل مفعول الدودة، على إيقاف أجهزة الطرد المركزي عن العمل، وفي الوقت ذاته، أفادت للعاملين بالمنشأة بأنها تعمل بشكل طبيعي، وأفاد خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية آنذاك، أن عددًا كبيرًا من أجهزة الطرد المركزي في منشأة نطنز، أصبحت ملوثة ومعيبة؛ ما أدى إلى تعطيلها لبضعة أسابيع، في محاولة للتغلب على الأضرار التي سببتها الدودة، كذلك في عام 2011، أدى هجوم إلكتروني إلى قطع الخادم الرئيسي لوزارة النفط الإيرانية وشركاتها الأربع الرئيسية، واعترفت الوزارة حينها، بوقوع الهجوم قائلة: إنه كان يهدف إلى “سرقة معلومات وتدميرها”.
أيضًا مع دخول العالم العربي في ثورات “الربيع العربي”، في عام 2011، واندلاع الحرب الأهلية في سوريا، انفتحت ساحة معركة مجاورة لإسرائيل وإيران، فعلى مدار الحرب السورية، أقامت إيران وجودًا عسكريًّا في البلاد؛ لدعم حليفها الرئيس بشار الأسد، ولتسهيل نقل الأسلحة والصواريخ باليستية عن طريق البر المخصصة لحزب الله من إيران إلى لبنان عبر العراق وسوريا، ففي محاولة لوقف تدفق الأسلحة، ومواجهة هذا الوجود العدائي على حدودها الشمالية، شنَّت إسرائيل حملة مفتوحة بشكل متزايد من الضربات الجوية في سوريا ضد أهداف مرتبطة بإيران، فاستهدفت إسرائيل الشحنات الإيرانية من مكونات لأنظمة الدفاع الجوي والصواريخ المبرمجة والصواريخ بعيدة المدى والطائرات بدون طيار وأنظمة القتال الإلكترونية، وينظر المسؤولون الإسرائيليون إلى الضغط المستمر على الحرس الثوري الإيراني في سوريا، وعلى طرق التهريب، على أنه أفضل وسيلة لمنع -أو على الأقل إبطاء – حشد عسكري إيراني على أعتابه، فوفقًا لتقارير منقولة عن مصادر سورية، فإن إيران قد كثَّفت من عمليات نقل الأسلحة بحرًا في محاولة لتجنب الضربات الإسرائيلية في شرق سوريا، وهذا يفسر تصاعد الضربات الإسرائيلية التي استهدفت ميناء اللاذقية في ضربتين متتالين في ديسمبر2021.
بجانب الضربات الجوية و السيبرانية على المنشآت النووية والإمدادات العسكرية الإيرانية، فإنه يُعتقد على نطاق واسع، أن إسرائيل وراء اغتيال خمسة علماء نوويين إيرانيين في طهران، منذ عام 2010، بالتوازي مع الهجمات على مواقع نووية داخل إيران.
وبعد توقف دام قرابة تسع سنوات في اغتيالات الإيرانيين المرتبطين بالبرنامج النووي لبلادهم، في 27 نوفمبر 2020 كان آخر الضحايا لعمليات الاغتيال الإسرائيلية، التابعة لجهاز الموساد، هو (محسن فخري زاده)، العضو البارز في البرنامج النووي العسكري الإيراني، وتم اغتياله من خلال استهداف لموكبه بنيران رشاش آلي مصنف بالذكاء الصناعي، تم تفعليه من على بُعْد، والذي تلاه تفجير غامض، من خلاله تم خروج فريق الاغتيال بسرعة وبسرية تمامًا كما دخلوا.
ويشير ذلك إلى فشل مزمن للمخابرات الداخلية الإيرانية في الدفاع عن (فخري زاده) وغيره من العلماء، الذي اعتبرهم الموساد شخصيات فاعلة في البرنامج النووي الإيراني، وكما في الماضي، لم تعترف إسرائيل بمسؤوليتها عن أي من هذه الضربات.
ساحة القتال السيبرانية الجديدة
لكن في الآونة الأخيرة، وبالأخص في العام المنصرم، أصبحت الاشتباكات السيبرانية أكثر وضوحًا، وانتقلت من استهداف منشآت عسكرية إلى استهداف البنية التحتية المدنية والمواطنين داخل البلدين.
يسود الاعتقاد أن إسرائيل كانت وراء هجوم إلكتروني في 26 أكتوبر في العام الماضي، والذي أصاب محطات الوقود في إيران بالشلل، فتوقفت الآلاف من محطات الوقود التي بلغ عددها 4300، عن تصريف الوقود، ووقوع هجوم إلكتروني على برمجيات تتحكم في نظام الدفع عبر الإنترنت، الذي يسمح للإيرانيين بإعادة التزود بالوقود، باستخدام بطاقات الوقود التي تصدرها الدولة، والتي تتيح لهم الوصول إلى البنزين المدعوم والمخفض، وأكد المسؤولون في إيران بأن التخريب كان يهدف إلى تعزيز الانقسام، وعدم الاستقرار في داخل البلاد، ويتزامن مع الفترة التي سبقت الذكرى السنوية للاحتجاجات ضد الارتفاع المفاجئ في أسعار الغاز في عام 2019، والذي نتج عنه أكثر الاضطرابات دموية منذ ثورة 1979. ورغم استغراق الحكومة الإيرانية 12 يومًا لاستعادة السيطرة بالكامل على الوضع بعد الهجوم، إلا أن الرد من الجهة الإيرانية جاء بعد أربعة أيام من توقف مضخات إيران عن العمل؛ حيث تمكن المتسللون من الوصول إلى قاعدة بيانات موقع المواعدة الإسرائيلي (أتراف)، والملفات الطبية في معهد (ماشون مور) الطبي، وهي شبكة من العيادات الخاصة في إسرائيل. وتم نشر الملفات من كلا الاختراقين، بما في ذلك المعلومات الشخصية لنحو 1.5 مليون إسرائيلي، نحو 16% من سكان البلاد على قناة على تطبيق المراسلة (تلغرام)، والتي نجحت إسرائيل بطلب من الشركة بحجب القناة، ولكنّ المتسللين – وهم مجموعة تسمى (بلاك شادو) – أعادوا نشر المواد على قناة جديدة، واستمروا في القيام بذلك في كل مرةٍ تم حظرها، كما نشرت المجموعة ملفات مسروقة من شركة التأمين الإسرائيلية (شيربت)، القائمة على تأمين موظفي وزارة الدفاع الإسرائيلية، والتي تم اختراقها في ديسمبر 2021.
ويأتي هذا التصعيد في الوقت الذي حذّرت فيه السلطات الأمريكية من محاولات إيرانية لاختراق شبكات الكمبيوتر في المستشفيات والبُنى التحتية الحيوية الأُخرى في الولايات المتحدة، من خلال برامج الفدية الإلكترونية؛ ما حفَّز إسرائيل والولايات المتحدة على التعاون في سدِّ الثغرات الأمنية السيبرانية، وفي نوفمبر 2021، أعلن الجيش الإسرائيلي، أن فرقته المتخصصة للدفاع السيبراني قد انضمت إلى القيادة الإلكترونية الأمريكية؛ لإجراء تدريبات مشتركة، وهي السادسة من نوعها في ذلك العام.
وهدف تلك التدريبات، هو معالجة قضايا برامج الفدية والأمن السيبراني، وحماية البُنى التحتية المالية الهامة، والتكنولوجيات الناشئة، مع توسيع التعاون الدولي؛ لمواجهة تهديد برامج الفدية على مستوى العالم، وفقًا لبيان صادر عن وزارة الخزانة الأمريكية.
في النهاية، يصعب الجزم بمسؤولية مرتكبي أعمال القرصنة في الحرب السيبرانية بين إسرائيل وإيران؛ لإنكار كل منهما ارتكاب الجرائم بحق الآخر، ولكن النظرية السائدة، بأن عمليات اختراق على البُنى التحتية قد نُسبت إلى كل من الجهات الفاعلة التي ترعاها الدولة ومجموعات القرصنة المستقلة، ويبقى العامل المشترك بينهم هو التسبب في حدوث فوضى وارتباك للأشخاص العاديين والشركات في البلدين، ويمكن تفسير هذه التبادلات السيبرانية، من خلال عدستين: الأولى، استخدام العمليات الإلكترونية والقرصنة؛ من أجل تحقيق الردع، والثانية، هي نتيجة تسابق بين البلدين؛ لتحقيق التفوق الأمني السيبراني في بيئة الإنترنت المستمرة؛ حيث يسعى كل جانب لتوقع الضعف السيبراني، وتشكيل ظروف الاستغلال، ومع تلاشي الآمال في نجاح دبلوماسي للاتفاق النووي الإيراني، من المرجح أن تستمر الحرب السيبرانية والهجمات بين إسرائيل وإيران.
تعطل الاتفاق النووي والحل العسكري
إن إيران والقوى العالمية في خضم الجولة الثامنة من مفاوضات “فيينا”، والتي تهدف إلى إحياء الاتفاق النووي لعام 2015، والمعروف باسم (خطة العمل الشاملة المشتركة)، وهو الاتفاق الذي كان قد انسحب منه الرئيس الأمريكي السابق (دونالد ترامب)، في عام 2018، وأطلق حملة عقوبات إضافية لتحقيق “أقصى ضغط”، والتي ردت عليها إيران بتصعيد انتهاكات الاتفاق واستكمال مشروعها النووي؛ لتخصيب اليورانيوم وتسليحه.
ولا ترفض إسرائيل ولن تعارض علنًا الرئيس الأمريكي (جو بايدن) وفريقه في جهودهم للعودة إلى الاتفاق النووي، بالرغم من أن (بايدن) يتعاطى مع إيران بوصفها مزعزعة للاستقرار في المنطقة، فقد دافع عن الاتفاق النووي مع إيران في أكثر من مناسبة، بوصفه أحد إنجازات إدارة (أوباما)، التي كان (بايدن) عنصرًا رئيسيًا فيها، كنائب للرئيس الأمريكي، واعتبره صفقة ساهمت في عرقلة مساعي إيران للحصول على السلاح النووي، وكذلك وجّه انتقادات لإدارة (ترامب)؛ لانسحابها من خطة العمل المشتركة، بدون تقديم مسار آخر لإنتاج اتفاق أفضل.
ومع ذلك، تُوصي إسرائيل بشدة بألا تعود الإدارة الجديدة إلى الصفقة القديمة الموقعة بين إيران ومجموعة (5 + 1)، بل عليها التوصل إلى اتفاقية جديدة، من ضمنها، قيود إضافية على تطوير وإنتاج الصواريخ والوسائل الأخرى، القادرة على حمل رأس نووي لأهداف في جميع النطاقات، علاوةً على ذلك، تريد إسرائيل اتفاقية إضافية؛ لتقييد استخدام إيران للوكلاء في الأنشطة التخريبية في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
وحاليًّا، لا يمكن الجزم بمستقبل الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة (5 + 1)؛ بسبب تعنُّت إيران والولايات المتحدة، وعدم الموافقة على أي تنازلات إضافية من جانب الطرفين على اتفاق 2015، ولا يبقى من البدائل للحل الدبلوماسي إلا التصعيد العسكري من جانب إسرائيل، والتي اقترحته أكثر من مرة، بغض النظر عن تبادل الإدارات الأمريكية ورؤسائها.
ولكن في الواقع، على الرغم من شن الهجمات الجوية السيبرانية الإسرائيلية على أهداف المشروع النووي الإيراني، إلا أنه يتمتع بِبُنَى معقدة ومتعددة المستويات، وموزع على مواقع شديدة الحراسة في جميع أنحاء إيران، وبالتالي، فإن توجيه ضربة له، قد لا تضمن تدميره بالكامل، وبالتالي، سيصبح السؤال الإسرائيلي عن تكلفة الضربة، وبالأخص حجم ومدى الرد الإيراني على مثل هذا الهجوم، إضافةً إلى هجمات محتملة من وكلائها في (سوريا، ولبنان، واليمن).
إضافةً إلى ذلك، استمرار الرفض الأمريكي الصارم لاستخدام الخيار العسكري، سواء كان إسرائيليًّا خالصًا، أو مشتركًا بين إسرائيل والولايات المتحدة، ويأتي رفض الولايات المتحدة في إطار توجهاتها الإستراتيجية في القارة الأسيوية، المتمثلة في ردع النفوذ الصيني والروسي، وانسحاب قواتها من العراق وأفغانستان، بعد صراعات طويلة، كلفت الولايات المتحدة المليارات من الدولارات، ناهيك عن الخسائر البشرية، وهو أيضًا ما تحاول تجنبه بعدم بدْء حرب مع إيران، أو تورطها في الحرب مع إسرائيل؛ خوفًا من هجمات ثأر من إيران وحلفائها، تستهدف قواتها المتواجدة في القواعد العسكرية بالمنطقة.
ولذلك يبقى الحل العسكري لقضية المشروع النووي الإيراني بعيد المدى، ولكن ليس مستحيلًا، ومن المتوقع، استمرار الحرب الخفية بين إيران وإسرائيل؛ حيث الثانية تستمر في شن هجمات محددة؛ لإبطاء المشروع النووي الإيراني، وقطع إمداداتها لحلفائها التي تقاتل إسرائيل بانتظام، ومن خلال توجيه ضربات لأهداف إيرانية محدودة في سوريا، أو القيام بمناوشات عسكرية مع حزب الله؛ تُسبّب له خسائر ملحوظة، وقد يتصاعد هذا النهج لمرحلة استهداف مباشر للقواعد العسكرية الإيرانية في الجنوب السوري، مُوقِعًا خسائر بشرية كبيرة، أو توجيه ضربة عسكرية شديدة لحزب الله في الداخل اللبناني، تحت أي ذريعة استخباراتية ممكنة.
الحل الدبلوماسي العربي والإبقاء على عزلة إيران
تدرك الدول العربية ازدواجية السياسة الخارجية الإيرانية؛ حيث تحاول إيران دعوة القوى العربية الفاعلة، في المنطقة العربية من (مصر، المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، وتركيا)، في محاولة تقارب للعلاقات، ووضع آليات؛ لمعالجة مشاكل الشرق الأوسط، إلا أنه في الوقت نفسه، جدَّدت إيران إصرارها على رفض مشاركة تلك الدول في المفاوضات التي تجري في “فيينا” حول الاتفاق النووي، رغم أن تلك المفاوضات تحظى باهتمام خاص من جانب تلك الدول؛ لاعتبارات أمنية وإستراتيجية في المقام الأول.
وكان أهم ما جاء في تصريحات وزير الخارجية الإيراني (عبد اللهيان)؛ حيث قال في هذا السياق: “لا نرحب بفكرة إضافة أعضاء جدد من المنطقة إلى المحادثات، لكننا نُبقي جيراننا على اطّلاع بالقضايا”، مُضيفًا، أن إيران تعوض عن ذلك، بالمواظبة على إطلاع دول المنطقة على مجريات المفاوضات، سواءً عبر سفرائها، أو من خلال مساعدي وزير الخارجية، أو عن طريق الزيارات التي تقوم بها إلى بعض تلك الدول.
ناهيك عن ذلك، تواجه البلاد العربية تهديدًا لأمنها واستقرار أراضيها بصورة غير مباشرة من إيران، ويكمن ذلك في الدعم العسكري الإيراني للحوثيين في اليمن، والتي تواصل استهداف منشآت عسكرية ومدنية في السعودية ودولة الإمارات بطائرات مسيّرة وصواريخ باليستية، إيرانية الصنع، والتي كانت آخرها، استهداف مطار العاصمة الإماراتية في “أبوظبي”، في يناير المنصرم؛ حيث تم توجيه الضربات على شاحنات وقود قرب المطار؛ ما تسببت في عدة انفجارات، ومصرع ثلاثة أشخاص، ورغم إعلان ميليشيات الحوثي عن مسؤوليتها في الضربات، إلا أن إيران نفت تورطها في الهجوم.
فمن الأرجح، بأن تستغل إسرائيل تلك الازدواجية السياسية من الجانب الإيراني، وتعمل على تقارب بينها وبين الدول العربية، من خلال استمرار عمليات تطبيع العلاقات في إطار (اتفاقيات إبراهيم)، التي بدأت في عام 2020؛ لمجابهة النفوذ الإيراني، وإبقائها منعزلة عن الدول العربية والإقليمية، فإن العلاقات العربية مع إسرائيل لم تعُد مرتبطة بالقضية الفلسطينية كما مضى، وإنما تُوجد أولوية متزايدة لدى دول الخليج في مواجهة النظام الإيراني، الذي يدعم الجماعات الإرهابية والشيعية المتطرفة، وذلك في إطار إستراتيجيات الأمن القومي لتلك الدول، والتي تتشارك مع إسرائيل في نفس الحسابات الأمنية.
وعلى صعيد آخر، تُعد مخاوف إسرائيل المشتركة مع دول مجلس التعاون الخليجي بشأن التهديدات الإلكترونية الإيرانية محورية في تعاونها السيبراني، خلال هذا العام وحده، تم استهداف السعودية والإمارات مرتين بهجمات إلكترونية كبيرة، من قِبَلِ قراصنة مشتبه بهم تابعين لإيران، علاوةً على ذلك، تنشط إيران على جبهة التضليل، بإنشاء شبكة من المواقع الإلكترونية، والحسابات المستخدمة؛ لنشر معلومات كاذبة عن دول مجلس التعاون الخليجي وإسرائيل والولايات المتحدة، وكان من شأن ذلك، أنه في أعقاب (اتفاقيات إبراهيم)، شهد التعاون الاستخباراتي السيبراني الإماراتي الإسرائيلي تطورات كبيرة، وقد يشمل ذلك التعاون المزيد من الدول العربية في المستقبل.
في الخاتمة، على مدار العَقْدِ الأخير، كانت إسرائيل ترى أن إيران هي عدوها الأول في المنطقة؛ لذلك سخرت كافة أدواتها السياسية الصلبة والناعمة لمواجهتها، وفي ظل تعطل مفاوضات “فيينا” في شأن الملف النووي الإيراني، من الأرجح أن تستمر الحرب الخفية بين إسرائيل وإيران في الفضاء السيبراني، والذي انتقل إلى هجمات على البُنَى التحتية المدنية، والتي من شأنها التسبب في معاناة إنسانية داخل البلدين، أيضًا من الأرجح، استمرار تدخلات استخبارية عسكرية محددة في تعطيل، أو تدمير، أو إزاحة كل ما هو متعلق بالتطورات في المشروع النووي الإيراني من منشآت إلى أشخاص، من دون استبعاد تام لفرضية التدخل العسكري الشامل، عند تردي الوضع الأمني الإسرائيلي، سواء بطريقة مباشرة من إيران، أو غير مباشرة من وكلائها في (لبنان، سوريا، العراق و اليمن).
ولكن في النهاية، كلا البلدين يدركان بأن الدخول في مواجهة عسكرية بينهما هي “لعبة محصلتها صفر”؛ حيث إن توجيه ضربة عسكرية إلى طهران ستُقابل برد فعل وكلاء إيران في الدول المجاورة، وبالمثل، تخشى إيران من رد فعل حلفاء إسرائيل إذا وجهت إليها ضربات مماثلة، ويمكن القول: إن القدرات السيبرانية للبلدين من شأنها العمل أيضًا كرادع، حيث إن أي فعل يترتب عليه رد فعل، ولكن في الواقع، تُوجد فجوة واضحة في القدرات السيبرانية بين البلدين؛ حيث إن إيران في رد فعلها لم تكن بنفس المستوى؛ فلم تستطع مهاجمة البُنَى التحتية الإستراتيجية لإسرائيل، ولا يمكن مقارنة هجوم إلكتروني على موقع نووي أو بورصة طهران، بهجوم على مواقع صحيفة واجتماعية إسرائيلية، ويبقى الخيار الدبلوماسي مفتوحًا أمام إسرائيل، في محاولة لحشد دعم عربي؛ للإبقاء على عُزْلة إيران السياسية، ومجابهة نفوذها في المنطقة العربية.