أصدرت وزارة الدفاع التركية في سبتمبر 2025 بيانًا رسميًا وجّهت فيه تحذيرًا مباشرًا إلى قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مطالبةً إياها بالاندماج ضمن “الجيش السوري الجديد” والتخلّي عن أي ممارساتٍ تهدد وحدة البلاد، واعتبرت أن إخفاق قسد في تنفيذ التزاماتها المتعلقة بنزع السلاح والانخراط في مؤسسات الدولة يشكّل تهديدًا مزدوجًا لوحدة سوريا وللأمن القومي التركي، مؤكدةً استعداد أنقرة لتقديم مختلف أشكال الدعم لدمشق بما يخدم استقرارها الداخلي ويعزز أمن حدودها.
في هذا السياق، تبرز الشراكة الأمنية المحتملة بين أنقرة ودمشق كأحد أكثر الملفات الإقليميةِ تعقيدًا في المرحلة الراهنة، فبعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024 ودخول سوريا مرحلةً انتقاليةً، برزت تساؤلاتٌ كبرى حول شكل التوازنات الأمنية والسياسية المقبلة، ولا سيَّما مع استمرار نفوذ قسد في الشرق والشمال الشرقي. وتتقاطع مصالح الطرفين عند رفض قيام كيان كرديٍ مسلّحٍ مستقلٍ، غير أن تباينهما يظهر فيما يتعلق بآليات الدمج والتسوية.
الموقفان التركي والسوري من “قسد”:
تتفق كل من أنقرة ودمشق على النظر إلى قوات سوريا الديمقراطية (قسد) باعتبارها تهديدًا مباشرًا لمصالحهما الأمنية والسيادية، وإن انطلقت دوافعهما من اعتباراتٍ متباينةٍ، فتركيا ترى في قسد الامتداد التنظيمي والعسكري لحزب العمال الكردستاني (PKK) المحظور، وتُدرجها في خانة التنظيمات الإرهابية التي تمسُّ أمنها القومي بصورةٍ مباشرةٍ، وقد شدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على أن بلاده لن تسمح بقيام كيانٍ انفصاليٍ تديره «وحدات حماية الشعب» الكردية (YPG) – العمود الفقري لقسد – على حدودها الجنوبية، مشبهًا تهديدها بخطر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومتعهدًا بالقضاء على قياداتها، وفي سبيل ذلك نفذت أنقرة سلسلة من العمليات العسكرية عبر الحدود مثل “غصن الزيتون” (2018) و”نبع السلام” (2019)، التي أسفرت عن السيطرة على مناطق واسعة وإقامة “منطقة آمنة” بعمق يقارب 30 كيلومترًا داخل الأراضي السورية، بالتوازي مع ضغوطٍ دبلوماسيةٍ على واشنطن لوقْفِ دعمها العسكري واللوجستي لقسد، إلى جانب ذلك تستحضر أنقرة أبعادًا سياسيةً داخليةً، أبرزها إدارة ملف اللاجئين السوريين الذين يقدر عددهم بنحو 3.6 مليون داخل تركيا، حيث توظّف الحكومة هذا الملف في خطابها الانتخابي متعهدةً بإعادتهم إلى “مناطق آمنة”، ما يجعل التنسيق مع دمشق أداةً مزدوجةً لتحقيق الأمن الحدودي وتخفيف الضغوط الداخلية.
في المقابل، تنظر دمشق إلى قسد باعتبارها مشروعًا انفصاليًا يهدد وحدة الأراضي السورية ومركزية الدولة، وترفض بشكل قاطع التحالف الذي تقيمه مع الولايات المتحدة، معتبرةً إياه “احتلالًا غير مشروع” يستهدف اقتطاع مناطق غنية بالموارد في الشرق السوري، ولا سيَّما حقول النفط والغاز والأراضي الزراعية، وتُصر السلطة السورية على استعادة السيطرة الكاملة على تلك المناطق وإنهاء أي شكلٍ من أشكال الحكم الذاتي، كما ترى في تنامي قدرات قسد العسكرية بدعمٍ أمريكيٍ تهديدًا مضاعفًا، سواء عبر إمكان فرض أجندة تقسيمية أو من خلال تكريس ازدواجية السلطة داخل البلاد. ورغم تمسكها برفض اللامركزية، تلمّحُ دمشق إلى استعدادها لاستيعاب عناصر قسد ضمن الجيش النظامي شريطةَ حلّ تشكيلاتها العسكرية والإدارية، باعتبار الجيش المؤسسة الوطنية الجامعة لجميع السوريين.
دوافع أنقرة ودمشق نحو الشراكة الأمنية:
تكشف المقاربة المشتركة لكلٍ من أنقرة ودمشق تجاه قوات سوريا الديمقراطية (قسد) عن دوافع متشابكة، وإن اختلفت في أولوياتها، فإنها تتقاطعُ عند نقطةٍ مركزيةٍ تتمثّلُ في السعي إلى تقويض مشروع الإدارة الذاتية الكردية شمال وشرق سوريا. فمن منظور تركيا، تمثّل قسد الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني (PKK)، وهو ما يجعلُ أي كيانٍ مسلّحٍ متصلٍ بها تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي واستقرارها الداخلي، ومن ثَمَّ تركز أنقرة على إغلاق الثغرات الحدودية ومنع نشوء كيانٍ شبه دولتي شرق الفرات، إضافةً إلى توظيف الشراكة مع دمشق في إدارة ملف اللاجئين عبر تأمين “مناطق عودة آمنة” تخفف من الضغوط الاقتصادية والسياسية الداخلية، كما تنظر أنقرة إلى هذا التعاون كوسيلةٍ لتقليل الاحتكاك مع الولايات المتحدة عبر تقييد نفوذ قسد ضمن مؤسسات الدولة السورية في إطار تفاهماتٍ إقليميةٍ أوسع ربما تشملُ أطرافًا أخرى، فضلًا عن سعيها للحصول على نصيب وازن من فرص إعادة الإعمار، مستفيدة من موقعها الجغرافي وصلاتها الاقتصادية والاجتماعية بالشمال السوري.
أما دمشق، وبخاصةٍ السلطة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام الأسد، فترى في هذه الشراكة الأمنية مع أنقرة أداةً لتثبيت سيادتها وإعادة بسْطِ سلطتها على كامل التراب الوطني، فهي تنطلق من اعتباراتٍ تتعلق بتوحيد السلاح ومنع ازدواجية مراكز القرار، إذ يمثل وجود قسد كقوةٍ عسكريةٍ–إداريةٍ مستقلةٍ تقويضًا لمفهوم الدولة المركزية، ومن هنا تُعوّل دمشق على التعاون مع أنقرة لتسهيل دمْجِ هذه التشكيلات ضمن مؤسساتها الرسمية، وتجنّب مواجهة مباشرة بين تركيا وقسد قد تُرهق سوريا عسكريًا واقتصاديًا في مرحلةٍ انتقاليةٍ حرجةٍ، كما توظف دمشق هذا التعاون كورقة مقايضة للحصول على مرونة تركية في ملفات استراتيجية مثل إدارة المعابر الحدودية، وتنشيط التبادل التجاري، وضمان تدفق الموارد الحيوية، بما يعزز قدرتها على تجاوز التحديات الاقتصادية والسياسية الراهنة.
معوقات وعوامل كبح الشراكة الأمنية بين أنقرة ودمشق:
على الرغم من توافر دوافع قوية قد تدفع أنقرة ودمشق إلى بناءِ شراكةٍ أمنيةٍ في مواجهة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، إلا أن مسار هذه الشراكة يبقى محفوفًا بمجموعةٍ من العوائق والعوامل الكابحة التي تقلل من قابليته للتحقق العملي، ويمكن إبراز أبرزها فيما يلي:
1- الغموضُ التنفيذيُ في اتفاق دمشق–قسد: رغم الاتفاق الذي تم توقيعه بين دمشق وقسد، فإن مسار دمْجِ هياكل الأخيرة ضمن مؤسسات الدولة يسير ببطءٍ شديدٍ، فبرغم تأكيد قادة قسد وجود قنوات تواصل مع السلطات السورية، لم تُحرز أي خطواتٍ ملموسةٍ فيما يخص تشكيل اللجان المشتركة أو وضع آليات عملية للدمج المؤسسي، وهذا الجمودُ يعكس تحفظاتٍ متبادلةً من الطرفين، وربما مقاومة داخلية من هياكل قسد، وهو ما يتركُ مساحةً واسعةً للمناورة ويؤخر أي اصطفاف فعلي ضد الفصائل الكردية.
2- موقفُ الولايات المتحدة:يمثل الارتباط الأمني بين واشنطن وقسد أحد مرتكزات الاستراتيجية الأمريكية في سوريا، ولا سيَّما في ملف مكافحة تنظيم الدولة داعش”، وأي ترتيباتٍ تركية–سورية تستهدف تحييد قسد أو إعادة هيكلتها ستُربك التموضع العسكري الأمريكي شرق الفرات، من هذا المنطلق يُعدّ الموقف الأمريكي عائقًا رئيسيًا أمام الشراكة، إذ تنظر واشنطن إلى مثل هذا التعاون باعتباره تهديدًا لأحد أبرز شركائها المحليين، وربما خطوة تعزز من نفوذ موسكو وطهران على حسابها.
3- الاعتباراتُ الإنسانيةُ والقانونية: وثّقت منظماتٌ حقوقيةٌ دوليةٌ، مثل “هيومن رايتس ووتش”، أنماطًا من القصف الذي استهدف بنى مدنية خلال العمليات العسكرية التركية السابقة في شمال سوريا، وبالتالي فإن أي عملية مشتركة بين أنقرة ودمشق ضد قسد ستخضع لرقابةٍ دوليةٍ مشددةٍ، وقد تترتب عليها كلفة حقوقية وسياسية مرتفعة، سواء من خلال انتقاداتٍ أوروبيةٍ وأمميةٍ أو عبر تقليص فرص الحصول على دعمٍ ماليٍ وسياسيٍ لمرحلة إعادة الإعمار.
4- التوترات الداخلية السورية:تواجه السلطة الانتقالية في دمشق تحدياتٍ داخليةً متعددة، من بينها الاحتجاجات في الجنوب والتوترات مع المكوّن الدرزي، فضلًا عن ضغوط اقتصادية واجتماعية متفاقمة، وهذه التعقيداتُ قد تستنزف جهدها السياسي والعسكري، وتدفعها إلى تبنّي مقاربةٍ مترددةٍ في الشمال، أو إلى الدخول في مقايضاتٍ أمنيةٍ متعددة المسارات مع أطرافٍ إقليميةٍ أخرى، وهو ما يُضعف فرص بناء شراكة متماسكة ومستقرة مع أنقرة.
خلاصة القول:
تشير المؤشرات الراهنة إلى أن الشراكة الأمنية المحتملة بين أنقرة ودمشق لن تتطورَ في المدى القريب إلى تحالفٍ شاملٍ أو تسويةٍ نهائيةٍ، بل ستظلُ محكومةً بصيغ وظيفية ومرحلية تراعي توازنات القوى الإقليمية والدولية، فمع سقوط النظام السابق وانسحاب إيران من المشهد السوري، انفتحت الساحة أمام أنماطٍ جديدةٍ من الترتيبات الأمنية، غير أن هذه الترتيبات تصطدمُ بجملةٍ من القيود، أبرزها التحديات الداخلية التي تواجه السلطة الانتقالية.
في ضوء هذه التعقيدات، يمكن استشراف أربعة اتجاهات رئيسية: الأول، التنسيق الحدودي المحدود، وهو الأكثرُ ترجيحًا بحكم انخفاض تكلفته وقدرته على تحقيق مكاسب مباشرة في ضبط الحدود وتحييد التهديدات العاجلة، مما يتيح لدمشق الاستفادة من الضغوط التركية على قسد دون تقديمِ تنازلاتٍ سياسيةٍ كبرى، ويمنْحها مساحة لترتيب ملفاتها الداخلية. الثاني، إعادة هيكلة قسد ضمن مؤسسات الدولة السورية، وهو خيارٌ أكثر طموحًا لكنه مشروطٌ بتوافق غير متوافر في الوقت الراهن. الثالث، عمليةٌ عسكريةٌ مشتركة محدودة العمق، وهو سيناريو محفوفٌ بتَبِعات سياسية وقانونية، ويتوقف بدرجة كبيرة على الموقف الأمريكي. أما الرابع، فهو تفاهم “اللا حرب–اللا سلام”، حيث يستمر الجمود وتدار المناطق الكردية عبر ترتيبات أمنية غير معلنة، ما قد يشكل صيغة انتقالية طويلة الأمد.
وعليه، يبقى السيناريو الأكثر ترجيحًا هو استمرارُ التنسيق المحدود، الذي يتيح للطرفين إدارة التهديدات بصورةٍ موضعيةٍ دون الانخراط في ترتيباتٍ هيكليةٍ كبرى أو عملياتٍ واسعة النطاق، وهذا المسار قد يسهم في تقليص احتمالات التصعيد العسكري المباشر بين أنقرة ودمشق، ويوفر للسلطة الانتقالية هامشًا أكبر لتعزيز سيطرتها التدريجية على مؤسسات الدولة، لكنه في الوقت ذاته لن يعالج جذور الأزمة الكردية، ولن ينهي تداخل الأجندات الدولية في الساحة السورية.
كذلك ومن شأن هذا النمط أن يخففَ من توترات الحدود ويوفر بيئةً أكثر استقرارًا نسبيًا تسمح بفتح قنوات للتجارة وإعادة الإعمار، غير أنه لن يُحدث قطيعة مع حالة السيولة الأمنية التي طبعت المشهد السوري منذ عام 2011. وعليه، تبقى المعادلة الأرجح هي إدارةُ الأزمةِ بدلًا من حلِّها، بما يرسّخ نمطًا من الاستقرار الهشّ الذي يحدُّ من تفجّرِ الصراع لكنه يُبقي الباب مفتوحًا أمام تحولاتٍ كبرى قد تعيد رسْمَ خريطةِ الأمن الإقليمي في المستقبل.
