تُعد العناصرُ الأرضيةُ النادرة (Rare Earth Elements) مجموعة تضم 17 عنصراً معدنياً يمثّل كلٌ منها ركيزةً أساسيةً للصناعات الحديثة، من الإلكترونيات المتقدمة والاتصالات إلى المغانط الدائمة عالية الكفاءة، والبطاريات، والمحركات الكهربائية، وتوربينات الرياح. وقد تحولت هذه العناصر إلى مكوّنٍ محوريٍ في مسار التحول العالمي نحو الطاقة المتجددة والتكنولوجيا النظيفة؛ إذ يعتمد تصنيع المحركات الكهربائية المُستخدمة في المركبات الحديثة وتوربينات الرياح على معادن مثل النيوديميوم (Nd) والإيتربيوم (Yb)، فيما تُستخدم عناصر مثل السيريوم (Ce) واليوروبيوم (Eu) في صناعة المحفّزات والإضاءة المتطورة.
وتُهيمن الصين حالياً على ما بين 60–70% من عمليات استخراج وإنتاج هذه المعادن عالمياً، وهو ما يضعها في موقعٍ احتكاري يمنحها وزناً جيوتقنياً واضحاً في سلاسل القيمة الدولية، وقد دفع هذا الوضع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى اعتبار المعادن النادرة “ورقة استراتيجية” ضمن مصالحهما الصناعية والأمنية، فأطلقا مبادراتٍ مشتركةً – أبرزُها “شراكة أمن المعادن” لعام 2022 – لتأمين سلاسل توريد بديلة وتخفيف الاعتماد على بكين.
وفي هذا السياق، حَظِيَ الإعلان التركي عام 2022 عن اكتشاف احتياطاتٍ ضخمةٍ من عناصر الأرض النادرة باهتمامٍ دوليٍ لافتٍ، باعتباره تطوراً قادراً على إعادة رسْمِ خريطة المنافسة العالمية في هذا القطاع الحسّاس. ومن هنا، يسعى هذا التقرير إلى تقديم قراءةٍ لخلفيات هذا الاكتشاف، واستجلاء أبعاده الاقتصادية والتقنية والاستراتيجية، إضافةً إلى استشراف التوقّعات المستقبلية المرتبطة به.
الخلفية الجيولوجية لتركيا:
يتركز أبرز اكتشافات تركيا من معادن الأرض النادرة في منطقة بيليكوفا التابعة لمقاطعة إسكي الشهيرة بوسط الأناضول، وهي منطقةٌ تتسم بجيولوجيا شديدة التعقيد والتنوع، فالتكوينات الجيولوجية التركية تضم عُقيداتٍ جرانيتيةً وتراكيب كربوناتيتية بركانية تعود إلى ملايين السنين، وهي من البيئات الجيوكيميائية المعروفة عالمياً بتركّز عناصر الأرض النادرة (REE)، ويمثّل منجم بيليكوفا أحد أشهر هذه الرواسب في تركيا، حيث يقترب من حيث الخصائص المعدنية من منجمي بايان أوبو في الصين، وماونتن باس في الولايات المتحدة، وهما من أشهر مواقع المعادن النادرة في العالم.
وقد لعبتْ المسوحاتُ الواسعةُ التي أجرتها هيئة البحوث الجيولوجية التركية (MTA) وشركة إيتي مادن الحكومية دوراً محورياً في الكشف عن حجم هذا المورد. فعلى مدى سنوات، وتحديداً بين عامي 2011 و2017، قامت الفرق الاستكشافية بحفر أكثر من 125 ألف متر وجمْعِ ما يُقارب 59 ألف عينةً، وهو ما وفّر قاعدةَ بياناتٍ علمية مكّنت من تأكيد وجود احتياطيٍ ضخمٍ لمنطقة بيليكوفا.
وفي يوليو 2022، أعلن وزير الطاقة التركي أن الحقل يحتوي على نحو 694 مليون طن من الخام، ليصبح بذلك ثاني أكبر احتياطي معروفٍ للمعادن النادرة عالمياً بعد الحقول الصينية التي تُقدر احتياطاتها بحوالي 800 مليون طن، وأشار الوزير أيضاً إلى أن طبيعة الرواسب القريبة من سطح الأرض تُقلل من تكلفة الاستخراج مقارنةً بالحالات التي تتطلبُ عمليات حفر عميقة، فضلاً عن إمكانية استخراج نحو 10 عناصر نادرة من أصل 17 عنصراً معروفاً ضمن مجموعة الـREE.
ويعكس بوضوح اكتشاف “إسكي شهير” التنوع الجيولوجي التركي والإمكانات غير المُستغلة في باطن الأناضول، كما يُبرز أهميةَ توسيع نطاق المسوح الجيولوجية في مناطق أخرى من البلاد، إذ يُرجّح وجود حقولٍ إضافيةٍ يمكن أن تدعم طموح تركيا في التحول إلى لاعبٍ مؤثّرٍ في سوق المعادن النادرة خلال العقد القادم.
الأبعاد الاقتصادية:
يحمل اكتشاف الاحتياطي التركي الهائل من معادن الأرض النادرة إمكاناتٍ اقتصاديةً واسعةً قد تُعيد تشكيل ملامح الاقتصاد التركي خلال العقد المقبل، فالتقديرات الرسمية تشير إلى قدرة تركيا على إنتاج نحو عشرة آلاف طن من أكاسيد هذه المعادن سنوياً، ومعالجة ما يقارب 570 ألف طن من الخام، وهو ما يسمح لأنقرة بتلبية جزءٍ كبيرٍ من احتياجاتها الصناعية وتقليص اعتمادها على الواردات في قطاع يُعد أحد أعمدة الصناعات المتقدمة عالمياً، ويأتي هذا التطور في وقتٍ تتسابق فيه الدول الصناعية لإعادة تشكيل سلاسل توريد المعادن الحرجة بعيداً عن الهيمنة الصينية، ما يمنح تركيا نافذةً تاريخيةً للتموضع كلاعبٍ ناشئٍ في هذا المجال.
كما يمثّل المشروع فرصةً استثماريةً جاذبةً على المستويين الداخلي والخارجي، إذ تعمل الحكومة على إنشاء مجمّعٍ صناعيٍ متكامل في موقع الحقل، بما سيخلق آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، ويحول المنطقة إلى مركزٍ إنتاجيٍ قادرٍ على المنافسة إقليمياً ودولياً. ومع تطور البنية الصناعية ذات الصلة، يمكن للاقتصاد التركي أن يحقق مكاسب ملموسةً عبر تحسين ميزان المدفوعات، سواء عبر خفض فاتورة استيراد المعادن النادرة أو عبر تصدير منتجات ذات قيمة مضافة، على رأسها مغانط المحركات الكهربائية، وقطع التقنيات المتقدمة، ومكونات الصناعات الإلكترونية.
ولا يقتصر أثر الحقل على تطوير الصناعات التحويلية فحسب، بل يفتح المجال أمام تركيا لتنويع صادراتها الصناعية، وتعزيز مكانتها كمصدرٍ لمكوناتٍ حيويةٍ في الصناعات الخضراء، مثل المركبات الكهربائية وتوربينات الرياح، كما يهيئ المناخ لجذْب استثمارات من شركاتٍ عالمية ، خصوصاً الصينية والأمريكية العاملة في مجالات البطاريات والمركبات الكهربائية، التي تبحث عن مواقع آمنةٍ لتوطين أجزاء من سلاسل الإنتاج بعيداً عن المخاطر الجيوسياسية وتقلبات الأسواق.
ويتوازى المسار الاقتصادي للمشروع مع توجّهٍ واضحٍ لتعزيز القدرات الوطنية في البحث والتطوير؛ إذ تشير المشاريع الأوروبية الممولة بنحو 11 مليون يورو إلى دعمٍ متزايدٍ للبنية التحتية التركية في مجالات المعالجة المتقدمة وإعادة تدوير المعادن النادرة، الأمر الذي يُعزز من استقلالية تركيا التقنية وقدرتها على المنافسة في سلسلة القيمة العالمية لهذه المعادن، ومن المتوقّع أن يُسهمَ هذا الحقلُ في نشوء صناعاتٍ تحويليةٍ جديدةٍ داخل البلاد، مثل صناعة المغانط الدائمة المستخدمة في التطبيقات المدنية والدفاعية على حد سواء.
ورغم هذه الآفاق الواعدة، فإن تحقيق الاستفادة الكاملة من هذا الاكتشاف يتطلب استثماراتٍ ضخمةً في البنية التحتية الصناعية والنقل والطاقة، إلى جانب قدرةٍ عاليةٍ على التخطيط والإدارة، كما أن نجاح تركيا في التحول إلى مركزٍ رئيسيٍ للمعادن النادرة سيظل مرتبطاً بتقلبات الأسعار العالمية، وبمدى قدرتها على بناء سلسلة توريد متكاملةٍ تغطّي جميع مراحل الإنتاج، من التعدين مروراً بالمعالجة المتقدمة وصولاً إلى تصنيع المنتجات النهائية. ومع ذلك، يبقى الاكتشاف فرصةً استراتيجيةً قد تُمهد لمرحلةٍ جديدةٍ من تموضع تركيا في الاقتصاد العالمي، إذا ما استطاعت تحويل الاحتياطي الخام إلى قيمة اقتصادية وصناعية مستدامة.
الجانب الِتقَني:
تسير تركيا بخطىً متسارعةٍ نحو بناء قاعدة تِقنيةٍ قادرةٍ على دعم طموحها في قطاع المعادن النادرة، إدراكاً منها أن التفوق في هذا المجال لا يعتمد على توفّر الخام فحسب، بل على امتلاك قدرات معالجة وفصلٍ متقدمةٍ تُعد جوهر القيمة المضافة. وفي هذا الإطار، أنشأت شركة “إيتي مادن” الحكومية في عام 2023 مرفقاً تجريبياً صغيراً في بيليكوفا لمعالجة الخام المستخرج من الحقل الجديد. ويهدف هذا المرفق، وفق البيانات الرسمية، إلى معالجة نحو 1,200 طن سنوياً لاختبار تقنياتٍ أوليةٍ لاستخلاص سبعة عناصر نادرة، وهو ما يشكّل خطوةً تأسيسيةً ضروريةً قبل الانتقال إلى بناء مجمّعٍ صناعيٍ كامل.
غير أن التحدي الأبرز الذي تواجهه تركيا يكمن في تعقيدات فصل العناصر النادرة عن بعضها البعض؛ فهذه العناصر تتشارك في خصائص كيميائيةٍ متقاربةٍ وتتواجد داخل خاماتٍ متشابكةً، ما يجعل عمليات الفصل تعتمد على تقنياتٍ شديدة الحساسية مثل الاستخلاص بالمذيبات وعمليات التنقية متعددة المراحل. وتتمتع الصين بأسبقيةٍ هائلةٍ في هذا المضمار، إذ تسيطر على أكثر من 80% من القدرة العالمية على فصل وتكرير معادن الأرض النادرة، وهو تفوقٌ تِقنيٌ يجعل تركيا تسعى بجدّيةٍ نحو سدّ الفجوة عبر الاستفادة من الخبرات الدولية.
ومن هذا المنطلق، بدأت أنقرة في تشكيل شبكة واسعة من الشراكات التقنية مع شركات أجنبية؛ فقد وُقعت مذكرات تفاهم مع شركات صينية وغربية لتبادل الخبرات ونقل التكنولوجيا، وتستعد وفودٌ تركية لزيارة الصين والولايات المتحدة خلال العام لمناقشة آفاق التعاون في مجال تقنيات الاستخراج والفصل والمعالجة المتقدمة، كما انخرطت تركيا في عدد من المبادرات الدولية، إذ تدعم مشاريع أوروبية مجموعة من برامج البحث التركية التي تستهدف تطوير وحدات إعادة التدوير، وتحسين تقنيات المعالجة، واختبار إنتاج المغانط الدائمة القائمة على العناصر النادرة.
وفي الوقت ذاته، تعمل أنقرة على تسريع عملية تأسيس البنية الصناعية الكبرى المرتبطة بالحقل، حيث تشير البيانات الرسمية إلى أن الأساسَ الأولي للمصنع الصناعي الكامل سيُنجز قبل عام 2026، على أن تتوسّع الطاقةُ الإنتاجية في السنوات اللاحقة، ويُتوقع أنه في حال نجاح تركيا في نقل التكنولوجيا ورفع قدراتها الكيميائية والهندسية، ستتمكن من الانتقال تدريجياً من تصدير الخام إلى تصنيع الأكاسيد عالية النقاء وإنتاج مغانط تصديريةٍ تُستخدم في الصناعات المتقدمة، وهو تحولٌ استراتيجيٌ سيضعها ضمن الدول القليلة القادرة على المنافسة في سلاسل القيمة العالمية للمعادن النادرة.
ومع ذلك، تبقى هذه المرحلة التقنية من أكثر المراحل حساسية في المشروع كله؛ فهي تتطلب تراكم خبرات بشرية محلية، وبناء مختبرات ومنشآت معالجة معقدة، وتطوير وحدات ضبط الجودة، فضلاً عن الالتزام ببيئةٍ تنظيميةٍ وصناعيةٍ قادرةٍ على مواكبة المعايير العالمية، وبقدر نجاح تركيا في إحراز تقدّمٍ تِقنيٍ حقيقيٍ، بقدر ما ستقترب من التحول إلى لاعبٍ رئيسيٍ لا يكتفي باستخراج المعادن النادرة، بل يشارك في صناعة مستقبل التكنولوجيا العالمية نفسها.
الأبعاد السياسية والاستراتيجية:
أخذت أهمية المعادن النادرة تتجاوز إطارها الاقتصادي لتتحول إلى ورقةٍ جيوسياسيةٍ بالغة الحساسية في العلاقات الدولية، وبات التحكم في مصادرها جزءاً من أدوات النفوذ والمساومة الدبلوماسية بين القوى الكبرى. وفي هذا السياق، يضع اكتشاف الاحتياطيات الضخمة في تركيا أنقرة في موقعٍ جديدٍ ضمن معادلة التوازنات الدولية، إذ يُنظر إليها اليوم باعتبارها مصدراً محتملاً يمكن أن يوفّر بدائلَ استراتيجيةً للحلفاء الغربيين الباحثين عن تقليص اعتمادهم على الصين في المعادن الحساسة اللازمة للتكنولوجيا المتقدمة.
وقد شهدت العلاقات التركية–الأمريكية والأوروبية خلال السنوات الأخيرة زخماً متزايداً يعكس هذا البعد الجديد؛ ففي سبتمبر 2025، عقد الرئيسان التركي والأمريكي لقاءً في البيت الأبيض، تلاه نقاشٌ موسّعٌ حول فرص التعاون في تطوير حقول المعادن النادرة التركية، كما كشفت تقارير استخباراتيةٌ أميركيةٌ عن مساع واضحةٍ لواشنطن لتعزيز تأمين سلاسل التوريد بعيداً عن الهيمنة الصينية، الأمرُ الذي يجعل الحقول التركية خياراً مطروحاً ضمن البدائل الاستراتيجية. وعلى النهج ذاته، تتعامل الدول الأوروبية بقدرٍ كبيرٍ من الاهتمام مع الإمكانات التركية، بالنظر إلى ارتباط ذلك باستراتيجية الاتحاد الأوروبي للطاقة النظيفة ضمن مبادرة REPowerEU التي تشجع على تنويع مصادر المواد الخام الحرجة.
ورغم انفتاحها على الشراكات الغربية، تحرص تركيا على اتّباعِ سياسة توازن دقيقة بين الشرق والغرب، بما يحافظ على استقلالية قرارها الوطني، فهي من ناحيةٍ عضوٌ في “شراكة أمن المعادن” التي أطلقتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عام 2022، ومن ناحيةٍ أخرى تبقي قنوات التعاون مفتوحةً مع الصين ومجموعة بريكس، في إطار ما تُسمّيه في خطابها السياسي “توازن المنظورات”، وتُشير مصادر دولية إلى أن تركيا بدأت بالفعل محادثاتٍ مع الولايات المتحدة وكندا وسويسرا بشأن دراسات جدوى مشتركةٍ وإنشاء مرافق للمعالجة والتنقية داخل موقع الحقل، ما يعكس رغبتها في تأمين التكنولوجيا دون التورط في محاورَ جيوسياسيةٍ مغلقةٍ.
ويعزز هذا الاكتشاف مكانةَ تركيا المعنوية والسياسية في المفاوضات الدولية، إذ يمنحها قدرةً أكبر على المناورة داخل حلف الناتو، وعلى تجاوز صورتها التقليدية كلاعبٍ ثانويٍ في سوق المواد الخام، إلا أن هذا الدور الجديد يُرافقه أيضاً مستوى أعلى من التدقيق السياسي، سواء من قِبلِ الشركاء الغربيين الذين يطالبون بتطبيق معايير بيئيةٍ واجتماعيةٍ صارمةٍ، أو من قبل البرلمان والرأي العام التركي الذي يُراقب مسار الصفقات خشية أي تنازل عن السيادة الوطنية أو الموارد الاستراتيجية.
وتكشف المعطيات الراهنة عن أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي باتا ينظران إلى تركيا كمحورٍ محتملٍ في شبكة إمدادات المعادن الحساسة، فيما تؤكد أنقرة في المقابل أنها ستتعامل مع هذا الملف بقدرٍ كبيرٍ من الحذر، وأن تعاونها الدولي لن يتمَ على حساب استقلال قرارها وسيادتها على ثرواتها الطبيعية، وهكذا يتحولُ حقل المعادن النادرة من مشروعٍ اقتصاديٍ إلى ورقةٍ استراتيجيةٍ تُعيد رسْمَ موقع تركيا في النظام العالمي المتشكل.
الخاتمة والتوقّعات المستقبلية:
تشير معظم التقديرات إلى أن تركيا تقف اليوم أمام فرصةٍ تاريخيةٍ لإعادة صياغة موقعها في سوق المعادن النادرة، غير أن هذه الفرصة لا تزالُ بعيدةً عن أن تكون مسألةً محسومةً، فالاكتشاف في إسكي شهير يُعد من الأكبر عالميًا، ويضع تركيا نظريًا ضمن قائمة أبرز اللاعبين المحتملين في القطاع، إلا أن تحويل هذا المورد الهائل إلى قوةٍ اقتصاديةٍ واستراتيجيةٍ يتطلب سياساتٍ حكيمةً وجهودًا متكاملة على المستويات التقنية والمالية والسياسية، وتشير المؤشرات الحالية إلى أنه من المبكّر إصدارُ أحكامٍ نهائيةٍ حول مدى فعالية هذا الاكتشاف، فالمسافة لا تزالُ طويلةً أمام أنقرة لبناء الخبرة الصناعية المعقدة اللازمة للمعالجة المتقدمة، وهي المرحلة التي تحدد فعليًا القيمة الاقتصادية للعناصر النادرة.
ويُعد تطوير قدراتِ الفصل والمعالجة الركيزة الأساسية التي ستُحدد ما إذا كانت تركيا ستصبح طرفًا مؤثرًا في هذا السوق العالمي أم ستبقى مجرد دولة مُنتجة للخام، فبدون الاستثمار في التكنولوجيا المتخصصة، والالتزام بمعايير بيئية صارمة، واعتماد نُظم تصنيف مستقلة مثل معيار JORC الدولي لاحتساب الاحتياطات وضمان موثوقيتها، سيبقى التحول التركي في مهبّ الشك، كما ستظل ثقة المستثمرين محدودةً، فالمعادن النادرة ليست مجرد موردٍ طبيعيٍ، بل سلسلة قيمة معقدة تبدأ من الجيولوجيا وتنتهي بصناعات عالية التقنية مثل المغانط الدائمة والمحركات الكهربائية.
وفي ضوء هذه المعطيات، يبدو المستقبل مفتوحًا على سيناريوهين رئيسيين، فإما أن تنجحَ تركيا في بناء شراكاتٍ دوليةٍ ناضجةٍ تمكّنها من نقل التكنولوجيا وتحويل الخام إلى منتجاتٍ صناعيةٍ نهائيةٍ ذات قيمة عالية، وإما أن يبقى دورها محصورًا في تزويد السوق العالمي بخاماتٍ أوليةٍ تدخل في سلاسل توريد تسيطر عليها دول أخرى، ويعتمد هذا التمييز على قدرة تركيا على ضخِّ استثماراتٍ ضخمةٍ لتوسيع البنية الإنتاجية، وتعزيز البنية التحتية الداعمة، وتطبيق ضوابط بيئية واجتماعية تكسبها قبولًا محليًا ودوليًا، بما يجعل مشروع المعادن النادرة نموذجًا للتنمية المستدامة وليس مجرد مشروعٍ اقتصاديٍ مؤقت.
