لقد أثار فوْز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية مرَّةً أُخرى بعض التساؤلات؛ حول ما إذا كان ذلك سيُؤثِّرُ على ملف السد الإثيوبي، لا سيما وأنه لعب دورًا مِحْوَرِيًّا في مفاوضات ٢٠١٩ و٢٠٢٠، إلَّا أنه ومع إعلان الحكومة الإثيوبية اكتمال بناء السدِّ، قد يصبح أمام ترامب بعض العقبات؛ نظرًا لأن العالم خلال السنوات الأخيرة قد تغيَّر، وانقلبت موازين اللعبة السياسية في المنطقة رأسًا على عقب، لكن تبقى الفُرَص متاحةً بشكلٍ أو بآخر، خاصَّةً أن مصر والولايات المتحدة يتمتعان بعلاقاتٍ جيِّدةٍ، يمكن استثمارها في هذه المسألة.
فوز ترامب وملف السد الإثيوبي:
بعد فوْز دونالد ترامب برئاسة ثانية للولايات المتحدة الأمريكية، نجد أن ذلك ربما يدفع بمسار مفاوضات سدِّ النهضة نحو الحلحلة، بعدما انخرطت إدارته في فترته الرئاسية الأولى في هذا الملف الشائك، وسَعَتْ لتقريب وجهات النظر، ومحاولة التوصُّل لاتفاقٍ بين إثيوبيا ودولتيْ المصب “مصر، والسودان”، كما أنه لعب دورًا في الوصول بالمفاوضات التي انعقدت في واشنطن ٢٠٢٠، إلى مرحلةٍ متقدمةٍ، ولكن بالنظر إلى طبيعة المُتغيِّرات الدولية التي شهدتها السَّاحة منذ ٢٠٢٠، وتصاعُد حِدَّة التوتُّرات في المنطقة، فإن هناك بعض التحدِّيات التي يمكن أن تُشكِّلَ حَجَرَ عثْرةٍ أمام تحقيق تقدُّمٍ ملموسٍ في هذا الملف، ناهيك عن أن الموقف الإثيوبي من التدخُّل الأمريكي بات حَرِجًا بعد تجربتها السابقة مع إدارة ترامب، إضافةً إلى أن اكتمال بناء السَّدِّ أصبح أمرًا واقعًا، بجانب تغيُّر التوازنات الدولية؛ حيث ظهور فاعلين دوليِّين جُدُد في المنطقة، وبناءً على ذلك، فإن مسار الوساطة المحتملة قد لا تُؤْتِي ثمارَها، وتتمكن من إيجاد مخرجٍ أو حلٍّ وسطٍ لهذه الأزمة.[1]
الدور الأمريكي في ملف السد الإثيوبي:
لعبت الولايات المتحدة الأمريكية، لا سيما في حِقْبَة إدارة ترامب دورًا مُهمًا في ملف السد الإثيوبي؛ حيث عقد سلسلة من المباحثات برعايةٍ أمريكيةٍ بين الأطراف الثلاث، والتي تمَّت على الأراضي الأمريكية تارةً، والمصرية تارةً، وكذلك السودانية والإثيوبية تارةً أُخرى، بدأت منذ عام ٢٠١٩، حتى يناير ٢٠٢٠؛ حيث شَهِدَتْ العاصمة واشنطن جولةً، جمعت وزراء الخارجية والموارد المائية، في كُلٍّ من مصر والسودان وإثيوبيا، برعايةٍ أمريكيةٍ، ومشاركة البنك الدولي، أسفرت عن اتفاقٍ حول كيفية مَلْء السَّدِّ على مراحل، فضلًا عن الآليات والإجراءات التي يمكن اتباعها في حالات الجفاف والجفاف الممتد أثناء المَلْء والتشغيل.
كما تطرَّقُوا إلى ضرورة التوصُّل إلى اتفاقٍ، حول آلية تشغيل السدِّ في الظروف الهيدرولوجية العادية، وآلية التنسيق لمراقبة ومتابعة تنفيذ الاتفاق، وتبادل البيانات والمعلومات، وآلية فضِّ المنازعات، بجانب تناول موضوعات أمان السَّدِّ، وإتمام الدراسات الخاصة بالآثار البيئية والاجتماعية له، وكذا تكليف اللجان الفنية والقانونية، بمواصلة الاجتماعات في واشنطن؛ من أجل وضْع اللمسات الأخيرة للاتفاق، من خلال اجتماعٍ استقبلته واشنطن، بحضور وزراء الخارجية والموارد المائية بالدول الثلاث، يوميْ ١٢ و١٣ فبراير ٢٠٢٠؛ من أجل إقرار الصيغة النهائية للاتفاق؛ تمهيدًا لتوقيعه بنهاية فبراير ٢٠٢٠.
وفي فبراير ٢٠٢٠، انطلقت جوْلةٌ من المباحثات؛ للتشاور حول المسار النهائي لاتفاق مَلْء وتشغيل السَّدِّ، إلَّا أن إثيوبيا اتبعت سياستها المتعارف عليه؛ حيث المماطلة، فطلبت من الجانب الأمريكي تأجيل الجولة الأخيرة من المحادثات، كنا أنها تغيَّبت عن الاجتماع بشكلٍ غير مبررٍ، في حين أعلنت مصر عن توقيعها بالأحرف الأولى على الاتفاق الذي طرحته الولايات المتحدة؛ بما يؤكد جِديَّة الدولة المصرية وبُعْدها التَّام عن المراوغات والمماطلات التي تتبعها أديس أبابا، دون أدنى تقديرٍ لأيَّة جهودٍ بُذلت في هذا الصدد.[2]
اكتمال بناء السد:
في أواخر أكتوبر الماضي، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، عن اكتمال أعمال البناء في السد الإثيوبي بنسبة ١٠٠٪، مع الإشارة إلى أنه سيتمُّ تشغيل ٣ توربينات، ديسمبر المقبل؛ ليصل إجمالي التوربينات ٧ توربينات، إضافةً إلى بدْء العمل على حجْز ٩٠٠ مليون مترٍ مكعبٍ من المياه يوميًّا[3]، إلَّا أن الخبير المصري عباس شراقي، أشار إلى أن السَّدَّ لم يكتمل كهربائيًّا؛ حيث تمَّ تركيب ٤ توربينات فقط من إجمالي ١٣ توربين؛ أيْ يتبقَّى ٧٠٪ من التوربينات، وبما أن الهدف الرئيسي لبناء السَّدِّ هو إنتاج الكهرباء، بحسب ما تدعيه الحكومة الإثيوبية؛ فإنها ستستغرق عامًا على الأقلِّ، وربما عاميْن؛ لكي تتمكن من الحصول على الكهرباء منه، وبالتالي فإن الاكتمال الحقيقي يكون بتشغيل كافَّة التوربينات لا بالبناء الخرساني.[4]
وعليه؛ فإن هذه الخطوة قد تعرقل مسار التفاوُض، إلَّا أن الإدارة الأمريكية الجديدة قد تلجأ إلى أساليب مختلفة؛ للضغط على الحكومة الإثيوبية، فقد تستخدم سلاح المساعدات الإنسانية؛ حيث تحجيمها أو منعها، إضافةً إلى فرْض عقوبات عليها؛ نظرًا لانتهاكها القوانين الدولية، وتهديد الاستقرار في المنطقة، بعد إقدامها على عقْد اتفاقٍ مع إقليم أرض الصومال الانفصالي، والتعدِّي على سيادة مقديشو، هذا بخلاف الفوضى الأمنية الداخلية، والتي أجَّجتها ميليشيا فانو، والتي جاءت كنتيجةٍ لما أَقَدَمَ عليه آبي أحمد مع “صومالي لاند”، ومن هذا المنطلق، فإن إدارة ترامب إذا ما عزمت عن الانغماس في هذا الملف ثانيةً؛ فستجد الخيارات متاحةً للتعامُل مع حكومة آبي أحمد.
سيناريوهات محتملة:
إنَّ ما يمكن أن يحكم مسار الوساطة الأمريكية المرتقبة، قد يستند على الحيادية، وتقديم حلول تضمن المصالح المشتركة لكافَّة الأطراف، مع عدم المساس بالحِصَصِ التاريخية لدولتيْ المصب، وعليه؛ وجب تقديم بعض الرُّؤَى ومسارات التحرُّك الأمريكية المحتملة بعد تولِّي ترامب رئاسة البلاد مرَّةً أُخرى.
السيناريو الأول:
نجاح جهود الوساطة الأمريكية: قد تؤول الجهود الأمريكية في ملف السَّدِّ الإثيوبي نحْو تحقيق تقدُّمٍ ملموسٍ في هذه الأزمة، عبْر تقديم ضمانات دولية لتنفيذ أيِّ اتفاقٍ يتمُّ التوصُّل إليه، وتوظيف نفوذها السياسي والاقتصادي؛ لممارسة الضغط على الأطراف المعنيَّة، إضافةً إلى تنسيق الجهود مع الاتحاد الأفريقي والمبعوث الأممي للمياه، ودعْم الدول الثلاث اقتصاديًّا وتنمويًّا، وهذا السيناريو يحتمل تحقُّقه حال عزوف الجانب الإثيوبي عن تعنُّته، إلَّا أن هذا المسار يفتقد القدرة على التحقُّق على أرض الواقع بشكلٍ كبيرٍ؛ نظرًا لاكتمال بناء السَّدِّ، وإصرار إثيوبيا على مواقفها، ولكن قد تتمكن إدارة ترامب من إقناع الحكومة الإثيوبية، بضرورة الجلوس على طاولة المفاوضات مرَّةً أُخرى، والاتفاق على مسار المرحلة القادمة؛ بما يضمن حقوق مصر والسودان في مياه النيل.
السيناريو الثاني:
تعثُّر المسار التفاوضي الأمريكي: هذا السيناريو هو الأقرب للواقع؛ نظرًا للمتغيِّرات التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة، لا سيما في القرن الأفريقي، وزيادة التشابُكات الدولية والإقليمية، علاوةً على وصول المفاوضات بين إثيوبيا ومصر والسودان إلى طريقٍ مسدودٍ، بعد إصرار أديس أبابا على موقفها، وتعمُّدها إفشال المفاوضات التي عُقدت أكثر من مرَّةٍ، حتى وصل الأمر إلى اكتمال بناء السَّدِّ دون تشاوُرٍ أو تنسيقٍ مع دول المصب، ولكن ربما تأتي إدارة ترامب بجديدٍ، بعد إشارة بعض الخبراء إلى أن إدارته هذه المرَّة ستكون مختلفةً عن سابقتها.
السيناريو الثالث:
عدم فتْح فصْلٍ جديدٍ من المفاوضات: قد لا تُولِي إدارة ترامب أهميةً لهذا الملف، بخاصَّةٍ وأن الحكومة الإثيوبية تغيَّبت عن المحادثات التي رعتها الولايات المتحدة ٢٠٢٠، كما أنها مازالت تتبع أساليب المراوغة والمماطلة، وبالتالي لن يكون هناك دوافع تجعل الجانب الأمريكي ينغمسُ في مثل هذا المسار، هذا بالإضافة إلى أن السَّاحة الدولية تشهد تغيُّرات جِذْرِيَّة، سواء فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ومسار حرب غزة، أو غيرها من القضايا الدولية، ومن ثمَّ، فقد ينصبُّ الاهتمام الأمريكي على هذه الأحداث والعزوف عمَّا يحدث في قضية السَّدِّ الإثيوبي، وهذا السيناريو إن كان يحمل في طيَّاته مُبرِّرات حدوثه، فإن مآلات الأمور قد تدفع إلى تغيير مساره، في عالمٍ أصبح يُصوِّبُ دفَّتَه نحْو أفريقيا، فضلًا عن إعادة التموْضع الأمريكي في القارة.
ختامًا:
تشهدُ القارةُ الأفريقيةُ حالةً من التكالُب الدولي المُكثَّف، وتشابُك الأطراف الدولية، مع إعادة تموْضع الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، وبالتالي فقد يعمل البيت الأبيض بإدارته الجديدة على لعب دور الوسيط في ملف السد الإثيوبي، والتأثير بشكلٍ أو بآخر على هذه الأزمة، فقد تستثمر واشنطن المساعدات الإنسانية والإغداق على أديس أبابا؛ كسبيلٍ للضغط عليها؛ لإحداث نوعٍ من التوافُق وتناغُم المصالح مع دولتيْ المصبِّ، فمن ناحيةٍ، تعمل إثيوبيا على تحقيق أهدافها التنموية، التي لطالما ادَّعت بناء السَّدِّ من أجلها، ومن ناحيةٍ أُخرى، الحفاظ على حقوق مصر والسودان في مياه نهر النيل.
المصادر:
[1] مي عبد المنعم، بعد عودة ترامب للبيت الأبيض.. هل تشهد مفاوضات سد النهضة حلحلة، العربية، نوفمبر ٢٠٢٤، متاح على الرابط الآتي: https://n9.cl/2l9orz
