إعداد: أحمد محمد فهمى
باحث متخصص فى الشؤون التركية والإقليمية
بعد إطلاق حركات المقاومة الفلسطينية لعملية “طوفان الأقصى” فى السابع من أكتوبر الماضى، وبروز تداعياتها اللاحقة، والتى تتمثل فى الهجوم الغربى على تلك العملية العسكرية والاصطفاف خلف الدعاية الإسرائيلية، مع الترويج لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” بوصفها حركة إرهابية، وتبرير استخدام إسرائيل لجميع الوسائل اللازمة لحماية نفسها، توجهت الأنظار باتجاه تركيا، التى تُعَدُّ واحدة من أكبر الداعمين للقضية الفلسطينية فى المنطقة.
فتركيا، خلال جولات التصعيد السابقة، سواءً فى قطاع غزة أو فى بعض مسارات القضية الفلسطينية، كانت تتخذ مواقف متسقة إلى حد كبير مع تطلعات الشعب الفلسطينى، وكانت نتيجة لتلك المواقف وقوع تدهور كبير فى العلاقات التركية الإسرائيلية. ومع ذلك، وفى سياق الحرب الحالية فى قطاع غزة، كانت ردود الفعل الأولية الصادرة عن أنقرة يمكن وصفها بأنها هادئة وحيادية إلى حد كبير.
فقد دعا الرئيس التركى رجب طيب أردوغان الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء إلى ضبط النفس وتجنب الخطوات التى قد تؤدى إلى تصعيد التوتر، مشددًا على رفض أى تعرض لأى شخص بريء سواء فى الأراضى الإسرائيلية أو الفلسطينية.
كما أعرب أثناء اتصالات هاتفية مع نظيريه الفلسطينى محمود عباس والإسرائيلى إسحاق هرتسوغ، عن حزنه العميق لمقتل مدنيين، معربًا عن استعداد تركيا لبذل قصارى جهدها لإنهاء الاشتباكات وضمان الهدوء فى أقرب وقت، وأعلن أن تركيا مستعدة لكافة أشكال الوساطة، بما فى ذلك تبادل الأسرى، فى حال طلب الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى ذلك.
ولكن، وكنتيجة لتطورات الأوضاع اللاحقة، حدثت تغييرات فى الموقف الرسمى التركى تجاه الحرب فى غزة، ورغم أن هذه التغييرات قد لا تكون على المستوى المأمول لمناصرى القضية الفلسطينية، إلا أنها، فى جوهرها، تشير إلى الاختبار الأول والصعب الذى تواجهه رؤية “قرن تركيا”، فتركيا تحتاج إلى تجاوز هذا الاختبار بنجاح، خاصةً فى ظل التحديات والضغوط المستمرة أمام متطلبات الداخل التركى ودورها فى المنطقة، بالإضافة إلى محددات سياستها الخارجية الطموحة، والتى تهدف من خلالها القيادة التركية إلى عدم العودة إلى الوراء وتجنب ارتكاب أخطاء سياسات الماضى.
محددات الموقف الرسمى فى مراحله الأولى
فى البداية، تُعتبر الحرب الجارية حاليًا فى قطاع غزة اختبارًا أوليًا للوعود الانتخابية التى أعلن عنها الرئيس رجب طيب أردوغان فى نوفمبر 2022، كبداية لحملته الانتخابية، وذلك خلال الاحتفال بالذكرى الـ 99 لتأسيس الجمهورية التركية، وتتناول إحدى مرتكزات تلك الوعود طرح رؤية جديدة ومستقبلية للجمهورية التركية تُسمى “قرن تركيا”، والتى حملت فى أحد طياتها مسارات جديدة وطموحة للسياسة الخارجية التركية. ويمكن اختصار أهداف السياسة الخارجية فى هذه الإستراتيجية الجديدة بالعمل على تشكيل الظروف اللازمة لتحقيق السلام والاستقرار والازدهار فى المنطقة، وبالفعل استطاعت تركيا فى إطار هذه الرؤية إعادة هيكلة سياستها الخارجية وإصلاح علاقاتها مع دول المنطقة، لا سيما إسرائيل.
وبعد أن شنت حركات المقاومة الفلسطينية عمليتها العسكرية، التى أطلق عليها “طوفان الأقصى”، فُوجئ المتابعون والمنتظرون للموقف الرسمى التركى بأن ردود فعله خلال الأيام الأولى كانت هادئة ودبلوماسية بشكل كبير، ويمكن وصفها بأنها كانت محايدة أيضًا، ويظهر ذلك جليًا فى التصريحات والخطابات الرسمية، وكذلك فى نتائج وبيانات الاتصالات الهاتفية التى أجراها كل من الرئيس التركى أردوغان ووزير خارجيته هاكان فيدان. وقد تم تفسير هذه الردود من قبل المؤيدين لخط المقاومة، سواء فى الداخل التركى أو خارجه، على أنها دون المأمول، خاصة عند مقارنتها بردود الفعل الرسمية فى جولات التصعيد السابقة وفى عدة محطات تصعيدية ذات صلة بالقضية الفلسطينية.
ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال المصطلحات التى استخدمتها تركيا فى البيانات الرسمية المتعلقة ببدايات وتطورات الأزمة، ففى أول بيان للرئيس التركى فى السابع من أكتوبر، دعا جميع الأطراف إلى “ضبط النفس”، كما أصدرت وزارة الخارجية التركية، بيانا رسميا، عبرت من خلاله عن قلقها إزاء أعمال “العنف والتوتر” فى إسرائيل وفلسطين، لكن وعلى الرغم من نمط هذا الموقف الجديد والهادئ، إلا أن المواقف الرسمية لا تزال لها بعض الثوابت المستمرة، والتى يمكن توضيحها كالتالى:
- إن الأعمال العسكرية لحركات المقاومة الفلسطينية تم وصفها بأنها مقاومة وليس إرهابًا كما يتم الترويج له فى الخطاب الغربى.
- التنديد بالتصعيد الإسرائيلى تجاه غزة مع الإشارة إلى أسبابه الجوهرية حول الأسباب العميقة للصراع وأسبابه التى تعود إلى السياسات الإسرائيلية.
- الدعوة إلى وقف التصعيد مع الرجوع إلى قرارات مجلس الأمن وحل الدولتين والعودة إلى حدود 1967 كحل للصراع الإسرائيلى الفلسطينى.
ويمكن استنباط خلفيات ومحددات المواقف الرسمية التركية فى مراحلها الأولى إلى جملة من الأسباب، وهى كالتالى:
- تأكيد إثبات جدية السياسة التركية الجديدة نحو خفض التصعيد وترسيخ السلام فى المنطقة، وفقًا لرؤية “قرن تركيا”، التى بدأت أنقرة فى تنفيذها منذ سنوات من خلال التصالح وإعادة العلاقات مع دول المنطقة، بما فى ذلك إسرائيل، وهنا يبرز الموقف التركى الواضح بأنها لا ترغب فى العودة إلى الوراء نهائيًا، وإلى مرحلة سياساتها التصعيدية السابقة والتى أدخلتها لمرحلة من الحصار والعزل فى المنطقة، بجانب قلقها من خسارة مكاسبها الدبلوماسية التى استطاعت كسبها خلال مرحلة إصلاح علاقاتها مع إسرائيل.
- عدم التسرع فى اتخاذ رد فعل تصعيدى انتظارًا لمؤشرات إقليمية ودولية حول مستقبل الأزمة الحالية، خاصة أنه فى جولات تصعيدية سابقة فى قطاع غزة، كانت تتم تسوية الأزمة عن طريق الوساطة سريعًا، أو استمرار التصعيد لعدة أيام ثم يليه مرحلة وقف إطلاق النار.
- تجنب إغضاب الولايات المتحدة، خاصة بعد التفاهمات الأخيرة بخصوص بيع مقاتلات F-16 لأنقرة، ورغبة تركيا على استكمال برنامجها التسليحى. بالتالى، فهى لا ترغب فى الدخول فى توترات فى علاقتها مع أمريكا، والتى قد تكون لها تداعيات عميقة على السياسات التركية، وخاصة فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية.
- بسبب ردود الفعل الإسرائيلية المتسارعة حول إعلان “حالة الحرب” وما تلا ذلك من تأييد دولى للتحركات الإسرائيلية، أصبح هناك حذر وقلق تركى من السيناريوهات المستقبلية حول احتمالية توسع الصراع فى المنطقة وخروجه عن السيطرة. وبالتالى، كانت تتريث فى ردود فعلها حتى يتضح المشهد بشكل كبير، وتبحث فى إمكانية مدى قدرتها على تقديم حل لاحتواء الأزمة، مثل ترويجها للقيام بالوساطة بين الطرفين.
مرحلة الترويج للوساطة
إن تركيا، فى مرحلة “العثمانية الجديدة” والتى تبحث فى كل أزمة على كيفية تحقيق مكاسب لها، كمواقفها ذات البُعد الجماهيرى والعاطفى تجاه مراحل التصعيد فى قطاع غزة بهدف كسب الشعوب العربية والإسلامية، هى الآن ذاتها تركيا فى مرحلة “قرن تركيا” التى تبحث عن مصالحها فى الأزمة الحالية. وأهم ما يمكن الإشارة إليه فى هذه المرحلة هو ردود فعلها الهادئة والدبلوماسية التى تعتقد أنها ستجعلها مؤهلة للقيام بدور الوساطة بين الطرفين لتحقيق مكاسب ذاتية، إذ ترى تركيا وفقًا لإستراتيجيتها الجديدة أن الأزمات تمثل فرصًا لتحقيق تطلعاتها الريادية فى المنطقة، وذلك بعد فشل تحقيق هذا الهدف من خلال “العثمانية الجديدة”، لتأتى مرحلة “قرن تركيا” لتشكل مسارًا جديدًا لتحقيق هذه التطلعات، خاصة مع النظر إلى المكاسب الإستراتيجية التى استطاعت تركيا حصدها جراء الوساطة فى الحرب الروسية الأوكرانية، والتى يمكن تلخيصها فى نجاحها على اثبات مدى جدارتها فى إحداث حلحلة فى الأزمات المتعلقة بتطورات الحرب فى أوكرانيا كأزمة الحبوب والغاز وتبادل الأسرى وغيرها، وهنا كان التطلع التركى للقيام بدور الوساطة فى الأزمة الحالية يدفعه مؤشران مهمان، وهما:
فى ضوء التوجه الأمريكى نحو المسرح الآسيوى وكذلك نحو مواجهة تداعيات الحرب الروسية فى أوكرانيا وتركيزها على محاصرة روسيا والصين، ومع تخفيف وجودها فى منطقة الشرق الأوسط، رأت تركيا أن لديها القدرة على المشاركة مع دول المنطقة الكبرى كمصر والسعودية لقيادة المنطقة.
وهذا يعتبر من أبرز دوافعها لتقديم مشروع وساطة لحل الأزمة الحالية. لذلك، يعطى هذا تفسيرًا لأحد جوانب الزيارة التى قام بها وزير الخارجية التركى هاكان فيدان إلى القاهرة فى 13 و14 أكتوبر. فخلال الزيارة، أجرى لقاءات مع الرئيس عبد الفتاح السيسى ووزير الخارجية سامح شكرى والأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط لبحث تطورات الأوضاع فى غزة بشكل عام، لكن فيدان فى تصريحاته خلال الزيارة أشار فى مجملها إلى أن الموقف التركى متطابق مع الموقف المصرى بصفتهم يمثلان ثقلًا إستراتيجيًا فى إفريقيا والعالم العربى والمنطقة والبحر المتوسط، متطرقًا إلى أهمية التعاون الوثيق بين البلدين فى البحر المتوسط لتحقيق الأمن والاستقرار فى منطقة حوض المتوسط، موضحًا أن تركيا ومصر تتقاسمان الأدوار فى دعم القضية الفلسطينية وأن الاتفاق المصرى التركى يرتكز على ضرورة حل الأزمة عبر حل الدولتين. بالتالى، يمكن قراءة هذه التصريحات بأنها تعبر عن رغبة تركية بأن يكون تحركها تجاه الحرب الدائرة حاليًا فى غزة مشتركًا مع الدول البارزة فى المنطقة كمصر، وليس منفردًا على غرار المواقف السابقة.
أيضًا، رأت تركيا أن علاقاتها مع إسرائيل والتى تحسنت فى الفترة الأخيرة قد يدفعها لتلعب هذا الدور، وهذا إلى جانب علاقاتها الطيبة مع حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، وذلك على الرغم من خروج تقارير إعلامية سابقة أشارت إلى طلب أنقرة لقادة حماس، الذين كانوا على أراضيها فى بداية عملية “طوفان الأقصى” بمغادرة البلاد، ورغم نفى أنقرة لتلك التقارير، لكن ومع افتراض صحتها، فإن وجود وساطة تركية قد تحقق مكاسب سياسية لحماس، فإن الحركة سوف تقبلها خاصة مع النظر إلى العلاقات المتميزة بين تركيا وقطر واحتضان الأخيرة للقيادة السياسية للحركة فى عاصمتها الدوحة.
لكن لاحقًا وفى خضم تطورات الأوضاع، فشلت الجهود التركية فى طرح مشروع وساطة، لأنه وبالنظر إلى المؤشرين السابقين، فإن أنقرة رأت أن دورها فى موضوع طرح مشروع وساطة سيكون مكملًا وليس أساسيًا. بالتالى، رأت من الضرورى التنسيق مع القاهرة والدوحة، لكن الأخيرتين لم تستطيعا طرح أدوار وساطة إلا فى نطاق دورهما فى إطلاق عدد من الأسرى لدى الجانب الفلسطينى، ويعود ذلك إلى عدة أسباب، أبرزها هو الرفض الأمريكى الواضح والقاطع لوقف إطلاق النار إلا بعد القضاء على حركة “حماس”، إضافة إلى الدعم الغربى لإسرائيل فى مكافحة ما تعتبره “الحركات الإرهابية” فى قطاع غزة، كذلك ترويج مبادرات لحل الأزمة على حساب مصر والأردن والتى تهدف بالنهاية الى تصفية القضية الفلسطينية.
بجانب أن تركيا رأت أن دفع الولايات المتحدة لقواتها فى المنطقة واستنفارها لردع أى محاولات للاعتداء على إسرائيل، فإنه يمثل إعلانًا عن عودة أمريكية قوية لمسرحها فى الشرق الأوسط، وأنها سوف تضع سيناريوهات الحل انطلاقًا من مسؤوليتها الأمنية تجاه إسرائيل والمنطقة.
تحول الموقف الرسمى: من التروى إلى التصاعد
هناك عدد من العوامل التى ساهمت فى تحول الموقف الرسمى التركى، أبرزها هو القصف الإسرائيلى للمستشفى الأهلى المعمدانى، الذى أسفر عن سقوط المئات من الشهداء، وقد تسبب هذا الحادث فى حالة غضب واسع فى الداخل التركى، دفعت المتظاهرين إلى الخروج إلى الشوارع، منها تظاهرة أمام القنصلية الإسرائيلية فى إسطنبول ضمت أكثر من 80 ألف شخص، مطالبين بمعاقبة إسرائيل على جرائمها، كما طالبت القيادة التركية باتخاذ قرارات تصعيدية ضد إسرائيل.
وبالتالى، شكلت هذه التحركات نقطة هامة فى تحول الموقف الرسمى التركى، حيث تحول من مرحلة الدبلوماسية والتروى فى اتخاذ ردود فعل قوية، إلى اتخاذ إجراءات تصاعدية تجاه العدوان الإسرائيلى على غزة، منها إعلان الرئيس التركى رجب طيب أردوغان إلغاء كل خططه لزيارة إسرائيل وأنها دولة “إرهابية”، لكن وعلى الرغم من أن هذه الإجراءات كانت تصاعدية بعض الشيء، إلا أنها لم تصل إلى حد التصعيد الكامل والقطيعة مع إسرائيل كما حدث فى حروب سابقة فى غزة، ويمكن توضيح الأسباب التى تقف وراء تحول الموقف الرسمى إلى التالى:
- ازدواجية المعايير للسياسات الغربية تجاه القضية الفلسطينية بشكل عام والمقاومة الفلسطينية بشكل خاص، خاصة مع “شيطنة” المقاومة وتحمليها أسباب الأزمة وتطوراتها، فى المقابل، تبرز إظهار كافة أنواع التضامن مع إسرائيل وحقها فى اتخاذ حق الردع الذى يحفظ أمنها وسلامه مواطنيها.
- التصعيد الأمريكى بإرسال قواته إلى المنطقة، الأمر الذى قد ينذر باشتعال المنطقة خاصة فى حالة تنفيذ تهديدات أذرع إيران فى كلا من لبنان والعراق واليمن بالتدخل لمواجهة إسرائيل، وهو ما قدر يدفع أمريكا للرد عسكريًا على تلك التهديدات فى حالة تنفيذها، مما سيكون له تداعياته الخطيرة على دول المنطقة، بما فى ذلك تركيا.
- ترويج سيناريوهات لحل الأزمة الحالية والقضية الفلسطينية، بتخطيط إسرائيلى مع دعم أمريكى لها، والتى تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية عن طريق تهجير فلسطينى الضفة إلى الأردن وفلسطينى غزة إلى مصر، وهو ما رفضته تركيا بشكل قاطع وأعربت عن تضامنها مع دول المنطقة للوقوف أمام تلك السيناريوهات.
- هناك شعور تركى بالمسؤولية الإقليمية تجاه القضية الفلسطينية، نظرًا للبعد الإسلامى للقضية وتأثيراتها على أهداف وسياسات حزب العدالة والتنمية الحاكم، كما نظرت تركيا باهتمام نحو قلق شعوب المنطقة العربية والإسلامية من المكاسب الإسرائيلية من عمليات التطبيع مع بعض دول المنطقة كالإمارات والبحرين، وكذلك تركيا. وهو ما تم تفسيره بأن الموقف التركى كان هادئًا ليتناغم مع خطابات دول الخليج المطبعة، وقد تم تفسير ذلك من قبل شعوب المنطقة بأنه انتصار لإسرائيل ولسياستها فى المنطقة وأنه تم التضحية بالقضية الفلسطينية، بالتالى جاء التحول فى الموقف التركى من ضمن أهدافه للرد على هذه التفسيرات خاصة فى ظل التصعيد الغير مسبوق الذى يشهده قطاع غزة.
- الضغط الشعبى التركى الداخلى، الذى تجسد فى خروج تظاهرات ووقفات تندد بالتصعيد الإسرائيلى تجاه قطاع غزة، إلى جانب حملات شعبية لمقاطعة المنتجات والشركات الغربية، خاصة الداعمة لإسرائيل، ويأتى هذا بالتزامن مع الموقف الحزبى والنخبوى لشركاء الحزب الحاكم، وكذلك لبعض أبرز أحزاب المعارضة التركية والذى يمكن توضيحه فى التالى:
- موقف حزب الحركة القومية التركية دولت بهتشلى، وهو الحزب الشريك للحزب الحاكم فى تحالف الشعب الحاكم، حيث دعا فى حالة عدم التواصل إلى اتفاق حول وقف لإطلاق النار فى غزة ووقف العدوان، بأنه يجب على تركيا التدخل فورًا والقيام بكل ما يلزم وفقًا لمسؤوليتها التاريخية والإنسانية والدينية، مضيفًا أن الهجمات الوحشية التى وصلت إلى مستوى الإبادة الجماعية قد تجاوزت بالفعل حدود الصبر والتسامح.
- خطاب بعض أحزاب المعارضة، سواء من التيار المحافظ كأحزاب المستقبل والسعادة، واللذان ركزا على خطاب عمل فى إحدى جوانبه على جذب القاعدة المحافظة للأتراك، وهو ما شكل تهديدًا لجماهيرية الحزب الحاكم، وأيضًا الأحزاب القومية مثل حزب الجيد، والذى فى بداية تعليقه على الأحداث هاجم عملية “طوفان الأقصى” وحركة حماس، ولكن لاحقًا حدث تحول فى الموقف بسبب المجازر الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطينى.
وهنا يمكن القول إن هناك تأثرًا من القيادة الرسمية بالمواقف الشعبية الرافضة بقوة للمجازر الإسرائيلية، لكن استطاعت القيادة التركية أن تعمل من جهة، على تحقيق بعض آمال التطلعات الشعبية، وفعلت ذلك عن طريق استدعاء سفيرها للتشاور من إسرائيل، حيث أوضحت فى بيان رسمى لوزارة الخارجية أن أسباب الاستدعاء تعود إلى عدم استجابة الجانب الإسرائيلى لمطالب وقف إطلاق النار ومواصلة هجماته على المدنيين، ورفض إسرائيل دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة بشكل دائم ومتواصل.
ويشار إلى أن السفيرة الإسرائيلية “إيريت ليليان” كان قد تم سحبها مسبقًا من أنقرة خوفًا من استهداف الغاضبين للإسرائيليين بسبب الصراع فى غزة. ومن جهة أخرى، لم تعود أنقرة إلى مرحلة القطيعة مع إسرائيل.
أما فيما يتعلق بالمواقف الحزبية، فقد وضع أردوغان فى اعتباره أهمية عدم ترك الساحة خالية للأحزاب المعارضة، وخاصة الأحزاب المحافظة، لاستغلال الأوضاع الحالية لجذب أصوات الناخبين لصالحها فى ظل اقتراب انعقاد الانتخابات المحلية فى مارس المقبل، ولا يمكن تجاهل أيضًا أن أردوغان سعى لاستغلال موقف الرئيس الجديد لحزب الشعب الجمهورى أوزغور أوزيل، الداعم لإسرائيل، لكسب جزء من أصوات المؤيدين له، خاصة فى ولايتى إسطنبول وأنقرة التى يسيطر عليها حزب الشعب الجمهورى.
بالتالى، جاءت دعوة حزب العدالة والتنمية لتنظيم فعالية “تجمع فلسطين الكبير” فى مطار أتاتورك الدولى فى ولاية إسطنبول فى 28 أكتوبر الماضى بهدف لفت الانتباه إلى الوحشية الإسرائيلية ودعم القضية الفلسطينية، كذلك يُمكن وصف هذا التحرك أيضًا بأنه جاء لتفريغ الطاقات للغضب الشعبى الداخلى خاصة بين المؤيدين للحزب الحاكم وللمؤيدين للقضية الفلسطينية، حيث شارك فى هذه الفاعلية نحو مليون ونصف المليون شخص، كما تُعتبر هذه الفعالية عاملًا بارزًا فى الاستشهاد بتحول الموقف الرسمى تجاه التصاعد، حيث أطلق من خلالها الرئيس أردوغان تصريحات قوية، مُعلنًا بأن بلاده ستعلن للعالم أجمع أن إسرائيل مجرمة حرب، وأن الغرب هو أكبر مسؤول عن المذبحة فى غزة، كما أضاف أيضًا أن ما يحدث فى غزة ليس دفاعًا بل مجزرة واضحة ودنيئة، مشيرًا إلى أن إسرائيل تسعى للقضاء على سكان غزة بشكل جماعى عن طريق التجويع والعطش وتدمير خدماتهم الصحية.
وختامًا
يمكن استخلاص الموقف الرسمى التركى من الحرب فى غزة، فى تصريح الرئيس أردوغان بأن “نتنياهو” لم يعد شخصًا يمكن التحدث معه، لكنه أضاف أن أنقرة لن تقطع علاقاتها مع إسرائيل أيضًا. وهذا ما يظهر قدرة تركيا على التكيف مع التحديات والتغيرات فى المنطقة بشكل يعكس حرصها على تحقيق التوازن بين الضغوط الداخلية مع مراعاة التوازنات الإقليمية، كما تجاوزت تركيا ذلك لتقديم نفسها كوسيط محتمل وملتزم بدور إنهاء الاشتباكات وضمان الاستقرار فى المنطقة.
كما يظهر بوضوح بأن المظاهرات الشعبية والضغط الداخلى للتنديد بالتصعيد الإسرائيلى كان لهما دور كبير فى توجيه التحول فى الموقف التركى، وقد استجابت القيادة الرسمية لتلك المطالب، واستخدمت وسائل دبلوماسية متعددة، بدءًا من استدعاء السفير وصولاً إلى دعوة لتنظيم فعاليات داعمة لفلسطين، لكن من دون أن تصل تلك التحولات إلى حد القطيعة الكاملة مع إسرائيل، وهو ما يظهر أن تركيا أصبحت تتحلى بحنكة فى التعامل مع التوترات الإقليمية، وكيف أن التحول فى الموقف التركى ليس مجرد استجابة لأحداث محددة، وإنما يعكس توازنًا دقيقًا بين الضغوط الداخلية والتحديات الإقليمية، كما يظهر أيضًا أن تركيا تسعى إلى الحفاظ على دورها الإقليمى والعالمى بوصفها لاعبًا فعّالًا فى قضية الشرق الأوسط، مع الحرص على تحقيق التوازن بين الاستنكار والتعاون الدولى.