إعـــداد: مــيــار هـــانـــى
الـــمــقـــدمــة:
يسود اعتقاد لدى تيار واسع من الأفراد بوجود علاقات عدائية بين إيران وحركة طالبان الأفغانية، وذلك باعتبار أن لإيران تاريخًا طويلًا من الخلافات الأيديولوجية والتنافس السياسى مع حركة طالبان، إلا العلاقات بينهما شهدت تغيرًا كبيرًا من العداء إلى الصداقة وفقًا لمصالح متبادلة، وعليه، تسعى هذه الورقة إلى تسليط الضوء على خلفية العلاقات بين إيران وحركة طالبان، وأسباب تحول مسار العلاقات، مع محاولة استشراف مستقبل هذه العلاقات، وذلك على النحو التالى:
مــســار الــعــلاقــات بــيــن إيــران وطــالــبــان
مع اكتمال انسحاب القوات السوفيتية من أفغانستان تنفيذًا لاتفاق جنيف فى عام 1992، وسقوط نظام “محمد نجيب الله” على يد الحركات والأحزاب الإسلامية، تصارعت الأخيرة على السلطة لمدة سنوات، وفى تلك الأثناء، نشأت الحركة الإسلامية المعروفة باسم “طالبان” فى ولاية “قندهار”، جنوب غرب أفغانستان، على يد “الملا محمد عمر مجاهد”، الذى أعلن طلبة المدارس الدينية مبايعتهم له أميرًا لطالبان عام 1994، وأعلنت الحركة أن هدفها هو إعادة أجواء الاستقرار والأمن إلى أفغانستان والقضاء على مظاهر الفساد الأخلاقى.
تـــأزم الــعـــلاقـــات
أخذت العلاقة بين إيران وحركة طالبان صورة نمطية متمثلة بالعدائية الشديدة، وذلك كون الأخيرة، من الناحية الأيديولوجية، حركة إسلامية سنّية تتغلف بغلاف “جهادى” على حدود دولة يهيمن عليها الشيعة، ومن الناحية السياسية، ارتبطت طالبان بعلاقات قوية مع تنظيم القاعدة واتسمت بتقاربها من منافسيها الإقليميين المتمثلين فى باكستان والمملكة العربية السعودية، وعليه رأت إيران فى الحركة خطرًا متناميًا لا يمكن غض الطرف عنه.
فمع نشوب صراع بين طالبان والقوات الحكومية الموالية للرئيس “برهان الدين ربانى” ونائبه “أحمد شاه مسعود” الذى كان وزيرًا للدفاع حينها، تحركت إيران على خطين متوازيين: أحدهما التأييد العسكرى للحكومة الأفغانية بقيادة “أحمد شاه مسعود”، والآخر العمل الدبلوماسى لتشكيل حكومة جديدة تمثل جميع القوى السياسية الأفغانية، بما فيها “حزب وحدت” (حزب الوحدة الإسلامى) المدعوم من إيران.
وفى عام 1997، اتهمت طالبان إيران بتجاوز التأييد السياسى لخصومها إلى تسليحهم، وكانت ذروة المواجهة استيلاء الحركة على القنصلية العامة لإيران فى مدينة “مزار الشريف” الأفغانية فى أغسطس 1998، وقيامها بقتل تسعة دبلوماسيين إيرانيين وصحافى فى وكالة الأنباء الإيرانية.
كانت تلك الحادثة بمثابة دليل صريح على توجهات الحركة بشأن التعامل مع النظام الإيرانى، وارتفعت الأصوات من جانب سياسيين فى طهران بضرورة مواجهة حركة طالبان عسكريًا، وعلى الرغم من موافقة المجلس الأعلى للأمن القومى الإيرانى فى ذلك الوقت، إلا أنه تم رفض قرار الحرب من قِبل المرشد الأعلى “على خامنئى”، ورأى الرئيس الإيرانى “محمد خاتمى” أن مثل تلك المواجهة من شأنها أن تكون باهظة التكلفة وعواقبها غير مأمونة، باعتبار أنها غالبًا ما كانت ستتخذ شكل حرب عصابات.
وفى أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001، وشن القوات الأمريكية والبريطانية حربًا ضد طالبان والقاعدة فى أفغانستان، رأت إيران الفرصة سانحة لضرب حركة طالبان وإسقاط حكومتها، إذ لعبت دورًا بارزًا فى التحالف الأمريكى البريطانى، وذلك من خلال توفير ما لديها من معلومات استخبارية عن المواقع الحصينة لطالبان فى أفغانستان، فضلًا عن المشاركة على الأرض من خلال تشكيل جيش من الشيعة الهزارة الأفغان وقوات تحالف الشمال للسيطرة على العاصمة الأفغانية “كابول”.
دعـــم مــنــضــبــط لــطــالــبــان
ويمكننا القول إن ترحيب إيران بالتدخل العسكرى الأمريكى بأفغانستان كان يندرج فى إطار مشروع “خاتمى” للتقارب مع الغرب من خلال تعزيز المصالحة فى التعاطى معه بدلًا من الأيديولوجية، إلا أن خطوات “خاتمى” لم تقابل بخطوات أمريكية مشابهة، فلم تتعاون إدارة “جورج بوش” الابن مع إيران فى مزيد من القضايا والملفات، فضلًا عن تصنيف إدارة “بوش الابن” إيران ضمن ما أسمته “محور الشر” الذى ضم حينها العراق وكوريا الشمالية وطالبان، وبالتالى شهدت العلاقات الإيرانية الأمريكية مزيدًا من التوترات، خصوصًا مع وصول الرئيس المحافظ “محمود أحمدى نجاد” إلى الحكم خلفًا لـ”خاتمى”، وسعى الحكومات الإيرانية المتلاحقة نحو تحالفات ومواءمات بين القوى المناهضة لواشنطن، وعلية حدثت استدارة فى العلاقة بين إيران وحركة طالبان، وبعبارة أكثر وضوحًا، انتهجت إيران سياسة ثنائية الاتجاه نتيجة للمنافسة شديدة التوتر بين إيران والولايات المتحدة فى الشرق الأوسط، فضلًا إلى جملة من الأسباب التى سنتناولها فى السطور القادمة، فقد أدى النظام الإيرانى لعبة مزدوجة، إذ دعم الحكومة المركزية فى “كابول” فى السنوات الأخيرة من ناحية، وسعى لإقامة علاقات وثيقة مع أعدائها بشكل مدروس سرًا، أى مقاتلى حركة طالبان، من ناحية أخرى.
إذ تم فتح قنوات اتصال مع طالبان، وتوفير ملجأً لعدد كبير من قادة ومقاتلى الحركة بعد أن واجهوا صعوبة فى الذهاب إلى باكستان، ولم يقتصر التحول فى العلاقات إلى تقديم المأوى فقط، بل تعدّى ذلك ليصل إلى تقديم الدعم العسكرى، إذ تم توجيه العديد من الاتهامات إلى إيران من قِبل أطراف إقليمية ودولية بتقديم مساعدات مالية وعسكرية، بما فى ذلك التدريب العسكرى للحركة، ووفقًا لتقرير البنتاغون عام 2014، مد الحرس الثورى الإيرانى الحركة بالدعم العسكرى منذ عام 2007 على الأقل، وفى مارس 2011، اكتشفتِ القوات الخاصة البريطانية فى أفغانستان أن إيران كانت تقدم أسلحة إلى حركة طالبان، بما فى ذلك قذائف عيار 122 ملم، بالإضافة إلى التدريب والتمويل.
وتُجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من ذلك، كان الدعم العسكرى الإيرانى المقدم لطالبان يسعى للحفاظ على النفوذ الإيرانى، وتحقيق أهدافه ومصالحه من دون تقوية طالبان لدرجة تمكنها من تغيير التوازن الإستراتيجى والعودة إلى السلطة فى أفغانستان.
كما لم يُسهم، توصّل إيران والولايات المتحدة إلى اتفاق نووى فى عام 2015، فى تخفيف من حدة القلق والمخاوف الإيرانية حول التواجد الأمريكى فى أفغانستان، بل على النقيض من ذلك، إذ اشارت التقارير الإخبارية فى عام 2015 إلى زيادة مستويات تحويل إيران الأسلحة والمال إلى طالبان.
ويعود أول اعتراف رسمى بالتقارب بين إيران وطالبان إلى أواخر عام 2018، عندما أعلن أمين مجلس الأمن القومى الإيرانى، “على شمخانى”، خلال زيارته لأفغانستان، عن إجراء بلاده لمحادثات مع طالبان لأول مرة، وجاء الإعلان الرسمى فى توقيت تستهدف فيه الإدارة الأمريكية، بقيادة الرئيس السابق “دونالد ترامب”، النفوذ الإيرانى فى المنطقة، وعليه أقدمت إيران على تلك الخطوة لتأكيد امتلاكها العديد من الأوراق لمواجهة الولايات المتحدة.
كما أزالت إيران صفة الإرهابية عن طالبان من أدبياتها الرسمية، وفى المقابل لذلك، كان للمتحدث الرسمى لحركة طالبان، “ذبيح الله مجاهد” تصريحات لافتة فى يناير 2019، إذ أكد أن إيران تُعدّ البيت الثانى للأفغان.
مُــحــفــزات الــتعــاون بين طـــالــبــان وإيـــران
يعد أحد المُحفزات الرئيسية لتقارب الطرفين، هو وجود الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها “عدو مشترك”، إلى جانب عدد من المُحفزات الأخرى التى كان يخفيها الطرفان سابقًا، نتيجة للبراغماتية التى كانت طاغية على مشهد العلاقة بينهم، وذلك على النحو التالى:
مــصــالــح مـــتـــبـــادلــــة:
ساهمت المصالح المتبادلة فى تحقيق تقارب بين طالبان وإيران، فطالبان بحاجة إلى الدعم بالمال وبالسلاح باعتبارها حركة سياسة ذات جناح عسكرى، كما يرى النظام الإيرانى أن استمراريته تتوقف على إظهار مزيد من القوة للتصدى فى وجه الولايات المتحدة، وإخراج قواتها من أفغانستان والعراق والمنطقة بالكامل، بما فيها الدول الخليجية، وعليه، وضعت طهران أى ضغينةٍ تاريخية جانبًا من أجل مواجهة الغرب، خاصة الولايات المتحدة، ووطد المسؤولون الإيرانيون علاقاتهم مع العديد من قيادات الحركة ذوى النفوذ، لاستنزاف القوات الغربية فى أفغانستان ومنع السيطرة السياسية عليها، بما فى ذلك الحدود مع إيران، وبالتالى كان دعم طالبان أولوية للحرس الثورى الإيرانى، ومنح طهران أوراقًا مختلفة لاستخدامها كلما تساومت مع الغرب بشأن ملفات وقضايا مختلفة.
مــكـــافـــحــة “تــنــظــيــم الــدولــة الإســلامــيــة – ولايــة خــراســان”:
مع تمدد تنظيم داعش إلى أفغانستان عقب الإعلان الرسمى عن وجوده فى يناير 2015، جمعت طهران وطالبان رغبة واحدة مشتركة ألا وهى مواجهة تنظيم داعش، الأمر الذى مثل لإيران مصدرَ قلقٍ حقيقى، وفرصةً فى آن واحد؛ فمن ناحية، وفرت إيران الدعم اللازم للحركة، ونجحت طالبان من احتواء داعش فى عدد قليل من المقاطعات الشرقية فى أفغانستان، وهى (كونار، ننجرهار، ونورستان)، وجميعها تقع على الحدود مع باكستان؛ ومن ناحية أخرى، أتاحت للإيرانيين تدفقًا مستمرًا من المعلومات الاستخباراتية من غرب أفغانستان.
حيث تتخوف طهران من أن تتحول أفغانستان لملاذ آمن للتنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم داعش، بما يشكل تهديدًا مباشرًا على أمنها القومى، وعليه، دأبت إيران على توطيد علاقاتها مع حركة طالبان، لإعطاء نفسها ثقلًا نوعيًا جديدًا لمنافسة الثقل الذى أصبح يحظى به تنظيم داعش بعد أن امتد نفوذه للأراضى الأفغانية.
ومن الجدير بالذكر أن التنظيم قد نفذ هجمات فى السابق استهدفت الشيعة ومساجدهم فى أفغانستان، إذ أعلن التنظيم مسؤوليته عن تفجير مسجد “بيبى فاطمة” للشيعة فى “قندهار” جنوب البلاد، والذى أسفر عن مقتل 61 شخصًا على الأقل، وذلك بعد أسبوع فقط من هجوم على مسجد آخر للشيعة فى “خان آباد” بولاية قندوز فى شمال أفغانستان، أودى بحياة أكثر من 120 شخصًا.
تــشــديــد الــرقــابــة الــبــاكــســتــانــيــة عــلــى حــركـــة طــالــبان
فرضت باكستان، التى تتمتع بعلاقات إستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية، القيود على أعضاء حركة طالبان المتواجدين داخل أراضيها على مدار السنوات الماضية، رغبةً فى جعل الحركة خاضعة لقراراتها، فضلًا عن استخدامها كورقة ضغط على الحكومة فى أفغانستان من أجل تحقيق مصالحها.
وعليه، يتوقع اتجاه الحركة لتقليل ارتباطاتها الموجودة داخل باكستان والتوجه لإيران نتيجة للرقابة المشددة على أعضائها، وقد أتضح ذلك أثناء إجراء قوات الناتو مقابلات مع مسجونى الحركة من القادة والمقاتلين، إذ أعرب العديد منهم عن عدم ثقتهم بإسلام آباد، مشيرين إلى أن أى فرد من أفراد التنظيم يحجم عن التعاون مع السلطات فى باكستان كان يتم اعتقاله على الفور، وبالتالى، سعت الحركة للبحث عن متنفس لها بخلاف باكستان.
نــُـــــدرة الـــمـــيــاه
أقامت أفغانستان، التى تعد منبع لأنهار تجرى فى إيران وتحديدًا نهر “هلمند”، السدود لتوفير احتياجاتها من الطاقة وعمليات الرى، وعلى الرغم من توقيعهما معاهدة تقاسم المياه فى عام 1973، إلا أنها تنص على ثبات حصة إيران من نهر “هلمند”، ولا يجوز تجاوز الكمية المحددة فى المعاهدة، حتى لو زادت الكميات المتاحة من المياه فى النهر بالمستقبل، لذلك، تسعى طهران للحصول على أكبر حصّة من إمدادات المياه من أفغانستان، فقد أبدت مخاوفها من مشاريع يتم تطويرها فى غرب وجنوب أفغانستان، ومنها مشروع سدّ “سلمى” بمحافظة هيرات، والذى يتم إنشاؤه بتمويل هندى لتوليد الطاقة الكهرومائية، والذى من الممكن أن يقلل من تدفُّق المياه إلى إيران، وعليه، تستغل إيران علاقتها مع طالبان لاستهداف مشاريع المياه، إذ اتهم بعض الحكام الإداريين فى المحافظات الغربية والجنوبية الأفغانية إيران باستخدامها طالبان كأداة لاستهداف مشاريع المياه نيابة عنها، وبالتالى الحصول على حصة أكبر من المياه، وذلك وفقًا لموقع “صوت أمريكا”.
الــخــاتــمــة:
شهدت العلاقة بين إيران وحركة طالبان تحولًا كليًا، لتنتقل من مرحلة التصادم والعداء المستفحل إلى التعاون متعدد الأوجه وفقًا للمتغيرات السياسية الإقليمية والمصالح المتبادلة بين الطرفين، ولم يقتصر التقارب بينهم على التقارب الأيديولوجى فحسب المتمثل فى عدائهما المشترك للولايات المتحدة الأمريكية، بل طال ليشمل عددًا من المجالات الأخرى كالاقتصادية والأمنية والسياسية.
وتُشكل المصالح الإيرانية فى أفغانستان ركيزة رئيسية فى سياساتها فى التعامل مع الملف الأفغانى؛ إذ سعت بشكل مستمر للحيلولة دون تمركز أى قوة إقليمية أو دولية فى الأراضى الأفغانية، وبالتالى استخدامها كأداة للإضرار بمصالح إيران وتقويض استقرارها، كما حرصت على المحافظة على مصالحها الحيوية، والتى تشمل ضمان تحقيق الاستقرار فى أفغانستان، أحد أولويات السياسات الإيرانية بعد هزيمة الولايات المتحدة هناك وسيطرة طالبان على السلطة فى أغسطس 2021، فغياب نظام مستقر لجارتها الشرقية سيكون له عواقب وخيمة على الأمن والاقتصاد بالنسبة لطهران، إلى جانب تأمين حدودها الغربية الممتدة لأكثر من 900 كيلومتر، ومنع الحركات الانفصالية المناوئة لإيران من تنفيذ عمليات عبر هذه الحدود، بالإضافة إلى التصدى للتهديدات من قِبل التنظيمات الإرهابية بالتنسيق مع طالبان، ومكافحة تهريب المخدرات، والحفاظ على تدفق المياه من الجانب الأفغانى، فضلًا عن التعامل مع الأقلية الشيعية دون اضطهاد أو تمييز.
وأخيرًا، يمكننا توصيف العلاقة بين إيران وطالبان باعتبارها أشبه بخلطة مصالح معقدة، يتوقف تثبيتها والبناء عليها على عاملين، أولها: مدى قدرة الحركة على الحفاظ على المطلب الأمنى لإيران، والثانى: مدى إمكانية أن تقدم إيران للحركة ما تحتاجه اقتصاديًا؛ فإن مصالح طهران فى أفغانستان تملى عليها الاحتفاظ بعلاقات جيدة والتى من المرجح أن تكون القوة المهيمنة فى المرحلة القادمة.