مروة سماحة حشيش
المقدمة
تُعَد تركيا بمثابة أبرز القوى «الإقليمية، والإستراتيجية» المؤثِرة في الشرق الأوسط، فضلًا عن كونِها محطَّ أنظار وترقُّب الجانبيْن: «الدولي، والإقليمي»؛ نظرًا لدورها الرائد في تشكيل خارطة علاقات الشرق الأوسط وتحالفاته السياسية، بجانب سياستها الخارجيه في المنطقة، التي تمثِّل حجر الزاوية، وموقعها «الجيوستراتيجي، والتاريخي» الذي كان عاملًا جوهريًّا في تطلُّعها في العقديْن الآخريْن؛ لتكون دولة مركز، بدلًا من دولة جبهة.
وقد شهدت تركيا خلال العقديْن الماضييْن انعطافًا في أدوات السياسة الخارجية الخاصة بها إزاء الشرق الأوسط ودول الجوار، من إستراتيجية القوة الناعمة، المتمثلة في «سياسة تصفير المشاكل، والعُمْق الإستراتيجي»، التي وضعها وزير الخارجية التركي، محمد داود أوغلو، وانتهجها حزب «التنمية والعدالة»، عندما أمسك بمقاليد الحكم، عام 2002، إلى إستراتيجية القوة الصلبة، المتمحورة حول التدخلات العسكرية، واقتحام المشاكل، تزامنًا مع ثورات «الربيع العربي»، وما نتج عنها من توترات إقليمية، وفي الآونة الأخيرة، تتجه تركيا لتبنِّي «سياسة المصالحة الإقليمية، وتصفير الخلافات» مرةً أُخرى، بعدما أصبحت في مَعْزلٍ دوليًّا، إِثْر علاقاتها المُتَزمِّتة مع جيرانها الإقليميين.
وفي هذه الورقة البحثية، سيتم التطرُّق إلى دراسة عملية التحوُّل في السياسة الخارجية التركية، وأبرز المتغيرات التي أثَّرت على هذا التحوُّل.
أولًا: صعود حزب «التنمية والعدالة» والتحوُّل نحو سياسة القوة الناعمة «٢٠٠٢: ٢٠١١»
عقب عام ٢٠٠٢، نجحت تركيا بقيادة حزب «التنمية والعدالة» بشكلٍ واسعٍ في توظيف القوة الناعمة، كأداةٍ لسياستها الخارجية، واتباع نهج «صفر مشاكل مع الدول»، ولاسيما «الشرق الأوسط»؛ لتحقيق مصالحها «الإقليمية، والدولية»، وكان لهذا التحوُّل في سياسة تركيا الخارجية دوافع شتَّى، لعل أبرزها، رغبة تركيا على تعزيز عُمْقها الإستراتيجي على الصعيديْن «الإقليمي، والدولي».
وتزامنًا لتلك الحقبة، فقد كانت المناطق المجاورة لتركيا، تشهد العديد من التوترات، التي ازدادت حدَّتُها، لا سيما بعد حرب العراق، ٢٠٠٣، والسعي لتفعيل مشروع القرن الأمريكي الجديد، مٍنْ قِبَلِ إدارة «بوش الابن»، علاوةً على ذلك، ما شهده النظام الدولي من انشقاق العالم إلى شِقَّيْن، حِيَال مسألة الحرب على الإرهاب، والذي شكّل متغيِّرًا أمام تركيا؛ للعمل على توظيف مقوماتها «السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، والتاريخية»؛ لبناء وتحقيق مساعيها القومية، وتكون نموذجًا يُقْتَدَى به في منطقة «الشرق الأوسط»، ويحظى بدعمٍ أمريكيٍ كبيرٍ.
وفي هذا الإطار، نسجت تركيا شبكةً وطيدة من العلاقات الدولية، وظفرت بقبولٍ واسعٍ في منطقة «الشرق الأوسط»، وكان لجذور «الحزب الإسلامي الحاكم» دوْرٌ بارزٌ في كسْب ثقة «الدول العربية، وإيران»، وليس هذا فقط، بل وظَّفت تركيا إمكانياتها الثقافية، المتبلورة في إرثها الإسلامي، وعُمْقها الحضاري المتداخل مع العالم العربي، في تعزيز علاقاتها مع الدول العربية، وتأدية دوْر الجسر الحضاري بين «الغرب، والعالم العربي الإسلامي» على نحْوٍ يُعزِّز من مكانة تركيا «إقليميًّا، ودوليًّا»، وانطلاقًا من تلك الرغبة، أطلقت تركيا مشروع تحالف الحضارات، ٢٠٠٥؛ لإزالة الشكوك والملابسات المتعلقة بالتاريخ التركي، ومن جانبٍ آخرٍ، أطلقت المنتدى «التركي – العربي»؛ بهدف ترسيخ التعاون «التركي – العربي» على مستوى كافة الأصعدة.
وفي نفس الصدد، انتهجت تركيا دور الوساطة الحيادية في النزاعات، وبرزت كقوة دبلوماسية ذات ثقل، وهذا الدور تجلَّى بوضوح، حِيَال النزاعات «السورية – الإسرائيلية»، ٢٠٠٤، والمفاوضات «الفلسطينية – الإسرائيلية»، والبرنامج النووي الإيراني، ٢٠١٠، وقد ترتَّب على هذا؛ ظفْر تركيا بثقةٍ وقبولٍ على المستوييْن «الدولي، والإقليمي».
علاوةً على ذلك، عملت تركيا على تعزيز التعاون الاقتصادي بينها وبين «الشرق الأوسط»، واعتبرته خطوةً مهمةً؛ ليَعُمَّ السلام والأمن بالمنطقة، فوقَّعت تقريبًا «٦٠» اتفاقيةً مع سوريا، و«٤٨» اتفاقيةً مع العراق، وفي هذا المقام، تجْدُر الإشارة، بأن تركيا ألغت قيود تأشيرة الدخول مع ثمانٍ من دول الجوار، وكان لتلك السياسة أثرٌ ملموسٌ على تسارُع نمو الاقتصاد التركي، والذي يؤكد ذلك، مؤشرات نمو الاقتصاد التركي، إبَّان الفترة «٢٠٠٢: ٢٠١١»، التي يعكسها الشكل (أ).
الشكل (أ) : مؤشرات النمو التركي( ٢٠٠٢: ٢٠١١)
ثانيًا: التحوُّل من تصفير الخلافات إلى اقتحام المشاكل «الحزب نفسه، الدولة نفسها، ولكن السياسة تغيَّرت» – «2012:2021»
كان لثورات «الربيع العربي» تداعيات جيوسياسية لا تحصى على الأمن الإقليمي، وتصاعد حدَّة التوترات في المنطقة، وكان لمناخ عدم الاستقرار السائد في المنطقة، العامل الأكبر في تحوُّل أداة السياسة الخارجية التركية من إستراتيجية القوة الناعمة إلى القوة الصلبة، سنة 2012؛ نتيجةً لتعرض أمنها الإقليمي للتهديدات؛ بسبب الأوضاع آنذاك، وللحفاظ على ما أحرزته سياسة القوة الناعمة من ثقل وعمق إستراتيجي، وتحوَّلت تركيا إلى منطقة استقطاب.
وتأسيسًا على ذلك، تَمَثل خيار القوة الصلبة لتركيا من خلال شنِّ عمليات عسكرية محدودة في الجوار الحدودي لتركيا، كما هو الحال في عملية «درع الفرات»، وعملية «غصن الذيتون»، علاوةً على ذلك، نشْر القوات التركية في عددٍ من الدول والمناطق المجاورة لتركيا، وبناء أذرُع عسكرية وتدريبها وتسليحها، بما يخدم المصلحة التركية.
وإبَّان ذاك التحوُّل، كانت السياسة الخارجية التركية موضع لُغْزٍ بالنسبة للعالم أجمع، وتتخذ مسلكًا تصارُعيًّا صِداميًّا، ويتبلور ذلك، من خلال «تصاعُد الخلافات، والمناخ التزمُّتي مع الدول الصديقة والجارة»، فقد تصاعدت شدة الصراع بين كل من «تركيا، والولايات المتحدة الأمريكية» إلى درجة تواتر الدعوات لطردها من حلف شمال الأطلسي، فضلًا عن ذلك، لم يسلم جيرانها الإقليميين في «الشرق الأوسط» من تلك السياسة الصِدامية، فهم في صراعٍ مع «روسيا، وإيران»، بحكم تعارُض المصالح، فهم في حربٍ مفتوحةٍ مع كلٍّ من «سوريا، وليبيا»، فضلًا عن تهديدات تركيا لليونان وابتزازها، وباتت العلاقات «التركية – المصرية» على حافَّة الهاوية، بعد اقتلاع «الإخوان المسلمين» من الحكم.
وفي هذا السياق، تجْدُر الإشارة، إلى أن سياسة تركيا الخارجية الجديدة شنَّت حملات صدامية بشكلٍ مُكَثَّف على دول الخليج، فبالنسبة للسعودية، فإن مجال الصراع بينها وبين تركيا تاريخي وقديم الأزل، وليس بشيءٍ مُسْتَحْدَثٍ، وازدادت حِدَّتُه؛ بسبب تأكيد السعودية على الطابع الإرهابي لجماعة «الإخوان المسلمين»، وكانت تركيا راعية لهذا الحزب ومموِّلة له، باعتباره نافذةً إستراتيجيةً؛ لتبسط هيمنتها على العالم الإسلامي، بعد ذلك شهدت العلاقات «التركية – السعودية» تصاعُدًا في حِدَّة الصراع، تمثَّلت في شنِّ حملات التشوية ضد السعودية، الذي حدث بالفعل، عن طريق حرب إعلامية، مارستها تركيا على السعودية، بعد مقتل «جمال خاشقجي»، وقامت بتأجيج العالم عليها، علاوةً على ذلك، اتبعت سياسة اختلاق المشاكل مع دول الخليج الأُخرى، مثل «الكويت، والعراق» وغيرهم.
وقد صرَّح بعض السياسيين، أن التحوُّل في السياسة الخارجية التركية، ليس من شأنه حماية أمنها القومي فقط، ولكن يعبر عن مساعيها لإعادة النظر في ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى، واسترجاع نفوذِها ومركزها الإقليمي من جديدٍ، وقد نتج عن تلك السياسة الخارجية نفورٌ دوليٌّ وإقليميٌّ كبيرٌ تجاه تركيا، وتتجه تركيا لانتهاج سياسة خارجية أُخرى، تستعيد من خلالها، مركزها الإستراتيجي في المنطقة.
ثالثًا: التصالح الإقليمي واستعادة زيادة عدد الأصدقاء، «2021: الوقت الحالي»
عقب بضع سنوات من تصاعُد الملفات الخلافية التركية مع دول الجوار، وعُمْق الاستقطاب السياسي التركي في «الشرق الأوسط»، وحديث «أردوغان» عن العُزْلة القَيّمة، التي ارتمت فيها البلاد، بصدد موقفها من الثورات وبعض الأنظمة الإقليمية، عادت تركيا في ٢٠١٦؛ لتسلُك منهج «زيادة عدد الأصدقاء، وتقليل عدد الأعداء»، وهذا النَّهْج يُشَكِّل استدارةً في سياسة تركيا الخارجية، التي تبلورت في تخفيف حِدَّة التوتُّر مع عددٍ من الدول المجاورة، ولكن لأسباب عِدَّة، لم يكتب لذلك التحوُّل النجاح والنهاية.
منذُ عام ٢٠٢١ حتى الآن، أطلقت تركيا العنان أمام مسار «زيادة عدد الأصدقاء، وتقليل عدد الأعداء» مرةً أُخرى، وقد حظيت بقبول عددٍ من القوى الإقليمية وتمَّ التحاوُر حول بناء نُسُجٍ تعاونية، وتقليل حِدَّة الخلاف، وبالفعل، استطاعت تركيا تحقيق التصالح الإقليمي مع الإمارات العربية المتحدة، التي تُمَثِّل أحد أبرز خصومها في السنوات الأخيرة السالفة، وعلى هذا الصعيد، طبَّقت تركيا هذا المسار مع عدة دول، مثل «مصر، وإسرائيل، والسودان، وأرمينيا»، وتبْذُل كافة مساعيها؛ لتدعيم العلاقات مع السعودية.
الخاتمة
بعد أن تطرَّقنا إلى أبرز التحوُّلات في السياسة الخارجية التركية، نستنتج أن التوجُّه الحالي في السياسة الخارجية التركية لا يتشابه مع سياسة تصفير المشاكل التي تبناها حزب «التنمية والعدالة» عام ٢٠٠٢؛ حيث كانت بالنسبة للثانية، إستراتيجيةً مترسخةً مبنيةً على تنظيم مُسْبَق وجَليِّ، ونهجًا وطيدًا تتبناه تركيا، وقد كانت البيئة الإقليمية أكثر تقبُّلًا لتلك السياسة، فضلًا عن ذلك، فقد كانت مبنيةً على رؤية تخفيف حِدَّة الصراعات، وتحقيق الرِّبْح لجميع الأطراف.
وبالنسبة لمسار التصالح الإقليمي، فيبدو أقرب للتكتيك الظَّرْفي المُوجَّه بتطوراتٍ «سياسية، وإقليمية»، والهدف من طرحه، يتمثل في إيجاد مناخ مستقر للانتخابات الرئاسية المقبلة، علاوةً على ذلك، تثبيت المكاسب الإستراتيجية التي جنتها تركيا مؤخرًا في «العراق، وسوريا، وليبيا»، ودورها البارز في «أزمة أوكرانيا»، وفي هذا الصدد، تبْذُل تركيا جميع مساعيها؛ لإصلاح علاقاتها مع دول الجوار، وتقوم بالعديد من التنازُلات؛ لتكسب ثقة دول الجوار مرةً أُخرى، وفي مقابل ذلك، فالدول المجاورة أقلَّ تحمُّسًا وأكثر ترقُّبًا وتمهُّلًا من تركيا بشأن هذا المسار، فباتت تركيا قوةً إقليميةً أقلَّ جدارةً بثقة المجتمع الإقليمي.