محمد فوزي: باحث متخصص في قضايا الأمن الإقليمي
بدأت إسرائيل في الخامس من أغسطس الجاري عملية عسكرية أطلقت عليها “طلوع الفجر” في قطاع غزة، وهي العملية التي استمرت لنحو يومين ثم أعلنت السلطات المصرية في الساعات الماضية عن قدرتها على الوصول إلى اتفاق تهدئة بين الجانبين لوقف إطلاق النار بشكل متبادل، واستهدفت العملية الإسرائيلية بشكل رئيسي مواقع وقادة حركة الجهاد الإسلامي وسرايا القدس الجناح العسكري للحركة في عدة مناطق بقطاع غزة، ما أدى إلى سقوط العشرات من القتلى والجرحى، وعلى رأسهم القيادي بحركة الجهاد “تيسير الجعبري”، وقد حظيت العملية العسكرية الإسرائيلية باهتمام كبير في ضوء اختلافها عن كافة العمليات السابقة، حيث كانت العمليات العسكرية الإسرائيلية تأتي في الغالب كرد على تصعيد عسكري من قبل الفصائل الفلسطينية الموجودة في قطاع غزة، وهو متغير يُرجح ارتباط العملية ببعض السياقات والظروف الإقليمية، فضلاً عن بعض الحسابات الداخلية الإسرائيلية.
وتطرح هذه العملية العديد من التساؤلات المهمة، التي تحاول الوقوف على الدوافع التي تقف خلف شن إسرائيل لهذه العملية، وكذا الحسابات الإسرائيلية في هذا التصعيد، فضلاً عن دلالات مهمة ترتبط بشكل رئيسي بفاعلية الدبلوماسية المصرية، وهي الدبلوماسية التي أكدت على أن الدولة المصرية تظل الفاعل الإقليمي والدولي الأهم على مستوى القضية الفلسطينية.
سياق إقليمي مضطرب
لا يمكن قراءة وفهم العملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة بمعزل عن السياق الإقليمي الذي جاءت في كنفه، وهو السياق الذي يمكن أن يكون أحد العوامل التي دفعت إسرائيل باتجاه تبني هذا التصعيد، وذلك على النحو التالي:
1- جاءت العملية العسكرية الإسرائيلية بالتزامن مع توجه وفد إيراني إلى فيينا لاستئناف المباحثات النووية مع واشنطن والقوى الغربية، وتأكيد الاتحاد الأوروبي أنه قدم مقترحاً لتسوية الملف راعى الملاحظات الخاصة بالمشاورات السابقة، الجدير بالذكر أن إسرائيل ترفض هذه المباحثات خصوصاً وأنها لم تتطرق إلى ملف دعم إيران لبعض الفاعلين المسلحين دون الدول في المنطقة، والتي تنظر إليهم إسرائيل على أنهم تنظيمات إرهابية، ومن هنا ويبدو أن إسرائيل تحاول إرباك الحسابات الإيرانية في هذا الملف عبر الضغط على أحد رعاياها الرئيسيين في قطاع غزة وهي حركة الجهاد الإسلامي.
2- أحد الفرضيات المطروحة الحاكمة لتوجه إسرائيل نحو التصعيد العسكري ضد حركة الجهاد الإسلامي، ترتبط بشكل رئيسي بالتخوف الإسرائيلي من التقارب المتزايد بين حركة الجهاد الإسلامي وإيران، إذ أن العملية جاءت بالتزامن مع زيارة يقوم بها زعيم الحركة زياد النخالة، والتقى خلالها بالرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، وكذا قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي، وخلال زيارته لطهران طالب “النخالة” مقاتلي “سرايا القدس” بالرد على الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة، ما يعكس وجود تنسيق كبير بين الحركة وإيران بخصوص التصعيد.
3- شهدت الآونة الأخيرة دخول حزب الله اللبناني، على خط مسألة الغاز العالقة بين إسرائيل ولبنان، حيث أعلن حزب الله في مطلع يوليو الماضي، عن استهدافه حقل كاريش المتنازع عليه بين الطرفين، عبر 3 طائرات مسيرة، واعتبر الحزب أن هذه العملية جاءت لإعادة الاعتبار للحق اللبناني في المتوسط، فيما توعدت إسرائيل بالرد بشكل قاسي على إيران وأذرعها في المنطقة، وبالتالي يمكن قراءة التصعيد ضد حركة الجهاد على أنه جزء من الصراع الإقليمي المحتدم بين إسرائيل والأذرع الإيرانية في المنطقة.
وقد تفاعل حزب الله بشكل كبير مع التصعيد الإسرائيلي، حيث قال الأمين العام لحزب الله اللبناني، حسن نصرالله، إن إسرائيل “أخطأت التقدير”، داعياً من وصفهم بـ “أنصار إسرائيل” إلى “الكف عن توجيه الرسائل في لبنان ولا ينتظر على الإطلاق أن المقاومة ستسكت عن عدوان ما أو عن انتقاص ما من حقوقنا” وفق تعبيره، ما يعني أن الحزب قد يتبنى خيار التصعيد في الأيام المقبلة ضد إسرائيل، كرد على العملية التي حملت استهدافاً لحزب الله بشكل غير مباشر.
محددات داخلية إسرائيلية
إلى جانب السياق الإقليمي المضطرب الذي تأتي فيه العملية العسكرية الإسرائيلية الجديدة، يوجد مجموعة من المحددات الداخلية التي يمكن في ضوئها فهم العملية الإسرائيلية الأخيرة، وذلك على النحو التالي:
1- قبيل أيام من الحملة العسكرية الإسرائيلية، قامت قوة خاصة تابعة للجيش الإسرائيلي بتنفيذ عملية توغل مفاجئة في مخيم جنين للاجئين، وهي العملية التي استهدفت اعتقال القيادي في حركة الجهاد الإسلامي بسام السعدي، وهو ما تم بالفعل حيث اعتقلت القوات الإسرائيلية “السعدي” وزوج ابنته، وبالتزامن مع ذلك تم الإعلان عن وفاة بعض الأسرى الفلسطينيين في سجن “إيشل” ومعتقل “عوفر”، وعقب هذه التطورات تصاعدت ردود الأفعال الغاضبة من الفصائل الفلسطينية، وهي الردود التي بنت أجهزة الاستخبارات والدوائر البحثية الإسرائيلية، على أساسها، تقديرات ذهبت إلى احتمال تبني هذه الفصائل لتصعيد عسكري رداً على العملية، ما يعني أن عملية “طلوع الفجر” جاءت كتعامل استباقي من جانب السلطات الإسرائيلية مع هذا التصعيد المحتمل من الفصائل الفلسطينية، ولوأده قبل أن يبدأ.
2- سوف يشهد شهر نوفمبر المقبل جولة جديدة من انتخابات الكنيست الإسرائيلي بعد حله بقيادة رئيس الوزراء السابق، نفتالي بينيت، الذي ظل في منصبه لمدة عام واحد فقط على رأس حكومة تشاركها مع رئيس الوزراء الحالي يائير لابيد الذي يقود بشكل مؤقت حتى تشكيل حكومة جديدة، وهي الانتخابات التي قد تُفضي إلى إسقاط حكومة “يائير لابيد” الانتقالية، وصعود تحالف المعارضة الذي يقوده رئيس الوزراء الأسبق “بنيامين نتنياهو”، وبالتالي يمكن القول إن هذه العملية العسكرية – خصوصاً حال نجاح الجيش الإسرائيلي في تحقيق بعض المكاسب الميدانية – ربما تستهدف تحقيق بعض المكاسب الميدانية التي سيسعى “لابيد” إلى توظيفها سياسياً في الانتخابات المقبلة، لكن هذه المقامرة السياسية من “لابيد” تعتبر سلاح ذو حدين، إذ يمكن أن تؤدي العملية إلى العديد من الخسائر – خصوصاً حال طول أمد الحرب – التي قد تدفع باتجاه الإطاحة به وحكومته الانتقالية، خصوصاً مع الخلافات الحالية الموجودة بين وزير الجيش الإسرائيلي بيني غانتس زعيم حزب أزرق أبيض وبين رئيس الحكومة يائير لابيد الذي يترأس حزب هناك مستقبل، وهي الخلافات التي تصاعدت مع قيام “لابيد” بإقناع عضوة كنيست إسرائيلي تابعة لحزب أزرق أبيض، الانضمام إلى حزب هناك مستقبل.
3- الحكومة الإسرائيلية الحالية بقيادة “لابيد” حالياً في أضعف حالاتها، بسبب أزمات الداخل الإسرائيلي على كافة المستويات، وبالتالي ربما بحاول رئيس الوزراء عبر شن هذه العملية، إيصال رسائل للداخل الإسرائيلي بأن التحالف الذي يقود الحكومة الحالية قادر على الدفاع عن أمن إسرائيل، وتحجيم تحركات قادة الفصائل الفلسطينية واستهدافهم، وهو ما تعتبره بعض التقديرات “محاولة استعراض عضلات من قبل الحكومة الحالية”.
تباينات بين الفصائل الفلسطينية
أحد الارتدادات والتداعيات الرئيسية التي عكستها العملية وكذا ترتبت عليها، تتمثل في زيادة مساحة التباينات بين الفصيلين العسكريين الرئيسيين في قطاع غزة، وهما حركة حماس، وحركة الجهاد الإسلامي، ففي الوقت الذي تبنت فيه حركة الجهاد الإسلامي خيار التصعيد، رأت حركة حماس أن الخيار الأفضل في الظرف الراهن يتمثل في الدفع باتجاه التهدئة، وقد عبرت حركة حماس عن هذه الرؤية للدولة المصرية، حسب تقرير للعربية، وهو موقف يمكن فهمه من خلال عدم قيام الحركة بإطلاق صواريخها كرد فعل على الغارات الإسرائيلية، وفي السياق ذاته، أشارت تقارير استندت إلى مصادر مقربة من حركة حماس إلى أن الحركة قامت بممارسة الضغط على ممثلي حركة الجهاد والقادة الميدانيين لسرايا القدس، من أجل الاكتفاء برد محدود على اغتيال القيادي بالحركة “تيسير الجعبري”، والقبول بالوساطة المصرية كمدخل للتهدئة.
وقد سعت حركة حماس عبر هذه المقاربة التي تستهدف التهدئة، إلى تجنب الدخول في مواجهة عسكرية غير محسوبة، خصوصاً في ظل عدم تعافيها من نتائج العملية العسكرية الإسرائيلية الأخرى، وسعيها لإعادة بناء صفوفها، وكذا عدم الرغبة في الصدام مع الولايات المتحدة وبعض الدول الإقليمية والدولية، خصوصاً مع مساعي التهدئة التي قادتها وأنجزتها الدولة المصرية، كما أن الحركة لم ترغب في الإعلان صراحةً عن تبرئها من هذا التصعيد من قبل حركة الجهاد الإسلامي، الأمر الذي قد يؤدي إلى حدوث صدام بين الفصيلين في القطاع، وفي المقابل اكتفت حماس بإطلاق تصريحات عامة تدعو إلى ضبط النفس، وأكدت على “تكوين غرفة عمليات مشتركة بين كافة الفصائل لاتخاذ القرارات المناسبة”.
نجاح جديد للدبلوماسية المصرية
أصدرت السلطات المصرية في الساعات الأخيرة من يوم أمس السابع من أغسطس، بياناً أكد أن الدولة المصرية توصلت إلى اتفاق تهدئة بين حركة الجهاد الإسلامي وإسرائيل، على أن تبذل مصر جهودها من أجل الإفراج عن الأسير خليل العواودة ونقله للعلاج، وكذلك الإفراج عنالأسير بسام السعدي في أقرب وقت ممكن، الأمر الذي مثل نجاحاً كبيراً للدبلوماسية المصرية، في إطار استعادة مصر لدورها الريادي على مستوى الإقليم والعالم.
ومع كون الجهود المصرية هي المحدد والعامل الرئيسي الحاكم للتهدئة الحالية، إلا أن هناك محددات أخرى مرتبطة بطبيعة العملية نفسها، ساهمت في الدفع باتجاه وقف إطلاق النار، فالعملية تدخل في نطاق “التصعيد المحسوب” من قبل إسرائيل، بمعنى أن العملية سعت إلى تحقيق بعض الأهداف الآنية وإيصال بعض الرسائل سواءً للداخل الإسرائيلي أو للخارج، فعلى مستوى الداخل سعت حكومة “لابيد” إلى التأكيد على قدرتها على استهداف قادة الفصائل الفلسطينية، وعلى مستوى الخارج أرادت إسرائيل إيصال رسائل بأن أي تحركات مناوئة لها، أو خصوصاً على مستوى زيادة التنسيق بين الفصائل الفلسطينية وإيران، سوف يكون الرد عليها عبر التصعيد العسكري.
ومن جانب آخر سعت إسرائيل إلى زيادة مساحة الانقسام بين الفصائل الفلسطينية في غزة، وبالتحديد بين حركة الجهاد وحركة حماس، وهو ما أكده رونين بار مدير الشاباك، حيث قال أمام مجلس الوزراء الأمني: “عملية غزة حققت موضوعياً أكثر مما كان مخططاً لها وستؤثر على الساحات الأخرى في المنطقة”، وأضاف: “العملية نجحت في إحداث فصل بين حماس والجهاد الإسلامي وهو هدف استراتيجي إسرائيلي”، وبالتالي رأت إسرائيل أن العملية حققت الأهداف المرجوة منها، ولا حاجة لإطالة أمد الحرب، خصوصاً وأن إطالة أمد الحرب قد تؤدي إلى خسائر ميدانية كبيرة بالنسبة للجانب الإسرائيلي.
وختاماً، يمكن القول إن العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة في قطاع غزة، كانت نتاج لسياق إقليمي مضطرب ومتشابك، وبعض الحسابات الداخلية الإسرائيلية، لكن ومع الفاعلية الدبلوماسية المصرية، وكذا رؤية صانع القرار الإسرائيلي أن العملية حققت المرجو منها، وإدراك الفصائل الفلسطينية والجانب الإسرائيلي أن التوجه نحو المزيد من التصعيد سوف يؤدي إلى خسائر كبيرة لكلا الطرفين، تمخض اتفاق وقف إطلاق النار، لكن استمرار هذا الاتفاق سوف يكون مرهوناً على الأرجح بمدى التزام الجانب الإسرائيلي بالتعهدات التي قطعها لا سيما على مستوى إطلاق سراح قادة حركة الجهاد الإسلامي، وهي فرضية تزيد من حجم الأعباء الملقاة على عاتق الدولة المصرية، انطلاقاً من كون مصر الفاعل الأهم على مستوى القضية الفلسطينية.