حسناء تمام كمال
يعيش العراق حالةً من التطورات الحادة، إثْر الدخول في مرحلة تشكيل حكومة؛ إذ يجري طرْح رُؤى مختلفة، من عدة تيارات؛ لِما يجب أن تكون عليه الحكومة المُقْبِلة، يجري هذا الحراك السياسي في شكل تجاذُب بين معظم الأطراف، وتبادُل الاتهامات، اشتدت هذه التجاُذبات، بعد أن صوَّت «الإطار التنسيقي» في العراق، على اختيار، محمد شيَّاع السوداني، مرشحًا لمنصب رئاسة الوزراء.
علي إثْر هذا الترشيح، قام متظاهرون من أنصار «التيار الصدري» – الأربعاء ٢٧ يوليو- باقتحام مبنى البرلمان العراقي، بالمنطقة الخضراء، المُحصَّنة وسط بغداد، والتي تضم «مؤسسات حكومية، وسفارات أجنبية»؛ احتجاجًا على مرشح «الإطار التنسيقي» محمد شيَّاع السوداني؛ لرئاسة الحكومة، فيما تتخبط البلاد في أزمة سياسية مُعقَّدة، منذ أشهر.
ولاحقًا، وبعد نحو ساعتيْن، شرع أتباع «الصدر» في الانسحاب؛ استجابةً لدعوة زعيمهم، مقتدى الصدر، في تغريدة لمناصريه بـ«الانسحاب»، قائلًا: «ثورة إصلاح ورفض للضيْم والفساد، وصلت رسالتكم أيُّها الأحبة، فقد أرعبتم الفاسدين، عودوا إلى منازلكم سالمين». وإثْر هذه الدعوة، بدأ المتظاهرون على الفوْر بالانسحاب تدريجيًّا من مبنى البرلمان.
أولًا: كيف يمكن فهم تصرفات «الصدر»؟
تحمل التحرُّكات الأخيرة التي تجري في العراق، العديد من الرسائل، التي توضح غايات القائمين بهذه التحرُّكات من جهة، والسياق الذي سيتحرك فيه المشهد العراقي ككل من جهةٍ أُخرى.
ليست المرة الأولى : إن تحرُّك اقتحام البرلمان، أتى مفاجئًا بالنسبة للعراق، ويُعدُّ درجةً من إدخال للمؤسسات على خط التنافُس بين الفرقاء في العراق، وهو ما يُعدُّ تهديدًا لـ«أمن، واستقلالية، وحيادية» هذه المؤسسات، فعدم تحييدها عن الصراع، سيكون نتاجه في غير صالح كافة الأطراف، على المدى «المتوسط، والبعيد».
وبالرغم من ذلك، ليست هذه المرة الأولى، التي يدعو فيها «الصدر» بتحريك الجمهور بعد استقالة نواب كتلته من البرلمان، ففي مطلع يوليو، أَرَبَكَ مقتدى الصدر، حسابات منافسيه، بعدما نشر قياديٌّ مُقرَّب منه خطابًا، من شأنه، تحريك الشارع، بالتزامن مع دعوة «الصدر» أتباعه، إلى إقامة صلاة جمعة مُوحَّدة، تلاها استجابة أنصاره، ونشر أعضاء في «التيار الصدري» – على حساباتهم في منصات التواصل الاجتماعي- صورهم مع أسلحة «خفيفة، ومتوسطة»، تحت وسْم «جاهزون»، في حين أعلنت «قيادات سياسية، وشيوخ، وعشائر»، عن استعدادهم؛ لتنفيذ ما يأمر به «الصدر».
الممارسات الميدانية: كانت الدعوات إلى الحشد والاقتحام، التي أتت بشكل متتابع؛ ليؤكد أنه سيلجأ إلى الشارع في تنفيذ تطلعاته، وكما رأينا التحرُّك بالحشود والتجمعات في الشارع؛ ليؤكد ذلك أن التواجد الميداني بما يحمله من ممارسات مختلفة، هي السلاح الرئيسي الذي يلجأ إليه «الصدر»؛ لتنفيذ التطلُّعات السياسية، وبما أن هذا الاتجاه ذاته قد يتطور في المستقبل القريب؛ ليشمل ممارسات ميدانية أُخرى، كـ«العصيان المدني»، بالمعنى الذي يعني، انتهاك «قانون، أو لائحة، أو مرسوم»؛ لإحداث تغيير في بنية نظامٍ ما، وربما تشمل دعوات للاحتجاج والتظاهرات.
ثانيًا: هل تنجح سياسة الصدر «حافة الهاوية»؟
لنظرية «حافة الهوية» التي طرحها الأمريكي، فوستر دالاس، ذات استخدام واسع، امتدَّ لما بعد انتهاء أزمة الصواريخ الكوبية، ووفقًا لـ«دالاس» سياسة «حافة الهاوية»، تعني القدرة على الوصول إلى «حافة الهاوية»، دون الدخول في الحرب، وهي نظرية تقوم في جوهرها على تصعيد الصراع، حتى «حافة الهاوية»، دون الانزلاق فيها، فهي سياسة ردْع، في المقام الأول، ونشوب الحرب يعني فشلها.
ما يفعله «الصدر» هدفه تسخير أدواته للتصعيد؛ بغرض تعزيز فرصه في التوصُّل إلى تسوية، ولن يكون في صالحه، أن تفقد أداته في القدرة على الردْع، إن تحركاته – بالأحرى- محاولة للضغط على «الإطار التنسيقي» الشيعي؛ من أجل الخضوع له بعد استقالة «الصدر» وكتلته من البرلمان، مستندًا إلى قاعدة شعبية لا يُسْتهانُ بها، ويرغب بأن تُشكل الحكومة، وفق رغباته، ويعمل جاهدًا على إقصاء الأحزاب الشيعية.
ولعل سياسة «حافة الهاوية» التي سادت لسنوات وعقود، هي موضع اختبار الآن، سواء في الإطار العالمي، المتمثل في تجربة الحرب في أوكرانيا، التي صُوِّر في البداية، أنها لن تتجاوز إطار التهديد بين الأطراف، لكن ما حدث هو انزلاق ناحية حرب حقيقة؛ الأمر الذي أدى إلى التشكيك في مدى قدرة الأطراف، بالسيطرة على الأوضاع، وإبقائها في مسار الضغط؛ من أجل تحقيق الأهداف.
من ناحيةٍ أُخرى، فإن قراءة المشهد العراقي، والتفاعل بين أطرافه، خصوصًا بعد الانتخابات، يؤكد أن هناك حالةً من عدم اليقين، وغياب القدرة على التنبؤ بتحركات الفاعلين فيه، خصوصًا في ظلِّ تعدُّد القوى الداخلية، وتدخُّل الأطراف الإقليمية؛ لخدمة أهدافها؛ لذا حتى وإن بدا «التيار الصدري» مُحرِّكًا رئيسيًّا للمشهد الحالي، لكن غير مؤكد إذا ما كان قادرًا على السيطرة على الموقف، والتحكُّم في زمامه، ومنعه من الانزلاق ناحية الهاوية.
ثالثًا: السيناريوهات المطروحة
ما يحدث في العراق هو تعارض مصالح للأطراف الفاعلة فيه، يحاول كلٌّ منهم اتخاذ قرارات، تخدم مصالحه، دون باقي الأطراف، ولا شك أن هذا التعارض الشديد في المصالح، يفتح المشهد على سيناريوهات عدة، معظمهم غير تفاؤلي منها الآتي:
صراع «شيعي – شيعي»: يتوقع هذا السيناريو، أن استمرار التعامل مع تعارض المصالح بين الأطراف بالنَّهْج ذاته، والمتمثل في تمسُّك «الصدر»، بأن يكون الزعيم الوطني الأوحد، الذي يعبر عن المُكوِّن الشيعي في العراق، وهذا الأمر محال أن يسمح به «الإطار»، مع تمسُّك «الإطار» بمرشحه في الوقت ذاته.
فإن لم يعدِلْ كلاهما عن تطلعاته، فمن المرجح، نشوب صراع «شيعي – شيعي»، وهذا السيناريو مطروح بقوة، لكنه قد يجُرُّ العراق إلى صراع جديد مفتوح، وهو السيناريو الأخطر.
إعادة إجراء الانتخابات: يتوقع هذا السيناريو، أن يطرح من جانب «الصدر»، المطالبة بإجراء انتخابات مبكرة جديدة، والتصعيد في مطالبه، والتشكيك في كل العملية، والمطالبة بإلغائها، وإعادة البدء من جديد، وبالرغم من توقُّع هذه المطالب، إلا أن الامتثال إليها وتنفيذها يبقى خيارًا مستبعدًا.
طرح «الإطار» مرشح بديل: وهذا السيناريو، يتوقع أن يكون هناك مساعٍ لاحتواء مطالب «الصدر» من اتجاه «الإطار»؛ لذا ربما يذهب «الإطار» إلى طرْح مرشح تسوية آخر، يرضى به «الصدر»، وكتابة برنامج حكومي، يناغم «الصدر»، ومن المرجح أيضًا، ألَّا يقبل« الصدر» بهذه التسوية، وسيعمل جاهدًا على تأخير تشكيل الحكومة، لكن هذا السيناريو يبقى الأكثر واقعية وقدرة على احتوائها.