إعداد: دينا لملوم
لقد ساءت الأمور بين فرنسا والمجلس العسكرى النيجرى، حتى طالب الأخير بجلاء القوات الفرنسية عن البلاد، وما إن تسارعت الأحداث التى لم تكن فى صالح باريس، حتى أعلن الرئيس الفرنسى عن سحب قواته من نيامى بشكل كامل مع انتهاء العام الجارى، وبدأت الدفعة الأولى فى الانسحاب متجهة إلى الأراضى التشادية؛ لتبدأ النيجر بعد ذلك فصلًا جديدًا فى ظل التهديدات الإرهابية التى شهدتها بعد الانشقاق عن القوات الفرنسية، وتصبح البلاد محل تنافس بين القوى الكبرى كروسيا والولايات المتحدة، فى ظل تواجد قواعد عسكرية لهذه الأخيرة، والتى يحتمل أن تحل محل فرنسا، وبالتالى دحر النفوذ الروسى وإبعادها عن المنطقة.
خلفيات الانسحاب الفرنسى من النيجر:
بعد انتهاء عملية “برخان” فى مالى أغسطس 2022، حولت باريس مركز عملياتها فى منطقة الساحل إلى النيجر، التى لم تكن قبل ذلك سوى محطة إمداد ودعم للقاعدة العسكرية الفرنسية فى باماكو، وقد تطورت الأحداث حتى نشأ تعاون عسكرى بين فرنسا والنيجر قائم على الدعم الاستخباراتى واللوجستى، ومنذ أن وقع انقلاب 26 يوليو الماضى، تزايدت وتيرة المظاهرات الشعبية ضد التواجد العسكرى فى نيامى، وتم استهداف القاعدة الجوية فى البلاد، وبدأت دائرة الخلاف تحتد، حتى أعلنت باريس وقف تعاونها العسكرى مع النيجر على خلفية هذا الانقلاب، وهو ما تلاه قرار المجلس العسكرى الحاكم 3 أغسطس المنصرم، الذى نص على إنهاء اتفاقية الدفاع المشترك مع فرنسا، وطالبها بسحب قواتها من البلاد، وفى 27 أغسطس أعلن الانقلابيون عن قرار طرد السفير الفرنسى فى البلاد، وقاموا بإلغاء اعتماده وانتزاع الحصانة الدبلوماسية منه؛ لذا فلم يكن أمام باريس فى ظل هذه المهاترات سوى سحب جنودها؛ حفظًا لماء وجهها؛ لتطوى بذلك صفحاتها الأخيرة فى النيجر، وذلك مع خروج الدفعة الأولى من قواتها التى تعبر إلى تشاد فى قافلة برية تحت حراسة قوة محلية؛ ويأتى هذا التحرك ضمن انسحاب فرضته المجموعة العسكرية الحاكمة بعدما أطاحت بالرئيس محمد بازوم يوليو الماضى، وقد سارع قادة الانقلاب بطلب رحيل القوات الفرنسية عن البلاد، وهو ما دفع ايمانويل ماكرون بالإعلان نهاية سبتمبر الماضى عن عزمه على سحب قواته من الأراضى النيجرية نهاية العام الجارى، ويتنشر حوالى 1400 جندى وطيار فرنسى فى النيجر؛ لقتال الجماعات المتطرفة بجانب النيجريين، حيث يتواجد ألف عنصر فى نيامى، و400 آخرين فى قاعدتين غرب البلاد فى “ولام وتبارى- بارى” بمنطقة الحدود الثلاثة مع مالى وبوركينا فاسو، وفى العاشر من أكتوبر الحالى، غادرت القوات الفرنسية المتمركزة فى غرب النيجر المنطقة، واتجهوا بريًا نحو الأراضى التشادية، بالإضافة إلى ذلك تم تسجيل 3 رحلات خاصة بمطار نيامى، اثنتان لمغادرة 97 جنديًا من القوات الخاصة، والأخرى كانت مخصصة للخدمات اللوجستية، أيضًا تم رصد طائرة محملة بمعدات فرنسية ومجموعة أولى من الجنود ذوى الأولوية أقلعت من نيامى فى ذات اليوم، وهذه كانت الدفعات الأولى لعملية الانسحاب الفرنسى المزمع اكتمالها مع نهاية العام الحالى.
أسباب الانسحاب الفرنسى من نيامى:
هناك حزمة من العوامل التى دفعت ماكرون إلى إعلان الانسحاب من النيجر، منها:
- التأكد من عدم قدرة جماعة الإيكواس التى تقودها نيجيريا على إعادة المسار الدستورى وتمكين الرئيس المعزول من العودة إلى منصبه؛ وذلك نظرًا لأنها تواجه تحديات أمنية شديدة من قبل جماعة بوكو حرام، وتنظيم داعش فصيل غرب إفريقيا.
- العزلة التى عانت منها فرنسا، سواء على المستوى الأمريكى أو الإفريقى أو حتى الأوروبى، حيث إن دفعها لتدخل الايكواس عسكريًا فى النيجر لم يلق الدعم الكافى من حلفائها أو شركائها، حتى الولايات المتحدة التى كانت بمثابة الحليف تعاملت معها بدوغمائية، فأيًا كانت الشراكة إلا أن المصلحة الخاصة تتخطى أى اعتبار، وانسحاب باريس من النيجر يعمق من التواجد الإستراتيجى الأمريكى فى المنطقة، ويمكنها من بسط هيمنتها بشكل أوسع فى إفريقيا.
- تمكن القيادة العسكرية فى النيجر من حشد وتعبئة الجماهير والشباب بصفة خاصة، ضد التواجد الفرنسى، وهو ما أتاح لها الفرصة فى تكوين غطاء شعبى واسع فى البلاد.
- تأسيس حلف دول الساحل منتصف سبتمبر الماضى، من قبل النيجر ومالى وبوركينا فاسو، والذى يستند إلى مبدأ الدفاع المشترك ضد أى اعتداء وأن أى محاولة للسطو على أراضى أى منها سوف يكون بمثابة إعلان حرب ضدها.
- إعلان كلًا من مالى وبوركينا فاسو تضامنهما مع نيامى؛ وذلك على هامش انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة.
الإرث الاستعمارى الفرنسى فى القارة السمراء:
لم يكن الخروج الفرنسى من النيجر آخر عهدها بإفريقيا الفرنكوفونية، بعدما أُخرجت فى وقت سابق من مالى وبوركينا فاسو، حيث يظل لها خمس قواعد عسكرية فى القارة، من بينها اثنتان فى غرب إفريقيا، هما السنغال التى يتواجد بها حوالى 350 عنصرًا، يقومون بتدريب وتأهيل القوات السنغالية، بجانب قوات من دول إفريقية أخرى، أما الثانية فتتواجد فى ساحل العاج، وتضم قرابة 900 جندى، وفقًا لاتفاقية دفاعية موقعة بين الطرفين فى عام 2012، وتكمن أهمية هذه القاعدة فى كونها توفر شبكة حماية لـ80 ألف فرنسى مقيمين فى دول خليج غينيا، بالإضافة إلى ضمان تدفق النفط، حيث أن حوالى 12% من واردات فرنسا من النفط تمر عبر مياه هذا الخليج، ومع الانسحاب الفرنسى من النيجر لن يتبقى لباريس حضور عسكرى فى منطقة الساحل سوى تشاد التى بقى فيها نحو 1000 جندى فقط من القوات الفرنسية يتمركزون فى قاعدة انجمينا الموجودة فى البلاد منذ عام 1986 ضمن ما يعرف بعملية نيسان “أبريل”، وتتواجد أكبر قاعدة عسكرية فرنسية فى إفريقيا بجيبوتى بقوة تبلغ 1500، وتستمد هذه القاعدة أهميتها من موقعها الاستراتيجى المطل على البحر الأحمر، والتى تتيح لفرنسا محاربة القرصنة فى منطقة القرن الإفريقى والبحر الأحمر وخليج عدن، فضلًا عن توفير قاعدة دعم وانتشار لمحاربة الإرهاب فى مناطق متفرقة من أفريقيا، أما القاعدة الأخيرة فتقع فى الجابون، وعلى الرغم من محاولة الانقلاب التى شهدتها الأخيرة، إلا أن ذلك لم يتضح أنه أثر على التواجد الفرنسى، حيث يرابط نحو 350 عنصرًا من رماة البحرية على مقربة من العاصمة ليبرفيل.[1]
تداعيات أمنية محتملة:
- لقد كان الحضور الفرنسى فى النيجر عاملًا مساعدًا للدولة فى القضاء على الإرهاب، فقد دخلت نيامى إلى مصاف الدول التى حققت نتائج براقة فى مجال مكافحة الجماعات الإرهابية خلال العامين الماضيين، ففى 2021، حصلت النيجر على المرتبة الأولى عالميًا وفق مؤشرات عدد القتلى عن طريق الإرهاب، وقد حظيت بالمرتبة العاشرة وفق هذا المؤشر فى عام 2022، فى منطقة الساحل، ومنذ ذلك الحين بدأت تظهر التصدعات الناجمة عن وقف التعاون مع القوات الفرنسية، ففى منتصف أغسطس تعرضت كتيبة نيجرية لهجوم حاد على الطريق الممتد بين بلدتى بونى وتورودى قرب الحدود مع بوركينا فاسو، وتمخض عن ذلك مقتل 17 جنديًا وإصابة 20 آخرين، كما قتل فى الفترة ذاتها 6 عناصر من الحرس الوطنى فى منطقة تيلابرى على الحدود المشتركة مع مالى وبوركينا فاسو.
- بدأت الجماعات المسلحة أمثال بوكو حرام والقاعدة وداعش تنشط بقوة فى الغرب والجنوب الغربى، ففى الثانى من أكتوبر الحالى تم شن هجوم مباغت من قبل الجماعات الإرهابية على حامية نيجرية؛ مما أسفر عن مقتل قرابة 60 جنديًا، فيما تعد أخطر عملية تعرض لها الجيش منذ هذا الانقلاب الأخير.
- فشل الحلف الدفاعى المشترك بين دول الساحل الثلاثة “مالى وبوركينا فاسو والنيجر” فى شن هجمات ضد الجماعات الإرهابية فى منطقة الحدود المشتركة بينهم، وهو ما ينقلنا إلى الحديث عن إمكانية التدخل الروسى على خط الأزمة مثلما حدث فى مالى، حيث استقبل رئيس المجلس العسكرى فى النيجر السفير الروسى المعتمد فى بلاده 3 أكتوبر، وتردد الحديث عن تشكيل محور موسكو- باماكو- نيامى؛ بما تقتضيه الحاجة لمحاربة الإرهاب بعد الانسحاب الفرنسى، وفى هذا الإطار، فإن ثمة احتمالية لجلب عناصر فاجنر إلى البلاد، الأمر الذى إذا تحقق سيزيد الأوضاع سوءًا، وربما تلقى نيامى مصير باماكو، وتسود حالة من الفوضى الأمنية، على الجانب الآخر هناك النفوذ الأمريكى فى المنطقة، حيث يتواجد قرابة 1100 جندى أمريكى، يتواجدون فى قاعدتين جويتين، قاعدة نيامى الجوية 101، وهى بمثابة موقع لمهمة مشتركة للقوات الأمريكية والفرنسية، ويتمركز بها حوالى 800 جندى أمريكى، وقاعدة النيجر الجوية 201، التى هى عبارة عن قاعدة جوية للطائرات بدون طيار، أنشأتها واشنطن فى منطقة أغاديز بالنيجر، وتعد ثانى أكبر قاعدة أمريكية فى إفريقيا بعد قاعدتها الدائمة فى جيبوتى[2]، وهو ما سيجعل البلاد ساحة جديدة للمواجهة بين روسيا والولايات المتحدة، بما ينعكس بشكل سلبى على أمن واستقرار النيجر، فبدلًا من محاربة طرف واحد ألا وهو الإرهاب، سيتعقد المشهد وتتشابك أطرافه، وبالتبعية سيعمل ذلك على زيادة حدة الاضطرابات الداخلية والتأثير على مسار الأزمة التى لن يتحمل أعباءها سوى الشعب النيجرى، ولكن ربما تعزف موسكو عن التدخل فى نيامى؛ تجنبًا لفتح جبهات أخرى عليها، والدخول فى مواجهة حادة مع واشنطن، لا سيما فى ظل انشغالها فى الحرب المشتعلة فى أوكرانيا.
إرجاء الوساطة الجزائرية فى الأزمة وضبابية المشهد:
فى 27 سبتمبر الماضى أعربت نيامى عن قبول المبادرة الجزائرية الرامية إلى إيجاد حل سلمى وسياسى للأزمة التى تمر بها البلاد، وقد سبق وأعلنت الجزائر ٢٩ أغسطس عن خطة سياسية لإنهاء هذه الأزمة تناولت إمهال الانقلابيين ستة أشهر للعودة إلى النظام الدستورى والديمقراطى مع رفض أى تدخل عسكرى فى الجارة الجنوبية، إلا أن الحكومة الجزائرية قامت بإرجاء المشاورات التحضيرية للتوسط فى الأزمة النيجرية؛ من أجل الحصول على ضمانات كافية بشأن تفعيل أطر الوساطة الجزائرية، وقد تزامن ذلك مع الانسحاب الفرنسى؛ ليصبح الوضع فى البلاد معقدًا إلى حد ما يشوبه الضبابية، يُنذر بانغماس النيجر فى منزلق قد ينجم عنه سيولة أمنية وتوترات حادة، واستفحال الخطر الإرهابى الداهم، ومن ثم احتمالية تدخل أطراف دولية وإقليمية على خط الأزمة، وهو الأمر الذى إذا تحقق سيزيد تشابك وتعقيد المشهد.
سيناريوهات ورؤى استشرافية:
على خلفية الانسحاب الفرنسى من النيجر، وتنامى وتيرة الهجمات الإرهابية فى البلاد، وفى ظل تعقد سبل الحل السياسى للأزمة خاصة بعد إرجاء الوساطة الجزائرية، يمكن الحديث عن بعض الآفاق الأمنية المحتملة فى نيامى فى الآتى:
السيناريو الأول:
تزايد حدة أعمال العنف: قد تؤول الأوضاع المتردية فى النيجر، والتى تتمثل فى تراجع الحالة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية للدولة، إلى عودة البلاد إلى الوضع الأمنى المذرى السابق على عام ٢٠٢٢، وهو ما قد يؤدى إلى تفاقم الصراع وتصاعد أعمال العنف، خاصة بعد خروج القوات الفرنسية من البلاد، فى الوقت الذى لا يستطيع فيه حلف الساحل الثلاثى المدعوم من روسيا سد الفراغ الذى تركته فرنسا، أيضًا نجد أنه فى ظل عجز المجلس العسكرى عن إيجاد صيغة تفاهم مقبولة إقليميًا ودوليًا، فإن الحصار المفروض على نيامى يحتمل أن يستمر على هذا الوضع، وهو ما سينعكس على الحالة الأمنية للبلاد.
السيناريو الثانى:
توافق إقليمى ودولى: قد تخرج الولايات المتحدة من صمتها ويتم التوافق حول رؤية مقبولة للانتقال السياسى فى النيجر برعاية أمريكية، خاصة فى ظل الحضور العسكرى والإستراتيجى الأمريكى فى النيجر؛ للتصدى لمحاولات الاختراق الروسى وللحفاظ على مكاسبها، وفى هذه الحالة ربما تتمكن واشنطن من تحريك المياه الراكدة لهذا الملف فى ظل توافق سياسى تشمله مظلة إقليمية ودولية تتمكن من إعادة الأوضاع إلى مسارها الطبيعى، وهذا السيناريو قد يكون تفاؤلى بعض الشيء ولكن لا يمكن استبعاد تحقيقه على أرض الواقع.
السيناريو الثالث:
انفراجه فى المشهد السياسى: قد يتم إطلاق سراح محمد بازوم، والعودة إلى مربع البداية، حيث عقد انتخابات حرة نزيهة، يتم من خلالها انتخاب رئيس جديد يعمل على ضبط الأوضاع، ومنع تغلغل أى قوى خارجية من شأنها الإضرار بأمن البلاد، وتكثيف جهود حلف الساحل الثلاثى لسد الفراغ الذى تركته فرنسا، والحيلولة دون انتشار الجماعات المتطرفة وتزايد الهجمات الإرهابية.
ختامًا:
يأتى الانسحاب الفرنسى من الأراضى النيجرية؛ ليكرس عدم فاعلية تأثير سياسة فرنسا فى منطقة الساحل، فلم يعد لفرنسا حضور قوى مثلما كانت عليه فى الماضى، ولكن فى حالة النيجر، لا يمكن تجاهل دورها فى مساندة البلاد فى حربها على الإرهاب، أو على الأقل تقليل كبح جماح الهجمات الإرهابية، والتى قد تتفحل بعد انسحابها، ويلوح المشهد باحتمالية إحلال واشنطن محل باريس تعمل على تحقيق مصالحها، بجانب منع تغلغل قوى كروسيا فى المنطقة، وربما تظل الأوضاع كما هى عليه، وقد تتدخل الولايات المتحدة لحلحلة الأزمة، وربما تحاول موسكو إيجاد موطئ قدم لها، وفى هذه الحالة قد تصبح النيجر نقطة تمركز خارجية تتلاقى فيها واشنطن وروسيا بعيدًا عن الأراضى الأوكرانية، بما ينعكس سلبًا على الوضع الأمنى للنيجر.
المصادر: