إعــداد: أحـمـد مـحـمـد فهمى – مـرام أكـرم كـمـال- ميار هانى أحمد
المقدمة:
مثَّل تاريخ الرابع والعشرين من فبراير 2022 بداية للعديد من الأزمات الاستثنائية على مختلف الأصعدة، بعد إعلان الرئيس الروسى شن ما أسماه “عملية عسكرية خاصة” على أوكرانيا، والتى خرجت عن سياقها كمعركة عسكرية بين طرفين إلى مواجهة دولية بين روسيا من جانب والدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة من جانب آخر، وعلى الرغم من التخوفات التى سبقت الغزو الروسى لأوكرانيا، فإن ما جاء بعد الحرب فاق الكثير من التوقعات، ومن هنا فإن هذا الإصدار الخاص بالذكرى الأولى للحرب (الروسية – الأوكرانية)، يهدف إلى تسليط الضوء على أبرز التداعيات للحرب (الروسية – الأوكرانية) على الصعيدين الاقتصادى والسياسى، فى ظل مؤشرات وتحليلات أشارت إلى أن تداعيات هذه الحرب قد تمتد لسنوات عدة.
أولًا: الــصــعــيــد الاقــتــصــادى
التـــداعـــيـــات على الاقــــتــــصــــاد الــــعــــالــــمــــى
لم يقتصر تأثير الحرب (الروسية – الأوكرانية) على الاقتصاد الروسى والأوكرانى فحسب، بل امتد ليشمل العالم بأسره، وتزامن توقيت الحرب مع فترة تعافى الاقتصاد العالمى من أزمة كورونا، وما سببته من حالة ركود وكساد عالمى، وفيما يلى ستتم الإجابة عن تساؤلات مهمة ألا وهى:
1– ما تأثير الحرب (الروسية – الأوكرانية) على معدل النمو الاقتصادى العالمى؟
2- ما هى الخسائر الاقتصادية التى تكبدتها روسيا وأوكرانيا بسبب الحرب؟
3- ما هو تأثير الحرب الاقتصادى على المناطق المختلفة من العالم؟
4- هل هناك دول فى العالم استفادت من هذه الحرب وأثرت على اقتصادها بشكل إيجابى؟
5- كيف لهذه الحرب أن تؤثر على الاقتصاد المصرى؟
6- ما هو تأثير الحرب على الأمن الغذائى؟
أولًا: ما تأثير الحرب (الروسية – الأوكرانية) على معدل النمو الاقتصادى العالمى؟
تشير الأعمدة فى الرسم التوضيحى التالى إلى معدل النمو الاقتصادى العالمى فى الفترة من 2019 حتى 2021 ومن خلال تحليلها نرصد بعض الملاحظات التالية:
- إن هناك عدم ثبات نهائى فى شكل الأعمدة فهى ليست أعمدة متساوية ولا متوازية بل إنها أعمدة متباعدة عن بعضها البعض.
- فى نهاية عام 2019 قد ضربت جائحة كورونا العالم وبلغ معدل النمو الاقتصادى فى ذلك التوقيت 59% ليسجل انخفاضًا عن عام 2018 بنسبة 0.69% وهى نسبة ضئيلة.
- كما شهد العالم نموًا اقتصاديًا بالسالب فى عام 2020 أى وقت التزامن مع أزمة كورونا وما سببته من حالة كساد عالمى بسبب إغلاق الكثير من الدول لمدنها، ووقف النشاط الاقتصادى، وخفض العمالة، حيث بلغت هذه النسبة ( -3.12%) وهذا المعدل ينخفض عن عام 2019 بنسبة 71% وهذه نسبة كبيرة فى الانخفاض.
- وفى عام 2021 بلغ معدل النمو العالمى 5.87% وهنا حدثت زيادة فى النمو الاقتصادى العالمى بنسبة تبلغ 8.99%، وكان قد بدأ الاقتصاد العالمى يسير فى تعافيه من الأزمة العالمية التى أصابته، إلا أنه قد عاد للانخفاض مرة أخرى عام 2022 بسبب اندلاع الحرب (الروسية – الأوكرانية) ليسجل 3.20% بالإضافة للتأثير السلبى على الاقتصاد العالمى بعد أن كان قد بدأ يخطو خطوات جديدة فى التعافى.
كما كان له تأثير على سرعة التضخم، حيث ارتفع التضخم العالمى من 4.7% فى 2021، إلى 8.8% فى 2022 وفقًا “لصندوق النقد الدولى”، كما تسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة فى تسريع وتيرة التضخم العالمى، ولم يسلم منه أكبر الاقتصاديات العالمية مثل الولايات المتحدة الأمريكية، الصين، والاتحاد الأوروبى.
- من المتوقع فى هذا العام 2023 أن النشاط الاقتصادى سيبقى منخفضًا للغاية، كما يتوقع أن يكون معدل النمو الاقتصادى ضئيلًا ولا يتجاوز 0.3%.
ثانيًا: ما هى الخسائر الاقتصادية التى تكبدتها روسيا وأوكرانيا بسبب الحرب؟
تعد روسيا وأوكرانيا أُولى الدول الأوروبية المتضرّرة جرّاء الأزمة الأوكرانية، وسوف نقوم بعرض ما تعرض له الاقتصاد الروسى من خسائر، على الرغم من أن الاقتصاد الروسى يحتل المرتبة الـ 11 عالميًا، وتزداد أهميته لقطاعات عالمية أساسية، أبرزها أسواق الطاقة وبعض المعادن والحبوب.
فقد شهد عام 2022 تغيرًا كبيرًا فى توقعات النمو الاقتصادى الروسى عن ما كان فى البداية، فالأشهر الثلاثة الأولى من العام بلغ معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى الروسى 3.5%، ولكن مع اندلاع الحرب مع أوكرانيا فى نهاية فبراير، جاءت العقوبات الغربية التى سببت العديد من المشاكل للاقتصاد الروسى، وكان أبرزها تراجع الواردات والصادرات وتفاقم نقص الأيدى العاملة وصعوبات فى توريد قطع الغيار، بالإضافة إلى انصراف العديد من الشركات الدولية والعقوبات على الشركات والبنوك الروسية.
كما كان هناك ضغوط غربية على روسيا يمكن أن يطلق عليها “حرب اقتصادية” وهذه الضغوط من العديد من الدول، فالولايات المتحدة الأمريكية صعبت الأمر على روسيا فى سداد ديونها الدولية، وذلك من خلال منع روسيا من استخدام مبلغ 600 مليون دولار كانت تحتفظ بهم فى البنوك الأمريكية.
بالإضافة لتجميدها لأصول تابعة للبنك المركزى الروسى بسبب امتناعه عن استخدام احتياطيه النقدى، والذى يبلغ 630 مليار دولار، هذا بالإضافة إلى عزلها البنوك الروسية الرئيسة عن نظام المراسلة المالية الدولى “سويفت”، الأمر الذى تسبب فى تأخير الدفعات لروسيا مقابل صادراتها من النفط والغاز.
أما فيما يخص بريطانيا فقد فرضت عقوبات أيضًا على روسيا، تمثلت فى استبعادها بنوك روسية من النظام المالى فى بريطانيا، ومنعت الشركات الروسية من حقها فى الاقتراض من البنوك، بالإضافة للقيود على عمليات الإيداع الذى كان مسموحًا لهم فى البنوك البريطانية، ومنعت الروس الأثرياء من الحصول على الإقامة فى بريطانيا من خلال وقف العمل بنظام بيع “التأشيرات الذهبية”.
واستمرت العقوبات من الدول على أكثر من 1000 شخص وشركة روسية، وشملت القائمة رجال الأعمال الذين يطلق عليهم لقب “الأوليغارشية” والذين يُعتبرون من المقربين للكرملين، ومن بينهم المالك السابق لنادى “تشيلسى” لكرة القدم “رومان أبراموفيتش”، واستهدفت كذلك اليخوت الفاخرة المرتبطة بالروس الخاضعين للعقوبات.
هذا إلى جانب وضع سقف لسعر النفط الروسى، والذى أصبح 60 دولار للبرميل الواحد وهو ما حددته دول “مجموعة السبع”، وهذا المبلغ كان منخفضًا للغاية بالنسبة لروسيا، ولكن هنا حدثت انتفاضة “بوتين” وذلك بسبب أن روسيا كانت تجنى يوميًا 800 مليون دولار من النفط قبل تسعيره، لذلك قرر منع تصدير النفط الروسى للدول الموقعة على هذا القرار والدول التى توافق عليه، وقرر التوسع فى سوق بيع النفط ودخوله للسوق الصينى والهندى، خاصة وأنهما من أكبر الداعمين له ولم يوافقا على قرار التسعير الجديد.
معدل النمو الاقتصادى فى روسيا من 2019 حتى 2022
- بلغ معدل النمو فى عام 2019 (2.20%)، وفى عام 2020 أى مع اجتياح الكورونا العالم بلغ هذا المعدل (-2.66%) أى حدث انخفاض فى المعدل بنسبة (-4.86%) عن العام السابق، وفى عام 2021 بدأ الاقتصاد الروسى فى الانتعاش مرة أخرى والاتجاه نحو التعافى من الأزمة، ليبلغ معدل النمو فى هذا العام (4.75%) أى بمعدل زيادة بلغ (7.41%)، وفى عام 2022 بالتزامن مع اندلاع الحرب مع أوكرانيا كانت روسيا فى الربع الأول من العام محققة معدل نمو مرتفع ولكن بنهاية العام بلغ هذا المعدل (2.1%)، وكان من المتوقع أن يبلغ معدل النمو فى روسيا 6% بعد الحرب، ولكن كان ذلك قبل فرض هذه العقوبات الغربية عليها.
- كما بلغ فائض الميزانية الفيدرالية 560 مليار روبل بما يعادل (8.6 مليار دولار)، وسيتم تنفيذ ميزانية روسيا بعجز بسيط حوالى 2% من الناتج المحلى الإجمالى، وهو أحد أفضل المؤشرات فى مجموعة العشرين.
أما فيما يخص تأثير الحرب على اقتصاد أوكرانيا:
كان معدل النمو الاقتصادى فى أوكرانيا عام 2021 (3.4%)، وفى الربع الأول من عام 2022 انخفض الناتج المحلى الإجمالى فى أوكرانيا بنسبة (15.1%) وهذا فى الفترة من شهر أبريل إلى شهر يونيو، حتى الوصول للربع الثانى من العام، فقد حدث انكماش فى الاقتصاد بمعدل (37.2%).
يعانى اقتصاد أوكرانيا من تبعات العمليات العسكرية الروسية، فقد انكمش اقتصاد البلاد بشكل حاد بنسبة 37.2% فى الربع الثانى من 2022، مقارنة بنفس الفترة من العام الماضى، مع انهيار البنية التحتية والصادرات والاستهلاك فى البلاد، بحسب بيانات صادرة عن مكتب الإحصاءات الأوكرانى.
وتشير التوقعات إلى أن الاقتصاد الأوكرانى سيسجل انكماشًا بنسبة 35% هذا العام، وذلك على الرغم من تضرر النشاط الاقتصادى جراء الدمار الذى لحق بالقدرات الإنتاجية، وتضرر الأراضى الزراعية، وانخفاض المعروض من الأيدى العاملة، حيث تشير التقديرات إلى نزوح أكثر من 14 مليون شخص، ووفقًا لتقديرات حديثة للبنك الدولى، فإن إجمالى احتياجات التعافى وإعادة الإعمار فى القطاعات الاجتماعية والإنتاجية والبنية التحتية تبلغ إجمالًا 349 مليار دولار على أقل تقدير، وهذا يمثل أكثر من 1.5 ضعف حجم اقتصاد أوكرانيا قبل الحرب فى عام 2021.
ثالثًا: ما هو تأثير الحرب الاقتصادى على المناطق المختلفة من العالم؟
للإجابة عن هذا التساؤل سيتم تقسيم العالم إلى قطاعات ثم نتناول تأثير الحرب على (أوروبا، اﻟﺸﺮق الأوسط وﺷﻤﺎل إﻓﺮﻳﻘﻴﺎ، جنوب إفريقيا، آسيا، وآسيا الوسطى)، والبلدان التى ستشعر بمزيد من الضغوط هى تلك التى لديها علاقات تجارية وسياحية وانكشافات مالية مباشرة، أما الاقتصادات التى تعتمد على الواردات النفطية فسوف تسجل معدلات عجز أعلى فى المالية العامة والتجارة، وستشهد ضغوطًا تضخمية بشكل أكبر، وإن كان ارتفاع الأسعار قد يعود بالنفع على بعض البلدان المصدرة للنفط مثل البلدان فى الشرق الأوسط وإفريقيا.
أوروبا:
تشهد القارة الأوروبية خسائر فادحة بالفعل إثر الحرب (الروسية – الأوكرانية)، وأكبر مثال ما تعانيه أوكرانيا الطرف الرئيسى فى الحرب، كما تعد الطاقة هى القناة الرئيسية المؤثرة بشكل كبير فى أوروبا بعد اندلاع الحرب، حيث تشكل روسيا مصدرًا أساسيًا لوارداتها من الغاز الطبيعى، وقد يترتب على ذلك أيضًا حدوث انقطاعات أوسع نطاقًا فى سلاسل الإمداد، بالإضافة لارتفاع التضخم وإبطاء التعافى من الجائحة، وسوف تشهد أوروبا الشرقية ارتفاعًا فى تكاليف التمويل وطفرة فى تدفق اللاجئين، حيث استوعبت معظم اللاجئين البالغ عددهم 3 ملايين نسمة وهم الذين فروا من أوكرانيا مؤخرًا.
وقد تواجه الحكومات الأوروبية كذلك ضغوطًا على المالية العامة من زيادة الإنفاق على تأمين مصادر الطاقة وميزانيات الدفاع، وقد عانت ألمانيا بالفعل من اندلاع هذه الحرب وبسبب أزمة الطاقة التى ضربت القارة العجوز على إثر الحرب، بسبب اعتمادها على واردات الغاز الروسى بنسبة 30% من أصل 60 حتى الآن، وهى تعمل على تنويع مصادرها للغاز الطبيعى المسال، خاصةً أن ألمانيا تعد هى القوة الاقتصادية الكبرى فى أوروبا، وأزمة الغاز أثرت على معدلات إنتاجها وصناعتها، لذلك اعترفت وزارة الاقتصاد الألمانية فى خطاب موجه إلى حزب اليسار الألمانى، بأنها ستظل عاجزة عن تعويض الغاز الروسى حتى عام 2026، بسبب محدودية قدرة تخزين الغاز المسال مقارنة بالاحتياجات.
كما سبق الإشارة إلى أن العقوبات غير المسبوقة التى تعرضت لها روسيا تضعف أنشطة الوساطة المالية والتجارة، وانخفاض سعر صرف الروبل يؤدى إلى ارتفاع معدل التضخم، مما يترتب عليه تراجع مستويات معيشة السكان، وبينما تُعد الانكشافات الخارجية للأصول الروسية الآخذة فى الهبوط محدودة بالمعايير العالمية، فإن الضغوط على الأسواق الصاعدة قد تزداد إذا سعى المستثمرون إلى البحث عن ملاذات أكثر أمانًا وبالمثل، تتسم الانكشافات المباشرة فى معظم البنوك الأوروبية لروسيا بأنها محدودة ويمكن التعامل معها.
الشرق الأوسط:
من المؤكد، أن بعض بلدان منطقة الشرق الأوسط، وخاصةً الدول العربية ستُواجه آثارًا فادحة من ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة وضيق الأوضاع المالية العالمية، أما ( لبنان، سوريا، الجزائر، وتونس ) ستُواجه هذه البلدان مصاعب فى توفير إمدادات الحبوب، وتحديدًا القمح والزيوت النباتية، لأن هذه البلدان تعتمد بشكل رئيسى على إمدادات القمح والحبوب من أوكرانيا وروسيا، مما يُعرّض أمنها الغذائى للخطر، ولا سيما فى لبنان الذى يعانى انهيارًا ماليًا خطرًا.
كما أدى ارتفاع الأسعار إلى زيادة التوترات الاجتماعية فى بعض البلدان، كتلك التى لديها شبكات أمان اجتماعى ضعيفة، وفرص عمل قليلة، وحيّز محدود للإنفاق من المالية العامة، وحكومات تفتقر إلى الشعبية.
شمال وجنوب إفريقيا:
من المعروف أن قارة إفريقيا تعتمد على القمح، حيث يثير ارتفاع أسعار القمح إلى مستويات قياسية المخاوف بشكل كبير فى منطقة تستورد نحو 85% من إمداداتها من هذه السلعة، وتأتى ثلث هذه الإمدادات إما من روسيا أو أوكرانيا.
وفى شمال إفريقيا تعتبر من أكثر الدول تأثرًا بهذه الأزمة “مصر” حيث إنها تعتمد على القمح المستورد من روسيا، هذا إلى جانب أن الروس والأوكرانيين يمثلون نسبة كبيرة من السياح فى مصر، فبالتالى لهم تأثيرهم على الدخل من السياحة، وسنوضح بالتفصيل وضع الاقتصاد المصرى بعد اندلاع الحرب.
آسيا وآسيا الوسطى:
من المرجح أن يكون تأثير حرب روسيا على المنطقة محدودًا نظرًا لعدم وجود علاقات اقتصادية قوية بينهما، ولكن بطء النمو فى أوروبا سيخلف آثارًا فادحة على كبرى البلدان المصدرة.
أما أكبر الآثار على الحسابات الجارية فسوف تظهر فى اقتصادات رابطة أمم جنوب شرق آسيا (آسيان) المستوردة للنفط والهند والاقتصادات الواعدة ومنها بعض جزر المحيط الهادئ؛ وقد تزداد فداحة هذه الآثار بسبب تراجع السياحة فى البلدان المعتمدة على الزيارات الروسية.
وبالنسبة للصين، من المتوقع أن تكون الآثار المباشرة أصغر نظرًا لدفعة التحفيز المالى التى ستدعم هدف النمو لهذا العام وهو 5.5%، فى حين أن مشتريات روسيا من الصادرات الصينية قليلة نسبيًا ومع هذا، فارتفاع أسعار السلع الأولية وضعف الطلب فى كبرى أسواق التصدير يضيفان إلى التحديات التى تواجهها.
وهناك تداعيات مماثلة فى كل من اليابان وكوريا، وقد يؤدى تقديم دعم جديد على النفط فيهما إلى تخفيف تلك الآثار؛ وفى ظل ارتفاع أسعار الطاقة، سيرتفع التضخم فى الهند والذى بلغ بالفعل الحد الأعلى للنطاق الذى يستهدفه البنك المركزى.
ويُتوقع تراجع ضغوط أسعار الغذاء فى آسيا بفضل الإنتاج المحلى والاعتماد على الأرز أكثر من القمح، أما الواردات من المواد الغذائية والطاقة المكلفة فسوف ترفع الأسعار للمستهلكين، لكن الدعم والحدود العُليا المقررة لأسعار الوقود والغذاء والأسمدة قد تخفف من تأثيرها المباشر، وإن كانت المالية العامة هى التى ستتحمل تكاليفها.
رابعًا: هل هناك دول فى العالم استفادت من هذه الحرب وأثرت على اقتصادها بشكل إيجابى؟
هناك دول بالفعل استفادت من هذه الحرب منها جورجيا والهند ودول الخليج وغيرها من الدول، وتحديدًا جورجيا فقد استفادت من الحرب التى انعكست على اقتصادها بالإيجاب، فقد هاجر ما لا يقل عن 112 ألف روسى إلى جورجيا فى 2022، وحقق الاقتصاد الجورجى نموًا بنسبة 10% فى عام 2022، وبعد أن قام بمراجعة تقديراته مرة أخرى هذا الشهر وجد أنه زاد أكثر من ثلاثة أضعاف توقعاته البالغة 3% من أبريل “حسب صندوق النقد الدولى”.
كما ارتفعت العملة المحلية “اللارى الجورجى” بقوة أمام الدولار بنسبة 15% خلال 2022، وفى الفترة بين فبراير وأكتوبر، قام المهاجرون من روسيا بتحويل نحو 1.41 مليار دولار إلى حساباتهم فى البنوك الجورجية، أى أكثر بنحو 4 أضعاف من 314 مليون دولار تم تحويلها عام 2021، بحسب بيانات البنك المركزى فى جورجيا، كما قام المهاجرون الروس فى جورجيا بفتح نحو 45000 حساب مصرفى حتى شهر سبتمبر.
ومن أبرز القطاعات التى استفادت فى جورجيا من الوافدين الروس، هو قطاع العقارات، حيث ارتفعت أسعار العقارات فى العاصمة “تبليسي” بنسبة 20% على أساس سنوى فى سبتمبر، وارتفعت المعاملات العقارية بنسبة 30%، وارتفعت الإيجارات بنسبة 74% خلال عام.
بالإضافة إلى ذلك، سُجلت 12 ألفًا و93 شركة روسية جديدة فى جورجيا بين يناير ونوفمبر فى 2022، أى أكثر من 13 ضعف العدد الإجمالى الذى سُجّل خلال العام 2021، وهذا وفقًا لمكتب الإحصاء الوطنى فى جورجيا.
أما الهند فقد استفادت من هذه الحرب أيضًا حيث حافظت على استغلال قيام الدول الأوروبية بوضع سقف للنفط الروسى، وقامت باستيراد النفط من روسيا بل وقامت روسيا بتخفيض سعر النفط لها.
أزمـــة الطاقة:
يعد قطاع الطاقة أحد أكثر القطاعات تضررًا جراء تداعيات الحرب (الروسية – الأوكرانية)، والتى تسببت فى أزمة طاقة خانقة، مُتمثلة فى ارتفاع أسعار الغاز والنفط إلى أعلى مستوياتها منذ ما يقرب من عقد من الزمان، إذ ارتفع سعر الغاز عالميًا فى يناير 2022 من 2.55 دولار أمريكى إلى 3.27 دولار أمريكى فى يوليو 2022، كما ارتفعت تكلفة برميل النفط فى منظمة أوبك إلى 114.3 دولار أمريكى، وقد أدى ذلك إلى ارتفاع معدلات التضخم والانكماش الاقتصادى على مستوى العالم.
وكان الاتحاد الأوروبى الأكثر تضررًا؛ إذ تأتى 41% من احتياجاته من الغاز الطبيعى و46% من احتياجاته من الفحم و27% من احتياجاته من النفط، عن طريق روسيا.
كيف استفادت الدول من هذه الأزمة ؟
تعد دول الخليج العربية ومجمل الدول العربية النفطية مثل ليبيا والعراق، وكذلك إيران، من أكبر المستفيدين من الأزمة (الروسية – الأوكرانية) حتى الآن، حيث تصب تلك التطورات فى مصلحتها، وذلك بعد 8 سنوات من الركود الاقتصادى الناجم عن انخفاض أسعار النفط وجائحة كورونا، ويتوقع صندوق النقد الدولى تحقيق الدول المصدرة للنفط فى الشرق الأوسط عائدات من النفط بقيمة 1.3 تريليون دولار إضافية خلال السنوات الأربع القادمة، مما يعنى أن دول الخليج سيكون لديها فوائض فى الميزانية للمرة الأولى منذ عام 2014، فضلًا عن تسارع النمو الاقتصادى بشكل كبير.
وينطبق الأمر أكثر على إيران التى ازدادت قيمة صادراتها القليلة من النفط، وازدادت حاجة الغرب لتسريع إحياء الاتفاق النووى معها، كما تراجع انشغال أمريكا بالتصدى لخططها لتوسيع نفوذها فى الدول العربية، لاسيما العراق؛ لكن على الجانب الآخر، لا يخلو الأمر من بعض الأضرار القليلة أو المحتملة على المدى البعيد.
وأول الآثار القريبة انتقال آثار التضخم لجيوب مواطنى الدول النفطية، مما يستلزم معه رفع الأجور والامتيازات المالية، كما أن زيادة إيرادات النفط تؤخر عادةً فى الدول الخليجية خطط الإصلاح والترشيد وإيجاد بدائل للبترودولار، فقد قفزت أسعار النفط بشكل كبير، وحققت كثير من ميزانيات هذه الدول فوائض لأول مرة منذ أعوام بعد سنوات كورونا العجاف.
من المستفيدين أيضًا من أزمة الطاقة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث هاجم بعض مسؤولى الاتحاد الأوروبى إدارة الرئيس “جو بايدن” واتهموها بأنها تجنى ثروة من الحرب الروسية على أوكرانيا، وتحدث مسؤول أوروبى رفيع لصحفة “بوليتيكو” وقال: “فى الوقت الذى تعانى فيه دول الاتحاد الأوروبى اقتصاديًا على عدة أصعدة، تحقق الولايات المتحدة الكثير من الأرباح لأنها تبيع المزيد من الغاز وبأسعار أعلى، ولأنها تبيع المزيد من الأسلحة”.
وجاءت هذه التعليقات فى وقت شهدت فيه أوروبا غضبًا متزايدًا بسبب الدعم الحكومى الأمريكى لبعض القطاعات، وهو ما يؤثر بالسلب على الصناعات الأوروبية.
ودعا مسؤول السياسة الخارجية الأوروبية “جوزيب بوريل” واشنطن إلى الاستجابة للمخاوف الأوروبية، وقال: “إن أصدقاءنا الأمريكيين يتخذون قرارات لها تأثير اقتصادى علينا”.
كما أدى النزاع المتزايد حول قانون “بايدن” للحد من التضخم وهو حزمة ضخمة من التخفيضات الضريبية ودعم لبرامج الطاقة البديلة، إلى وضع المخاوف بشأن حرب تجارية على رأس جدول القضايا عبر الأطلسى مرة أخرى.
وقال الرئيس الفرنسى “إيمانويل ماكرون” إن ارتفاع أسعار الغاز فى الولايات المتحدة ليس “وديا”، ودعا وزير الاقتصاد الألمانى واشنطن إلى إظهار المزيد من التضامن والمساعدة فى خفض تكاليف الطاقة.
وبينما تحاول دول الاتحاد الأوروبى تقليل اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية، فإنها تتحول إلى الغاز الأمريكى، لكن السعر الذى يدفعه الأوروبيون هو ما يقرب من 4 أضعاف تكاليف الوقود نفسها فى أمريكا، ثم هناك الزيادة المحتملة فى الطلبات على المعدات العسكرية الأمريكية الصنع، حيث ينفد عتاد الجيوش الأوروبية بعد إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا.
وترفض واشنطن هذه الشكاوى مبررة أن ارتفاع أسعار الغاز فى أوروبا جاء نتيجة للغزو الروسى لأوكرانيا، وحرب “بوتين” بسلاح الطاقة ضد أوروبا.
وشدد مسؤول أمريكى على أن تحديد أسعار الغاز للمشترين الأوروبيين يعكس قرارات السوق الخاصة، وليس نتيجة لأى سياسة أو إجراء للحكومة الأمريكية، وأضاف أنه فى معظم الحالات لا يذهب الفرق بين أسعار التصدير والاستيراد إلى مصدّرى الغاز الطبيعى المسال فى الولايات المتحدة، لكن إلى الشركات التى تعيد بيع الغاز داخل الاتحاد الأوروبى، وأكبر مالك أوروبى لعقود الغاز الأمريكية الطويلة الأجل هو “توتال الفرنسية”، على سبيل المثال.
فى النهاية، فى محاولة لإيجاد حل وقَّع الاتحاد الأوروبى صفقات غاز مع مصر وإسرائيل، وكلاهما يطمح لأن يكون مركزًا للغاز الطبيعى فى المنطقة، وفى زيارة لباريس الشهر الجارى، وقع رئيس الإمارات الشيخ “محمد بن زايد” اتفاقية تضمن تصدير الديزل من الإمارات إلى فرنسا.
ويشير “هوسى” إلى أن أوروبا باتت تتجه للاعتماد على إفريقيا فى صادرات الغاز الطبيعي، فى مقابل بناء محطات غاز جديدة لجنوب إفريقيا، وتأتى هذه المساعى فى ظل ما تعانيه القارة السمراء من نقص خطير فى الوصول إلى الكهرباء والطاقة بجميع أنواعها.
وفى هذا السياق، يعد قرار الاتحاد الأوروبى بمنع بيع السيارات الجديدة العاملة بالوقود الأحفورى، سواء الهجينة أو العاملة بالكامل به، تطورًا مثيرًا للقلق لمجمل الدول النفطية فى العالم، منها روسيا ودول الخليج المصدّران الأكبر للنفط.
خامسًا: كيف لهذه الحرب أن تؤثر على الاقتصاد المصرى؟
لقد تأثر الاقتصاد المصرى مثله مثل باقى الاقتصادات العالمية بسبب اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وأدت تداعيات الحرب إلى تراجع معدلات تنفيذ خطة الإصلاح الاقتصادى التى كانت تسعى لها مصر منذ عام 2016، حيث بدأت المناوشات بين روسيا وأوكرانيا منذ عام 2014، وقدرت التكلفة المباشرة وغير المباشرة للحرب بـ 465 مليار جنيه.
وقد سجل معدل النمو الاقتصادى فى مصر قبل وقوع الأزمة 6.4%، وبعد الأزمة أصبح يسجل 5.5%، أى انخفض بمعدل 1%، أما بالنسبة للتضخم فى مصر قبل الأزمة فكان يسجل من 7 إلى 7.5%، ولكن بعد الأزمة أصبح يسجل 10%، وليرتفع معدل التضخم بنسبة 3% تقريبًا، وهى نسبة مرتفعة ولها تأثير كبير على تحريك أسعار السلع والخدمات، والتى تنعكس مباشرة على ضعف القدرة الشرائية للمصريين.
كما أثرت الحرب أيضًا على احتياطى النقد الأجنبى فى مصر الذى تراجع مسجلًا أدنى مستوى له فى أغسطس عند 33.14 مليار دولار من 41 مليار دولار فى فبراير، وانخفضت قيمة الجنيه 3 مرات فيما يعرف بـ “التعويم للجنيه المصرى”، وزيادة قيمة الدولار أمام الجنيه المصرى بمعدل 75%، ورفع الفائدة 800 نقطة أساس، وقد سجل معدل التضخم الأساسى نهاية يناير الماضى 31.2% على أساس سنوى، كما خرجت استثمارات للأجانب فى أدوات الدين بقيمة 22 مليار دولار.
ولهذا السبب لجأت مصر للاقتراض من صندوق النقد الدولى فى محاولة منها للخروج من الأزمة، بالحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار، وذلك سعيًا منها لوضع خطة لإصلاح ما أفسدته الحرب على المستوى الاقتصادى.
تأثير الحرب على السياحة فى مصر:
تحتل روسيا وأوكرانيا المركزين الأول والثانى فى ترتيب عدد السائحين الوافدين إلى مصر خلال الفترة من يوليو 2021 حتى يناير 2022، وفى هذه الفترة سجل حجم السائحين القادمين لمصر من روسيا وأوكرانيا نحو 31 % من إجمالى عدد السائحين، وبلغ عدد السائحين القادمين من روسيا إلى مصر خلال هذه الفترة نحو 1.111 مليون، ونحو 793.9 ألف سائح أوكرانى لمصر.
سادسًا: ما هو تأثير الحرب على الأمن الغذائى؟
جاء اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية ليعمق من أزمة الغذاء العالمية والمضطربة بالأصل نتيجة لتداعيات انتشار «كوفيد ١٩»، وتهدد تلك الأزمة جميع دول العالم وخاصة الدول النامية فى إفريقيا، وتجعلها تعانى من ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع أسعار المواد الغذائية، وذلك بسبب الدور الكبير الذى يلعبه طرفا الصراع “روسيا وأوكرانيا” فى إمداد الأسواق العالمية بالمواد الغذائية خاصة الإستراتيجية كالقمح والذرة.
وعلى سبيل المثال، تعد روسيا أكبر مصدر عالمى للقمح، حيث تصدر نحو ٣٢.٩ مليون طن، أو ما يعادل ١٨٪ من الشحنات العالمية، فيما تعد أوكرانيا سادس أكبر مصدر للقمح عام ٢٠٢١، حيث صدرت ٢٠ مليون طن بحصة سوقية عالمية تبلغ ١٠٪، بالتالى تعد هذه المنطقة من أهم مناطق سلال الخبز حول العالم.
وفى ضوء التداعيات السلبية للحرب الروسية فى أوكرانيا، تأججت أسعار الغذاء فى السوق الدولية لعدة أسباب منها: تعطيل صادرات الغذاء والحبوب من طرفى الصراع، فضلًا عن تهديدات تخص نقله وما يتطلب من أمن للسفن والعاملين فى الزراعة والنقل، وكذلك تقلبات أسعار الصرف العالمية، وارتفاع تكاليف النقل والشحن، وارتفاع الأسعار العالمية للطاقة، وارتفاع أسعار الأسمدة، وكذلك انخفاض المحاصيل والمساحة المزروعة فى روسيا وأوكرانيا بسبب الحرب، وكذلك حظر الصادرات من بعض المحاصيل الغذائية فى بعض الدول كالهند من أجل تلبية الاحتياجات المحلية، وكل تلك العوامل أثارت قلق العديد من الدول التى تعتمد على الصادرات الغذائية القادمة من روسيا وأوكرانيا، فى تلبية احتياجاتها ودفع فاتورة باهظة على الصعيد الاقتصادى عمومًا، وعلى صعيد الغذاء خصوصًا.
خريطة توضح حصة واردات القمح من روسيا و/أو أوكرانيا فى بلدن أفريقية مختارة، المصدر: وكالة سويس إنفو
ثـانـيًـا: الــصــعــيــد الــســيــاســى
تــــســــخـــيــــن بــــؤر الــــصــــراعــــات
يعد أحد أبرز تداعيات الحرب (الروسية – الأوكرانية)، هو إثارتها للصراعات المجمدة فى عدة مناطق وذلك على النحو التالى:
تــايــوان:
ارتفعت المقارنات بين تايوان وأوكرانيا منذ بدء الحرب، وبطبيعة الحال، فإنهم يقدمون بعض الأرضية للمقارنة، ومنها أن كليهما يشتركان فى تاريخ سياسى طغت عليه علاقة معقدة مع جيرانهما من القوى الكبرى، وبالتالى زادت الحرب (الروسية – الأوكرانية) المخاوف من غزو الجزيرة، وعليه تم توفير مرحلة غير مسبوقة لتايوان من الاهتمام الدولى المتزايد لشواغلها الأمنية، وقد أعربت بكين رفضها المقارنة بين تايوان وأوكرانيا خلال تصريحات صدرت على لسان الناطقة باسم الخارجية الصينية “هوا تشون ينغ” فى فبراير 23 من العام الماضى، إذ أكدت أن أى مقارنة فى هذا السياق تظهر “غياب الفهم الأساسى لتاريخ قضية تايوان”، مضيفة أن “تايوان ليست أوكرانيا، إنها جزء لا يتجزأ من أراضى الصين وهذه حقيقة لا جدال فيها.
واتهمت “هوا تشون ينغ” السلطات فى تايوان بمحاولة استغلال الأحداث المتسارعة فى أوكرانيا لصالحها، على حد وصف المتحدثة، وبالتالى فإن الصين تعتبر تايوان إقليمًا متمردًا لابد من أن يعود يومًا ما إلى كنف “الوطن الأم”.
وقد أدى ذلك إلى تصعيد متبادل من الجانبين الأمريكى والصينى، إذ حذرت الولايات المتحدة الأمريكية الصين من اتخاذ أى إجراء ضد تايوان، مهددة باتخاذ إجراءات مماثلة لتلك التى تم اتخاذها ضد روسيا، بالإضافة إلى إعلانها استعدادها التام للدفاع عنها وتقديم الدعم العسكرى الذى تحتاجه لردع الصين، كما زارت “نانسى بيلوسى” رئيسة مجلس النواب الأمريكى السابقة، مما أدى إلى احتجاج الصين بشدة على تلك الزيارة، واصفةً إياها بأنها عمل استفزازى متعمد، وقال بيان لوزارة الدفاع الصينية إن هذه الخطوة تنتهك بشكل خطير مبدأ الصين الواحدة، وتقوض الأساس السياسى لعلاقات الصين مع أمريكا، وتصعد التوترات عبر مضيق تايوان؛ وكان من ضمن ردود فعل الصين على الزيارة إجراء مناورات عسكرية بحرية وجوية ضخمة فى محيط تايوان، وقد قدمنا تصورًا أوليًا لما قد تمثله حملة عسكرية فعلية لبكين على جارتها الصغيرة، ورسالة هذه المناورات مفادها أنه فى حال حدوث تجاوز للخطوط الحمراء يمكن للصين أن تستخدم القوة إذا لزم الأمر للاستحواذ على تايوان.
جــزر الــكــوريــل:
يبدو واضحًا أن تداعيات الأزمة الأوكرانية السلبية لا تقتصر على تأجيج الصراعات الآسيوية المتعلقة بالصين فقط، بل باتت تطال مختلف بؤر التوتر وخطوط الالتماس التقليدية بين القوى الدولية الكبرى، ليشمل الصراع الروسى اليابانى حول جزر “الكوريل”، حيث سيطر الجيش السوفيتى على تلك الجزر فى الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، ولم تتم إعادتها منذ ذلك الحين إلى طوكيو التى تسميها “الأقاليم الشمالية”، وقد تسبب تأييد طوكيو لأوكرانيا وانضمامها إلى الدول التى وقعت عقوبات اقتصادية صارمة على موسكو فى إنهاء الأخيرة لمشاركتها من مباحثات السلام مع اليابان حول جزر “الكوريل”، والتى كانت تجرى بشكل متقطع منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث أعلنت روسيا فى بيان للخارجية الروسية تعليق المحادثات مع اليابان بشأن معاهدة السلام نتيجة لاستحالة مناقشة توقيع وثيقة تأسيسية بشأن العلاقات الثنائية مع دولة مواقفها غير ودية. ويرجع التصعيد المفاجئ من جانب موسكو فى هذا الملف وإن كان مرتبطًا بشكل أساسى بموقف طوكيو المؤيد لكييف، إلى أنه يرتبط كذلك برواسب تاريخية واستراتيجية ترسخت خلال العقود الماضية حول سلسلة الجزر التى بات يتزايد أهميتها بالنسبة لكلا الطرفين مع مرور السنوات، وعليه ازداد موقف هذا الملف تعقيدًا عقب إعلان موسكو مؤخرًا الانسحاب من المفاوضات مع اليابان بشأن هذه الجزر.
ســـوريـــا
يمثل المشهد السورى حاليًا ساحة خلفية للمناورات والضغط من قبل الفاعلين المؤثرين فى الملفين الأوكرانى والسوري، حيث إن استمرار الاستنزاف العسكرى والاقتصادى لروسيا فى أوكرانيا قد يفتح الباب أمام توازنات جديدة فى سوريا، وذلك فى ظل تواجد عسكرى لأمريكا وروسيا فى الشمال السوري، واللذان يقومان بتسيير دوريات فى مناطق نفوذهما بالتعاون مع القوات والميلشيا السورية المتحالفة معها، وهو ما قد ينذر باحتمالية وقوع حوادث بين القوات المتواجدة هناك، فالولايات المتحدة بسوريا تمتلك 28 موقعًا منها 24 قاعدة عسكرية، 4 نقاط تواجد، وتضم أكثر من ألفى جندي، كما أن روسيا تمتلك قاعدتين عسكريتين إحداها جوية فى قاعدة “حميميم” والأخرى بحرية فى قاعدة “طرطوس” والتى تعد الوحيدة لروسيا فى البحر الأبيض المتوسط، بالتالى فإن الساحة السورية من الممكن أن تتحول إلى ساحة للصدام بين القوى الدولية والإقليمية المتصارعة فى الميدان السوري.
كما أن احتمالية انشغال روسيا بشكل أكبر فى أوكرانيا وتعرضها لمزيد من الاستنزاف العسكرى والاقتصادى تعتبر فرصة سانحة لتغيير بعض خطوط السيطرة على الأرض بالنسبة للعديد من الدول الإقليمية وعلى رأسها إيران والتى قد تتحرك لملء الفراغ الروسى المحتمل فى سوريا خصوصًا فى ظل خسائر الجيش الروسى فى أوكرانيا، كذلك قد يطرأ تغير محتمل فى السياسة الروسية تجاه تقييد حرية إسرائيل فى العمل فى الأجواء السورية، وذلك إذا ما تبنت الأخيرة مواقف فى الأزمة الأوكرانية تغضب موسكو.
تــزايــد اخــتــبــارات الأســلــحــة لــكــوريا الــشــمــالــيــة:
استفادت كوريا الشمالية من أحداث الحرب (الروسية- الأوكرانية) فى تصعيد الضغوط على الخصوم الإقليميين، أى جارتها الجنوبية واليابان، وتصدير تهديدات أمنية لهم، وذلك عبر تسريع تطور أسلحتها وتزايد إجراء تجارب صاروخية جديدة، مستغلة تشتت أذهان العالم نحو الحرب فى أوكرانيا، بالإضافة إلى المشاحنات القائمة بين الصين والولايات المتحدة بشأن تايوان، فضلًا عن الانقسام فى مجلس الأمن الدولى؛ فقد وفر اعتراض “بيونغ يانغ” على قرار الأمم المتحدة بإدانة الغزو الروسى لأوكرانيا غطاءً دبلوماسيًا لها، حيث منعت روسيا والصين محاولات الولايات المتحدة للتشديد على الأسلحة الكورية الشمالية التى تقوم بتجربتها، بما فى ذلك الصواريخ قصيرة المدى التى يمكن أن تكون قادرة على حمل رؤوس نووية، فضلًا عن الصواريخ الباليستية العابرة للقارات التى يمكنها استهداف أراضى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها؛ إذ دائمًا ما تصرح “بيونج يانج” بأنها تختبر أسلحتها المتقدمة كى تتمكن من ضرب أهداف رئيسية فى الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الجنوبية بلا رحمة إذا أرادت ذلك؛ وهو ما جعل رئيس كوريا الجنوبية يدعو الولايات المتحدة الأمريكية واليابان إلى العمل معًا لإقناع كوريا الشمالية بأنها لن تكسب شيئًا من وراء برنامجها النووى والصاروخى.
ســبــاق الــتــســلــح
على الرغم من التأثيرات السلبية للحرب (الروسية – الأوكرانية) على عدة قطاعات، إلا أن تأثيرها الإيجابى كان فى قطاع الصناعات الدفاعية والتسليح والذى شهد نموًا واسعًا على خلفية استمرار المعارك العسكرية وكذلك التغيرات الإستراتيجية العسكرية التى تشهدها العديد من الدول، وكل هذا تسبب فى سباق تسلح استعدادًا لما هو قادم فى إطار تداعيات وانعكاسات الحرب (الروسية – الأوكرانية).
وبعد فترة من “الكساد” فى سوق السلاح العالمى نظرًا لانهيار الاتحاد السوفيتى فى أوائل تسعينات القرن الماضى نتيجة لتوقف سباق التسلح، إلا أن الحرب الدائرة الآن وتداعياتها قد أنعشت تلك الأسواق، وصارت هناك حاجة قوية لإعادة تنشيط صناعة الأسلحة لتوفير أولًا: ما تحتاجه أوكرانيا وكذلك الدول المحاذية لروسيا والتى تخشى من غزو روسى لها، وثانيًا: المتطلبات الدولية نتيجة للتصعيدات والتحالفات والإستراتيجيات العسكرية الجديدة.
فبعد أن بدأت هذه الحرب بتحفظ دولى على مد أوكرانيا بالأسلحة الثقيلة والمتطورة، تحول هذا الموقف لاحقًا إلى جهود غربية مكثفة، لإمداد أوكرانيا بما تحتاجه من أسلحة بعد تعهد عدة دول أوروبية وعلى رأسها ألمانيا بتقديم دبابات من طراز “ليوبارد ٢”، والمملكة المتحدة بتقديم دبابات من طراز “تشالنجر٢” والولايات المتحدة بتقديم دبابات من طراز “إم ١ أبرامز”، وغيرها من الأسلحة المتقدمة فى مجال أنظمة الدفاع الجوى وراجمات الصواريخ بعيدة المدى، والمدافع، والأسلحة المضادة للدبابات، إلى أوكرانيا لمواجهة الآلة الحربية الروسية، وفى مقابل ذلك قامت روسيا بدفع أسلحتها الحديثة والمتطورة رويدًا رويدًا ف فى معاركها ضد أوكرانيا وكذلك لمواكبة الأسلحة الغربية لدى كييف.
كما أن روسيا وعلى الرغم من معاناتها فى الحرب الحالية وبالأخص فى مسار نقص المعدات العسكرية، إلا أنها وعلى صعيد سباق التسلح وصناعة الأسلحة سوف يكون لها دور مهم، وذلك فى توفير الأسلحة وبيعها لدول العالم الثالث بهدف إنعاش اقتصادها، والذى يعانى من العقوبات الغربية، لكن هناك العديد من المعوقات تواجه الخطوات الروسية، منها أثر تلك العقوبات وانعكاسها على قدرتها فى استيراد بعض المكونات الرئيسية لصناعتها العسكرية، كما أنها بحاجة إلى تعويض خسائرها فى العتاد العسكرى نظرًا لاستعداداتها لمعركة “الربيع” قبل أن تقوم بتصديرها للخارج، بجانب قلق الدول المستوردة للسلاح الروسى من فرض عقوبات عليها، وتلك معوقات قد تجعل العديد من الدول خصوصًا تلك التى اعتمدت تمامًا فى تسليحها على السلاح الروسى فقط للبحث عن موردين جدد لسد احتياجاتها من السلاح، ومن هنا فلابد من الإشارة إلى أن مصر قد أدركت تلك الخطوة مسبقًا وقامت بتنويع مصادر تسليحها من عدة دول أبرزها أمريكا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا.
كما عززت دول إقليمية أيضًا عملية تنشيط سوق السلاح، فقامت تركيا بإمداد أوكرانيا بطائراتها المسيرة “بيرقدار تى بى 2” والتى تسعى إلى تسويقها وبيعها للعديد من الدول، خاصة دول الاتحاد الأوروبى المحاذية لروسيا، كما قامت إيران فى المقابل بإمداد روسيا بطائراتها المسيرة “شاهد 136” والتى أشارت إلى أن هناك 22 دولة تقدمت بطلبات شراء طائراتها المسيرة.
وتزامن هذا فى ظل خطوات غير مسبوقة من بعض الدول وعلى رأسها ألمانيا واليابان فى إعادة تخطيط إستراتيجياتها العسكرية، بما يشمل ذلك من رفع ميزانياتها العسكرية وتوفير احتياجاتها من التسليح وعقد التحالفات العسكرية بما يتلاءم مع تداعيات الحرب (الروسية – الأوكرانية) ونتائجها المستقبلية، هذا بجانب المساعى الصينية لتعظيم قدراتها التسليحية – العسكرية – بتحديث قواتها المسلحة بشكل كامل بحلول عام 2035، وإشارة الرئيس الصينى “شى جينبينغ” إلى أن قوات بلاده المسلحة عليها أن تصبح قوة عسكرية متفوقة عالميا بإمكانها خوض الحروب وتحقيق النصر فيها بحلول عام 2049، وما يشكل ذلك من تهديدات على المسرح الآسيوى المضطرب بشكل خاص، وتنامى إمكانات منافستها للولايات المتحدة الأمريكية وخاصة فى منطقتى المحيطين الهندى والهادى.
وبالتالى وعلى هامش تداعيات الحرب الدائرة، صار هناك عسكرة للنظام الدولى، ومن أبرز معالمه التلويح باستخدام الأسلحة النووية، وتطوير الإستراتيجيات الدفاعية، وزيادة حجم الانفاق العسكري، وتنظيم المناورات العسكرية برسائل سياسية، وزيادة التصعيد العسكرى فى عدة بؤر أخرى للصراع منها شبة الجزيرة الكورية وجنوب شرق آسيا، وهو ما يهدد بتعميق الخلافات والصراعات بين الدول وله تأثيرات سلبية واسعة النطاق إلا أنه سيدعم بالتأكيد سباق تسلح طويل الأمد.
تنامــــى الإرهــــاب والـــتـــطـــرف
صرحت القيادة الروسية أن من ضمن أهدافها من عمليتها العسكرية فى أوكرانيا هو القضاء على النازيين الجدد، وكان المقصود جماعات اليمين المتطرف التى يتصاعد نفوذها فى أوكرانيا مثل “كتيبة آزوف” والمكونة من قوميين ويمينيين متطرفين، والتى صنفتها موسكو “منظمة إرهابية”، على الرغم من كون تلك الكتيبة جزءًا من الحرس الوطنى الأوكرانى، والتى تمتلك مقاتلين محترفين ولها أسلحة ثقيلة خاصة بها.
ومع بدايات الحرب انقسم اليمين المتطرف فى أوروبا بين تأييد “موسكو وكييف”، بل وقدمت بعض تلك الجماعات المتطرفة المؤيدة لأوكرانيا المتطوعين للمشاركة فى القتال، ويعنى وجود مثل هذه الأبعاد القومية فى التنظيمات مع ممارستها للعنف تعمق الصراع وإطالة أمده، حتى وإن تم إجراء تسوية للحرب، فمن المحتمل أن تستمر الاتجاهات المتطرفة وتنامى خطاب الكراهية داخل المجتمع الأوكرانى.
كما استفاد تنظيم “داعش” الإرهابى من تداعيات الحرب، وهو ما انعكس على تنامى وجوده خاصة على الساحة السورية نتيجة انشغال الجانب الروسى بحربه فى أوكرانيا، وعلى سبيل المثال عودة “وحدات صائدى الدواعش” التابعة لشركة فاجنر الروسية من سوريا إلى أوكرانيا للمشاركة فى القتال، كما غاب قصف الطيران الروسى المتواصل على معاقل الإرهابيين، وكلها عوامل يحاول تنظيم “داعش” استغلالها لتوسيع نفوذه وجذب العديد من العناصر لتدعيم صفوفه، خاصة تسمتحمى العناصر الشيشانية والرافضة لموقف الرئيس الشيشانى المؤيد بشكل كامل لسياسات الرئيس الروسى فلاديمير بوتين.
ومن أبرز التداعيات على هذا الصعيد، إضعاف الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب على أساس ان انشغال القوى الكبرى بالجبهة الأوكرانية سيعزز فرص صعود النشاط الإرهابى، مع تنامى فرص تحول أوكرانيا إلى بؤرة إرهابية بما توفره من ملاذ آمن للإرهابيين لاستمرار حالة عدم الاستقرار الأمنى، وكذلك زيادة انتشار تيار اليمين المتطرف فى أوروبا ووصولهم إلى السلطة، فلقد أدت الحرب إلى تنامى هذه الظاهرة وصعوده للحكم فى عدة دول أوروبية، ومن أبرز تلك المؤشرات:
- خروج نتائج انتخابات إيطاليا التشريعية فى سبتمبر ٢٠٢٢، بصعود اليمين المتطرف إلى رئاسة الحكومة الإيطالية للمرة الأولى منذ عام ١٩٤٥ وذلك على يد حزب إخوة إيطاليا، والذى حصد ٥٩.٢٢٪ من المقاعد ٢٣٧ مقعدًا من ٤٠٠ مقعد.
- وفى انتخابات فرنسا التشريعية والرئاسية فى أبريل ويونيو ٢٠٢٢، حقق حرب التجمع الوطنى نتائج تاريخية بالانتخابات الرئاسية والتشريعية منذ إنشائه، فى مطلع السبعينات فقد حصد ٨٩ مقعدًا بالجمعية الوطنية وهى أعلى مقاعد حصل عليها الحزب.
- وفى انتخابات السويد التشريعية سبتمبر ٢٠٢٢، حقق حزب “ديمقراطيو السويد” ثانى أعلى نسبة تصويت من الأحزاب السويدية، وأعلى نسبة تصويت بين ائتلاف اليمين وهى ٢٠.٩٪ من المقاعد (٧٣ مقعدًا من ٣٤٩ مقعدًا).
- كما حقق حزب “فيدس” المجرى، وهو الذى حقق أعلى نسبة مقاعد لحزب يمينى متطرف فى برلمانات أوروبا بنسبة ٦٧.٨٤٪ من المقاعد (١٣٥ مقعدًا من ١٩٩ مقعدًا).
- كما شهدت ألمانيا أول محاولة انقلابية من منظمة «مواطنى الرايخ» والتى ضمَّت عسكريين وشخصيات عامة، وفى ألمانيا، والتى تُعتبر من أكثر الدول الأوروبية استقرارًا وديمقراطيةً وازدهارًا، تُعتبر دلالات غاية فى الأهمية، فهى تُعطى تصوُّرًا، عن تغلغل وتفاقم التطرف اليمينى فى أوروبا، وتنامى التيارات الشعبوية.
الخاتمة:
فى سياق تطورات الحرب (الروسية – الأوكرانية)، لم تعد التداعيات تؤثر فقط على طرفى الصراع بل امتدت إلى دول العالم أجمع، ومن المتوقع أن تمتد تداعياتها إلى أصعدة أخرى، خاصة بعد الإجماع الغربى على دعم أوكرانيا بكل الوسائل المتاحة لمواجهة روسيا وإستراتيجيتها مع غياب فرص حل الأزمة سياسيًا.
كما ألقت الحرب بظلالها على التنافس الدولى بين روسيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة وكذلك الصين، وذلك فى العديد من المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية لتوسيع نفوذها والبحث عن موارد وحلفاء لها، ففى المنطقة الإفريقية على سبيل المثال عقدت الصين أول مؤتمر للسلام فى القرن الإفريقى، وضخت المزيد من الاستثمارات كما وعدت بإسقاط ديون بعض الدول الإفريقية، فى حين قامت الولايات المتحدة باستضافة القمة الأمريكية الإفريقية والتى شهدت تحذيرًا أمريكيًا من أن نفوذ الصين وروسيا يمكن أن يكون مزعزعًا للاستقرار، فى مقابل ذلك تزايد بشكل واضح دور روسيا فى إفريقيا عن طريق شركة “فاجنر” الأمنية لاستغلال الفراغ الذى تركته فرنسا، بعد انسحاب قواتها من العديد من الدول الإفريقية، وصارت “فاجنر” الأداة الأمنية لتنفيذ السياسة الخارجية الروسية فى إفريقيا، وكل تلك المعطيات تشير إلى الأبعاد الأخرى لتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية والذى يشجع على الاستقطاب، وذلك فى ظل تراجع النظام الأممى الدولى أمام التحركات القائمة على حماية المصالح القومية السياسية والاقتصادية.
كذلك فإن تصريحات قادة روسيا وأوكرانيا والتى تؤكد استمرار المعارك مع احتمالية فتح جبهات جديدة سواء لروسيا والتى تنوى إعادة فتح جبهة كييف، وأوكرانيا والتى تنوى فتح جبهة فى شبه جزيرة القرم لاستعادتها مرة أخرى، وهو ما يعنى بالتالى استمرار تداعيات الحرب إلى أمد غير معلوم.