حسناء تمام كمال
مازال يعيش السودان حالةً من التأزُّم السياسي، إثر الخلاف الواقع بين مُكوِّنيْه «المدني، والعسكري»، حول الطريقة التي يُدار بها عملية الانتقال السياسي؛ الأمر الذي أُثير على خلفية الاتفاق بين هذه المُكوِّنات على الوثيقة والآلية الحاكمة للمرحلة؛ إذ يتبنَّى كل طرف خيارات يشكك الآخر في كوْنها ملائمة؛ الأمر الذي يستدعي الوقوف على الخيارات المتاحة لدى الأطراف؛ لإعادة الوقوف على أرضيةٍ مشتركةٍ.
في محاولةٍ للبحث عن هذه الأرضية المشتركة، جاء تطوُّرٌ آخر، متمثلٌ في إقرار نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول محمد حمدان دقلو، «حميدتي»، بفشل الحكم العسكري في السودان، منذ أكتوبر، وذلك إجابةً منه على سؤال، عمَّا إذا كان قادة الجيش «نادمين» على الخطوة التي يسمونها «تصحيح مسار»، قال «حميدتي»: «للأسف الشديد، نحن لم ننجح في التغيير، وحين تفكر في التغيير، يكون لديك هدف، ورؤية للتغيير، لكن للأسف الشديد، لم يتم الشيء الذي كان مخططًا له، وفشل الأمر، والآن سرنا نحو الأسوأ»، كما دعا «حميدتي» القوى السياسية للاتفاق على حكومة كفاءات مستقلة، تمثل كافة القوى في البلاد؛ للخروج من الأزمة، وقال: إنه سيدعم أيَّ شخصٍ يرغب في التقدُّم لقيادة البلاد، ومن ثمَّ، فإن «حميدتي» بهذا الشكل، يطرح خيارًا جديدًا لما يمكن أن يمثل مخْرجًا لحالة الشلل السياسي، الذي يعاني منه السودان.
أولًا: لماذا يقر «حميدتي» بالفشل ويدعم الخيار المدني؟
– التظاهرات المستمرة متعددة الأبعاد: ومنذ أكتوبر الماضي، لم تغِبْ التظاهرات عن الشارع، ومنذ مطلع يوليو، يشهد الشارع كثافةً وتوسُّعًا في حجم هذه التظاهرات، فقد عادت التظاهرات السياسية إلى الشارع، وتجدَّدت دعواتٌ لمليونية حول القصر الرئاسي؛ لذا وسَّعت السلطات الأمنية عمليات انتشارها في عددٍ من المواقع الحيوية، وقامت بإغلاق الجسور والطرق المؤدية لمحيط القصر الرئاسي، ومقر القيادة العامة للقوات المسلحة وسط «الخرطوم».
من ناحيةٍ أُخرى، تجري تظاهرات موازية في أقاليم السودان، ذات بُعْدٍ قَبَلَيّ، منها ما جرى بين قبيلتيْ «البرتي، والحوصة»؛ إذ وقعت أعمال العنف، بعد أن رفضت قبيلة «البرتي» طلبًا من قبيلة «الحوصة»، بإنشاء سلطة مدنية؛ للإشراف على الوصول إلى الأراضي، بجانب التظاهرات حول تنظيم استخراج وتعدين الذهب.
– فشل الاعتراف باتفاق «حمدوك، والبرهان»: فالاتفاق الذي وقع بين رئيس الوزراء – آنذاك- عبد الله حمدوك، وبين رئيس المجلس السيادي، عبد الفتاح البرهان، ترك البلاد في أزمةٍ مستمرةٍ، فمنذ توقيعه، ويتوالى الرفض له، وللإجراءات الاستثنائية، التي صدرت في 25 أكتوبر الفائت، من كافة القوى المدنية، على رأسها، «قوى الحرية والتغيير، وتجمُّع السودانيين المهنيين».
– عدم الالتزام باتفاق «جوبا»: فاتفاق «جوبا»، بالرغم من أنه قد أوقف الحرب بين الحكومة المركزية وحركات الكفاح المسلح، وهو الهدف الرئيسي والمكسب الجوهري، إلا أنه مازالت تحفظات الناس هنا أو هناك على اتفاق «جوبا» للسلام بمساراته المتعددة؛ بسبب تواضُع أداء قوات حركات الكفاح المسلح، في حماية النازحين، الذين من أجل حقهم في الحياة حملت تلك الحركات السلاح ضد نظام الإنقاذ، وعدم النجاح في الالتزام بالترتيبات الأمنية؛ للوصول لجيش مهني، يعكس تعدُّد السودان، بالإضافة إلى محاولة تجاوزه بالكامل، من خلال الاتفاق المُوقَّع في أكتوبر.
– تعدُّد المبادرات: فتحت مساحة الاختلاف بين الطرفيْن الساحة؛ للبحث عن مبادراتٍ أُخرى، سواء من منظمات «إقليمية، أو دولية»، وتجمُّعات اقتصادية، وكذلك مبادرات القوى المدنية، أهمها، مبادرة الهيئة الحكومية للتنمية بشرق أفريقيا «إيغاد»؛ لتسهيل الحوار بين كافة الأطراف؛ لإيجاد حل جذري للأزمة السودانية، لم تنجح أيٌّ من هذه المبادرات، على اختلاف مستوياتها، في الحصول على قبول كافة الأطراف.
وبالتالي، فإن حالة الخلاف حول الوثيقة الحاكمة للمرحلة، وتعدُّد المبادرات غير المكتملة، هو بمثابة تشتيت للمجهودات السياسية، وعرْقلة لمسيرة الاتفاق، ومن هنا، يجب التأكيد على ألَّا تقدم في المسار السياسي، دون أن يكون هناك وثيقة متفق عليها، سواء يجري ذلك بالتعديل على الوثائق الموقعة بالفعل، أو بالبحث عن بديل، لكن من الضروري، الالتفاف حول وثيقة واحدة.
ومن ثمَّ، فيمكن القول: إن اقتراح «حميدتي» بأن يتم تشكيل حكومة كفاءات، نابع من تقديره؛ لأن هناك حاجة لإعادة التوافق بين الفصيليْن بشكلٍ عامٍ، وحول الوثيقة الحاكمة للعملية الانتقالية بشكلٍ خاصٍ، وآلية إدارة المرحلة، بما فيها تشكيل الحكومة، وإجراء الانتخابات، وطرْح حكومة كفاءات في حد ذاته، يضمن مساحات متنوعة من التغيُّر، قد يتسع لتغيُّر الاتفاق الحاكم للمرحلة، أو يضيق ليشمل تغيرات شكلية.
ثانيًا: لماذا «حميدتي»؟ وأبرز ردود الفعل حوله
جاء تصريح «حميدتي» مفاجئًا للجميع، واختلفت حول فهمه القوى السياسية الداخلية، منهم من تعامل معه بتوجُّسٍ، والآخر تعامل مع بقدْرٍ من التصديق، وبين الاختلاف حول «التأييد، والتشكيك» في النوايا، كان أبرز ردود الفعل، التالي:
– التصديق: وربما يتمثل ذلك في وِجْهة نظر «حزب الأمة، وحزب الاتحاد الديمقراطي»، الذين يروْن أن التصريحات الأخيرة لنائب رئيس مجلس السيادة، وقائد قوات الدعم السريع «حميدتي» نابعة من تقدير صادق.
– التشكيك والترقُّب: وهذا ما يراه «حزب البعث العربي الاشتراكي»، فبحسبه، أن نائب رئيس مجلس السيادة، محمد حمدان دقلو، «حميدتي»، يُحاول أن يطرح نفسه مُخلِّصًا للسودان، ومنها، محاولات تأمين وجوده بطريقٍ ما، منها، تلك الطريقة التي تتمثل في الإقدام بعمل مبادرةٍ يترأسها المدنيون، فيما يقدر آخرون حديث «حميدتي» حالة استشعارٍ بالخطر من تحرُّكات «البرهان»، التي يمضي فيها بإرهاصاتٍ عن تشكيله حكومة مرتقبة، وأن «حميدتي» استعدَّ لخوْض غِمَار معركته مع قائد الجيش، بترتيباتٍ جديدةٍ، ارتأى بدايتها، بممارسة الديمقراطية، بتقديم نقْدٍ ذاتي لإجراءاتهم، ومن ثمَّ، الحديث عن زُهْده في السلطة.
وبالأخير: يمكن اعتبار حديث «حميدتي» نقطة انتقال من معسكر القوى العسكرية إلى معسكر القوى المدنية، برعايةٍ أُممية، وحديثه، محاولةٌ لتقديم نفسه لحكم البلاد، وِفْقَ ترتيباتٍ مُحدَّدة، تبدأ بتحسين صورته وتعزيز وضعيته، ويؤكد هذا، تصريحاته الأخيرة، بأن الخلاف بينه وبين «قوى الحرية والتغيير» بسيط، وأنهم أخوة.
من ناحيةٍ أُخرى، يرجح حديثه، أن هناك انقسامًا بداخل الصفِّ العسكري في السودان، وتنُمُّ عن خلافات بينه وبين رئيس مجلس السيادة، وقائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، بل وربما يكون الخلاف في مرحلةٍ متقدمةٍ، دفعت «حميدتي» إلى المجاهرة بآرائه، بعد أن كان يتكتَّم عليها، على الرغم من أنه كان طرفًا أساسيًّا في اتفاق أكتوبر.
ثالثًا: الوضع الداخلي وعلاقته بـ«سد النهضة»
في الآونة الأخيرة، تجري عدة تطورات خاصة بملف «سد النهضة»، منها، إخطار إثيوبيا لمصر بالملْءِ الثالث لـ«سد النهضة»؛ وبناءً عليه، تقرّر إعلان مصر اللجوء إلى مجلس الأمن مُجدَّدًا، وأعادت مصر التأكيد على حقها في حماية أمنها القومي.
لكون السودان أحد أطراف المعادلة الثلاثية، فهنا يأتي دور التغيُّرات الداخلية في تحريك الملفات الحيوية، وعلى رأسها، ملف «سد النهضة»، وهنا تطرح فرضية، أن وجود مُكوِّن مدني – حال تنفيذ ما طرحه «حميدتي»- سيؤثر بالطبع في إدارة ملف «سد النهضة»؛ لكونه سيضع سياستها الخاصة إزاء الملف.
وبالرغم من أن المُعْطيات تبدو نظريًّا منطقية، إلا أنها واقعيًّا بعيدة، فإن التأثير المتبادل بين الملفيْن مُسْتبعَد، فلا يمكن التعويل على ترأُّس الفصيل المدني المحتمل؛ وذلك لعدة أسباب، أهمها، أن الوتيرة التي تسير بها معادلة البحث عن تسوية لـ«سد النهضة» أسرع من الوتيرة التي يسير بها معادلة التغيُّر في السودان، ومن ثمَّ، فلا يتوقع أن تحدث تلك الدعوات في تحرُّكات إزاء «سد النهضة».
وربما ما يمكن التعويل عليه في هذا الملف، هو تحرُّكات القوى الكبرى المؤثر في الملف، خصوصًا في ظل حالة النشاط الأفريقي، التي تجريه القوى المختلفة في أفريقيا، منها، التحرُّكات «الأمريكية، والفرنسية، والروسية، والصينية»، والتي قد تكون وسيطًا في الضغط بين الأطراف نحو الحل.
رابعًا: السيناريوهات المطروحة
ينفتح المشهد السوداني على عددٍ من السيناريوهات جميعها وارد حدوثها أهمها ما يلي:
– استجابة جُزْئية للدعوة: ويرجح هذا السيناريو، أن يسارع الأطراف المصدقة لدعوات «حميدتي»، بتأييد «حميدتي»، وطرْح مبادرةٍ لاستكمال الفترة الانتقالية في البلاد؛ للاتفاق فيها على تشكيل حكومة كفاءات، ولجنة لإدارة الانتخابات، في يناير 2024، وهذا السيناريو مرجحٌ، خصوصًا في ظل حالة الاحتياج لإعادة تنظيم الصفوف، والوقوف على أرضية مشتركة، والاستفادة مما يبدو أنه حالة انقسام بين الجانب العسكري.
ويحتاج لإنجاح هذا السيناريو، أن يكون هناك قدرةٌ على إقناع كافة القوى المدنية بعدالة المبادرة المطروحة، بجانب إقناع المجلس السيادي من جهة أُخرى؛ الأمر الذي يجعل أمام هذا السيناريو تحديات كبيرة حتى ينجح.
– المقاطعة للدعوة: يرجح هذا السيناريو، أن تكون هناك دعوات لمقاطعة التنسيق مع «حميدتي»، وكما يرجح، أن تقود هذه الدعوات «قوى الحرية والتغيير»، مع إمكانية أن تطرح بمساعدة القوى الأُخرى مبادرةً موازيةً؛ لحل الأزمة السياسية، وهذا سيناريو غير مُسْتبعَد، غير أن نجاح هذه الطرف في الأخذ بزمام الحل، يُبْقي أمامه رهانات عدة.
– بقاء الوضع على ما هو عليه: ويفترض هذا السيناريو، استمرار تفاقُم الخلاف بين الأطراف المختلفة، حول التنسيق مع «حميدتي» حول طرْحه؛ ما يعني استمرار الوضع على ما هو عليه، من تظاهرات القوى المدنية من ناحية، وتعدُّد المبادرات غير القادرة على الحصول على توافُقٍ من ناحية أُخرى، مع استمرار الاختلاف حول الوثائق الحاكمة للمرحلة الانتقالية، وهذ السيناريو أيضًا غير مُسْتبعَد.